حكايات من مصر

في السادسة صباحا وصلت الى مطار القاهرة، وتحديدا الصالة رقم 3 المعروفة بـ’المطار الجديد’ التي انشئت عندما كان المرشح الرئاسي السابق احمد شفيق وزيرا للطيران، وطالما تباهى بها في احاديثه. كانت صالة الوصول مزدحمة بشكل لا اذكر انني رأيته طوال اكثر من عشرين عاما من الحل والترحال. كانت الطوابير الممتدة امام منافذ ختم الجوازات تشي باننا قد ننتظر لساعات. مسافرون عرب لهجاتهم شتى، واخرون اجانب، يتكدسون (رغم اتساع الصالة) في هذا الوقت المبكر الذي تخف فيه عادة حركة السفر بانتظار انهاء اجراءات الخروج.
ورغم علمي بوجود شباك خاص يمكن ان يستفيد منه الصحافيون للمرور سريعا، الا انني قررت ان (ابقى مع الشعب). وفجأة سمعت ضجيجا بالقرب من مقدمة الطابور التي لم اكن اراها، عدد من المسافرين الرجال من المصريين والعرب حاولوا انشاء طابور مواز لتفادي الانتظار لساعات، الا ان فتاة مصرية قررت ان تكسرالصمت، وتصدت لهم مستخدمة ‘الفاظا منتقاة’ من العامية المصرية، وسرعان ما انضمت اليها سيدة خليجية، وقررتا ان تطلبا الأمن، وهنا قرر رجالنا (الاشاوس) الانسحاب بهدوء الى المؤخرة. وبينما كنت اواصل رحلة الانتظار، تذكرت كيف ان هذا المشهد كان غير وارد قبل الربيع العربي. وكيف ان الاعتراض والاحتجاج اصبحا جزءا من الشخصية الوطنية، وان المرأة المصرية اصبحت تتصدر هذا التغيير الانساني والاجتماعي وليس السياسي فقط، رغم ما تواجهه من حملات اعلامية رخيصة احيانا. واخيرا اذا كان هذا مطار القاهرة بينما تمر مصر بمرحلة من الاضطرابات السياسية والامنية، فكيف سيكون بعد ان تنجلي هذه الغمة؟
في شوارع القاهرة، انت فريسة مستباحة للاعلانات، خاصة اذا وقعت في شراك ازمة مرورية خانقة، فلا تجد امامك الا تلك اليافطات التي اراد اصحابها لمجرد ان معهم ثروة ضخمة ان يحفروها في ذاكرتك.
وربما كان الامر مقبولا ان كانت اعلانات تقدم معلومات مفيدة من اي نوع. اما ان تجد نفسك امام شارع طويل تحتله صور الراقصة المعتزلة فيفي عبده بمناسبة انها بدأت تقديم برنامج (توك شو) في احدى المحطات الفضائية العربية (يلا بقى ما هي ظاطت)، وبصحبتها مغن فاشل قرر ان يبحث عن مجال اخر للاسترزاق.
وبجانب صور الراقصة والمغني، تجد صور مقدمين لبرامج سياسية من المفترض انهم يقدمون مادة تتسم بالجدية، وتعتمد كثيرا على المصداقية والمهنية، هنا لا تستطيع ان تفر من اسئلة: هل اصبح هناك فارق كبير بين اصحاب هذه الصور؟ وبين الرقص الاعلامي والرقص على وحدة ونص؟ ولماذ تنفق محطة غير مصرية عشرات او مئات الملايين على الترويج لبرامجها ومذيعيها (قيل لي والعهدة على الراوي ان تكلفة اليافطة الاعلانية الكبرى الواحدة تصل الى نصف مليون جنيه مصري)؟ هل السبب تجاري رغم ما يقال عن الانكماش الكبير في كعكة الاعلانات؟ أم انه وسيلة للترويج لاجندة سياسية معينة في بلد لا يحكمه رئيس ولا حكومة ولا مؤسسات بل تحكمه الـ’توك شوز’ (معلومة: شوز كلمة انكليزية تعني حذاء). واخيرا لماذ اصبح الاعلام مهنة من لا مهنة له؟ او من ضاق به الحال ويريد ‘اي شغلانة على ما تفرج’
على الرغم من انني كنت في زيارة قصيرة جدا، الا ان المناسبة الاجتماعية التي ذهبت لحضورها اتاحت لي لقاء اقارب واصدقاء من شتى انحاء مصر. وكان كل واحد منهم معبأ بالحكايات التي تستحق ان يفسح لها المجال بدلا من برنامج السيدة فيفي عبده.
