موريتانيا وقضية الإساءة للرسول

حجم الخط
8

لعب تاريخ موريتانيا على أطراف إفريقيا السوداء عاملاً كبيراً في التمييز بين الحكام والمحكومين فيها، وما لبث التمييز السياسي والعرقيّ أن توسّع ليصبح أشبه بنظام طبقات مغلق على نفسه، لا يميّز بين الحكام (العرب والأمازيغ المستعربين) والمحكومين من ‘الزوايا’ (أهل التعليم) و’الحراطين’ (أهل الزراعة) و’المعلمين’ (أهل الصناعات الحرفية) فحسب بل يحبس كل طبقة ضمن إطار لا تحيد عنه بما يؤسس لتناقضات اجتماعية ومعاناة من ازدراء كل طبقة للأخرى وتهميشها والإساءة اليها، بما يمنع الحراك الاجتماعيّ والارتقاء الطبيعي للإنسان، وهو أمر أقسى من الاستبداد السياسي لأنه مفروض بقوة العرف والاجتماع لا بقوة السياسة وحدها.
ولا يمكن فهم تداعيات الاحتجاجات على محمد الشيخ ولد امخيطير، المتهم بمقالة تسيء الى النبي محمد (والأحداث المستمرة التي تلتها)، من دون فهم هذا الوضع السياسي والاجتماعي الفريد لموريتانيا، فولد امخيطير، وهو من طبقة ‘المعلمين’، قام، انطلاقاً من وضعه الاجتماعي الهامشي، واحتجاجاً عليه، بانتقاد جوانب في التاريخ ليصل الى نتيجة مفادها ان المشكلة الطبقية في موريتانيا مبنية على سوابق تاريخية اسلامية، وهو تحليل يستلهم من أعمال كتاب ومفكرين اسلاميين وليبراليين وماركسيين، بينهم سيد محمود القمني وحسين مروة وأحمد عباس صالح وغيرهم كثيرون.
لكن ولد امخيطير، بطيش الشباب وتمرده، تعمّد أن يضغط على عصب حساس وخطير في المجتمع الموريتاني المسلم، وفتح أبواباً خطيرة لا يمكنه استيعاب نهايتها، فبفعلته تلك أثار مجددا الإحساس الواسع لدى الجمهور العام بالاستهداف الكبير الذي يتعرض له الإسلام، وفي هذا الظرف بالذات، تتحول أي قضية مثل هذه الى مجال للتحريض المنفلت وتهييج الغرائز اللاعقلانية والمزاودات السياسية بغض النظر عن حيثياتها وتفاصيلها.
وقد اختلطت ردود الدفاع عن الاسلام والنبي الكريم مع ردود أخرى من طبيعة طبقية فنسب البعض ما صدر عن مخيطير الى ‘عقدة الدونية’ كونه من طبقة ‘المعلمين’، والى أنه تقصد تفنيد بعض الموروث الثقافي الذي جعلت منه طبقة ‘الزوايا’ تراثاً مقدساً تستخدمه في سلطتها الدينية ضد ‘المعلمين’ ومن ذلك قولهم ‘لا خير في الحداد ولو كان عالما’.
ولا ندري في زمن ضياع الموازين هذا مدى فائدة التذكير باختلاف ردود الفعل الحاليّة عن أفعال النبي العربي الكريم التي لا تحصى مثل عفوه عن الشاعر كعب بن زهير الذي هجاه هجاء مقذعاً، فكان أن مدحه بعدها بقصيدة من عيون الشعر العربي، فالرسول لم يحكم على هاجيه بالقتل كما يفعل إسلاميو القرن الحالي مع خصومهم، وكان على عكس المدافعين عنه حالياً، يتعامل مع الناس بالحكمة والمغفرة ويؤلف قلوبهم ويستقبل توبتهم النصوح بالحسنى.
انتهزت أطراف عديدة القضية وقامت بتأجيجها كما اقتنصت السلطات الموريتانية الأمر، وتركته مزاداً مفتوحاً لتأجيج عاطفة الجمهور، كما ركبت على القضية مصالح تجارية، كما حصل من حرق هواتف شركة سامسونغ وغيرها.
دافعت منظمات حقوقية وسياسية موريتانية مثل ‘نجدة العبيد’ و’ضمير مقاومة’ و’رابطة النساء معيلات الأسر’ و’الرابطة الموريتانية لحقوق الانسان’ عن الشاب وطالبت باطلاق سراحه وتوفير الحماية له أما المهاجمون لكاتب المقال اعتبروه كافرا يستحق الإعدام ووصفوا المدافعين عنه بعملاء الغرب واسرائيل، وردّ المدافعون عنه بوصف الأولين ب’الظلاميين’ و’الاسلامويين’ و’التكفيريين’.
القضيّة برمّتها نموذج لآليات الاستقطاب السياسي العنيف الذي نشهد أمثلة يوميّة عليه في بلادنا والذي شقّ المجتمعات العربية نصفين يتذابحان حتى الموت بيافطتين مزورتين، فالمجتمع العربي لا تحلّ مشاكله الأيديولوجيات وحدها، بل بتقديم حلول لقضايا الشعب الحقيقية من سكن وغذاء ودواء وأمان وكرامة.
خطيئة ولد المخيطير انه أراد تغيير الواقع بنقد المقدّس، وهو منطق أهوج ولا تاريخي، فتغيير الواقع يتمّ بالعمل السياسي لا بمحاسبة وقائع تاريخية قديمة ارتبطت بالإسلام مما يفتح ابواب الاتهام بالردة والكفر ويحرف المشكلة عن طبيعتها الاجتماعية ويحوّلها الى قضية دينية بتوظيف سياسي غير محمود العواقب.
ورغم طابعها المحلي فلا يمكن للمرء إلا أن يضع القضية ضمن سياق عام يتعرض خلاله المسلمون والإسلام إلى هجمات عنيفة في كافة أنحاء العالم.
حركات الإسلام السياسي، وبالخصوص، جسمها الأكبر، جماعة ‘الإخوان المسلمين’، هي استجابة وردّ فعل لمحاولة الأنظمة المستبدة احتكار الإسلام وتدجينه لخدمة استبدادها وافراغه من معاني التغيير والعدالة الأرضية والسماوية، لكن القمع الشديد لاتجاهات الإسلام السياسي المعتدل والسلمي، ومفاقمة الأوضاع البائسة يؤدي بالضرورة الى ما نراه من إساءات للدين باسم الدين نفسه، ويتواجه فيه ردّ الفعل العنيف مع عنف الفعل القمعي، وهو أمر لا يؤدي الى نتيجة ايجابية، لا للشعوب ولا للإسلام ولا للدول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Almurabet:

    الذي يسيء الى رسول الله صلى الله وعليه وسلم يجب ان يتعاقب اشد العقاب والله سبحانه ارسل سيدنا محمد عليه افضل الصلات والسلام الا رحمة للعالمين ونشر الاخلاق الحميدة والصدق والامانة والمحبة بين الناس .

  2. يقول محمد لفويرس:

    المجتمع الصحراوي الذي أنتمي إليه تربطه بالمتجمع الموريتاني قواسم مشتركة كثيرة أو ما يصطلح عليه عموما بإسم مجتمع ” البيضان” .. وأعتقد بأن الفعل مدان بكل المقاييس كيفما كانت الجهة التي إقترفت هذا الفعل الشنيع .. المقدسات الدينية لا يمكن المساس بها لأنها جانب أساس من التراث العقائدي والتريخي لأمة معينة و التطاول عليها عو إهانة لتلك الأمة و لمن ينتمي إليها .
    غير أنني أود الإشارة بعجالة إلى أنه كان من الأجدى مناقشة موضوع التراتبية ” العنصرية” داخل المجمتع الموريتاني – و هو وليد ونتاج تراكمات تاريخية و تغييرات داخل التركيبة الإجتماعية في مراحل مختلفة من حياة مجتمع البيضان – كان من الأجدى مناقشته بعيدا عن الطرح الديني الإسلامي لأن الإسلام كرسالة خالدة برئ من التمييز والعنصرية والتراتبية على أساس العرق أو الجنس أو غير ذلك و لنا في مجموعة كبيرة من الأيات القرانية والأحاديث النبوية خير دليل على ذلك كقوله سبحانه وتعالي ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات: 13], و تشبيه المصطفى صلى الله عليه سلم للناس بأسنان المشط لأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح … و بالتالي فإن أي مقاربة مبنية على إتهام الموروث الديني الإسلامي بواقع المهانة و التمييز المتعمد التي تعيشه بعض الفئات الإجتماعية المشكلة للمجتمع الموريتاني – أتصور بأنها مقاربة غير موضوعية و غير سليمة .
    المقاربة البديلة -في نظري- هي مناقشة الموضوع في سياق وضع الأسس المتينة لبناء الدولة المدنية المبنية على إحترام المؤسسات و حقوق الإنسان و توسيع هامش الحريات العامة و مبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع .
    العالم العربي لايزال – رغم كل ما قيل عن الثورات العربية و عن نتائجها وإنعاكساتها – في مرحلة تيهان و حيرة لا يزال يتلمس طريقه المحفوف بالأخطار و المشاكل العويصة والتراكمات الموروثه منذ زمن الإستعمار والـأنظمة الإستبدادية التي حكمت بعده ….. و عليه فإن النقاش و النضال يجب أن يقتصر حاليا على مقاومة كل الرياح التي تريد تغيير مسار الثورات العربية و بناء مواقف متحدة لكل التيارات من أجل وضع تصور عام لأهدافنا الأنية . و أعتقد بأن الحل لكل تلك المشاكل التي نتخبط فيها في وقتنا الحالي هو بناء دولة مدنية تسع الجميع و تمن)ح الفرصة للجميع وتساوي بين المواطنين على أساس مبدإ تكافؤ الفرص .

  3. يقول سامح // الامارات:

    شكرا لقدسنا العزيزة ع المقال والتحليل الجميلين .
    * إذا كان فهمي صحيحا للموضوع ( بالمجمل ) …سبب معظم المشاكل
    سواء في ( موريتانيا ) أو الدول العربية والإسلامية …هو ( التطرف )
    * تطرف بالرأي …وتطرف بالرد ع الرأي .
    * زد ع ذلك : أي شخص ف العالم العربي شعر ( بالظلم ) و ( التهميش )
    وهاجم ( الدين ) أو الرسول الحبيب ( صلى الله عليه وسلم ) …فهو أحمق
    وغبي وجبان وحاقد وأهوج .
    * الدين والحبيب المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) دائما على حق وصواب
    والعيب كل العيب ف التطبيق الخاطيء لتعاليم الإسلام العظيم والإنحراف عن
    سنة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام .
    * يجب الإبتعاد كليا عن الإساءة الى الدين أو الرسول الكريم وفي نفس الوقت
    يجب أن تكون ردة الفعل …هادئة ومتزنة وعدم الإنجرار …للعنف والفوضى
    والتخريب …والتي هي أيضا مخالفة صريحة لتعاليم الدين السمحة الوسطية .
    حياكم الله وشكرا .

  4. يقول روستم شواني:

    لم يجني العرب والمسلمين من اللبرالية والعلمانية والديمقراطية سوى محاربة الاسلام ومظاهر الاسلام وما ان ترى يقوى عود هؤلاء اي العلمانين في بلد من البلدان العربية حتى ترى ان السجون تمتلئ بالدعاة والشيوخ ومصر وتونس خير دليل على ذالك

  5. يقول سالم عواد:

    نحن اتباع العقيدة الاسلامية نتعرض لهجمة شاملة وكاسحة من اعداء تلك العقيدة المعروفين لنا تاريخياا!! ومن هنا ليس امامنا سوى الصمود وعدم التساهل في مقاومتنا لأعداء الله!! عقيدتنا تمنحنا قدرا هائلا من العزيمة للتصدّي لهؤلاء المرتدين ولغيرهم ..
    قال الله تعالى (إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان)

  6. يقول Hassan:

    رأس النظام في موريتانيا يعتبر أيضا قد ساهم في الإساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك بالتصدي بالعنف الشديد من قبل قواته للموريتانيين الذين أرادوا التعبير عن استيائهم بأضعف الإيمان ألا وهو التنديد عبر مسيرة سلمية.

  7. يقول سعيد:

    تحليل عميق كسابقيه .. لقد عودنا الدكتورمحمد المختار الشنقيطي دائما على مثل هذه التحليلات الرصينة والموضوعية.. فهنيئا للقدس وللدكتور ولقطر ولرجال أعمالها على هذا الجهد المبارك.
    وإلى الأمام

  8. يقول حسين المغربي:

    استغلال الدين في استغلال البشر هو استغلال لايقل بشاعة عن كافة انواع الاستغلال لاننسى التاريخ السيء للمتاجرين باسم الدين من اجل مصالح ذاتية ضيقة وخاصة في مغربنا العربي ,ولنا في الفتوحات الاسلامية خير دليل , فنشر الاسلام في بلاد البربر الذي هو سبب نبيل صاحبته ممارسات اساءت للبربربتاريخهم وعاداتهم مما ادى الى حدوث ثورات واشهرها ثورة كسيلة البربري والكاهنه, نفس الممارسات تكررت مع الزنوج الذين ظلوا مسلمين من درجة ادنى بسبب لونهم فقط والخطا ليس في الاسلام بل هو في من يؤولون الاسلام حسب مصلحتهم,لذلك يمكننا ان نصف تصرف الكاتب الموريطاني بالاهوج ويجب معابته على تطاوله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولكن في نفس الوقت على الجهات المسؤولة وخاصة في موريطانيا انهاء مجتمع العبيد والسادة وتوفير سبل الحياة لكل مواطن حتى يعيش بكرامة ويعبر عن ما يختلج في صدره في اطار القانون

إشترك في قائمتنا البريدية