عاجلني احد الاصدقاء بالسؤال التقليدي العريق في الثقافة المصرية: سمعت اخر نكتة؟ فاجبت لا وانا متفائل بنكتة قوية عن الاخوة الصعايدة او غيرها من النكات التقليدية، الا انني فوجئت به يقول: الرئيس المؤقت عدلي منصور قرر تكليف مستشاره الاعلامي باختيار الشباب الثوري ليلتقوا بالرئيس تمهيدا لانشاء ‘مفوضية شبابية’؟ ولكن اين النكتة في ذلك؟ قد يسأل البعض محقا. النكتة ان الرئيس المخلوع حسني مبارك كان طلب من هذا الشخص نفسه اثناء الثورة ان يكتب له مسودة خطاب يستعطف به الناس ليتركوه في الحكم. وربما لن نفاجأ كثيرا اذا اتضح قريبا انه ساعد الرئيس المعزول محمد مرسي في كتابة خطاب (الشرعية) الشهير. ولا يجب ان يصاب احد بالجلطة ان وجدوهم في بطانة الرئيس المقبل ايا كان اسمه. انهم اعلاميون لكل العصور.
وكأن هذا لا يكفي، فقد فاجأني قريب لي يعيش في احدى قرى محافظة الغربية بهذا السؤال؟ لماذا قامت الثورة؟ ولما امتنعت عن الاجابة اكمل، ألم تقم لمنع التوريث؟ ما فائدة الثورة اذا كان التوريث مازال على أشده؟.. هل تذكر جارنا المحامي فلان؟.. هل تذكر كيف كان يشكو مّر الشكوى من نجله المتعثر في كلية الحقوق وفي الحياة كلها بسبب كذا وكذا؟…ابشرك بأن هذا النجل اصبح وكيلا للنيابة بعد ان عثر له والده على واسطة كبيرة في نقابة المحامين؟ اكتفيت بالصمت. الا انه اصر على ان يواصل. انا لا يهمني لا سيسي ولا مرسي، انا علمت اولادي حتى تخرجوا من الجامعة واحدهم حصل على تقدير امتياز. هل تصدق انهم لم يعينوه معيدا في الكلية واختاروا نجل احد الاساتذة للوظيفة؟ وعندما احتججنا قالوا لنا انهم اتخذوا القرار بناء على نتيجة (الانترفيو) (..). هل من العدل ان يقعد اولادي المتفوقون الى جانبي عاطلين لمصلحة اولاد المحظوظين؟
وكأنما اراد احدهم ان يجعل ختامها مريرا كالصبر، فاذا به يتساءل: لماذا لا تقوم الثورة مرة واحدة لمصلحة من قاموا بها؟ لما لا نرى مرة واحدة انخفاضا في الاسعار يرحم الفقراء؟
قررت ان ازور معرض القاهرة في ساعاته الاخيرة رغم الانشغال الشديد. الازمة المرورية في ساعات الذروة جعلت الرحلة من حي المهندسين الى مقر المعرض في شرق القاهرة تستغرق نحو ساعتين، ما جعل سائق التاكسي يشفق عليّ، فقرر ان يحكي معاناته لعلي اتحمل الزحام الشديد. قال: بالامس خرجت المغرب اشوف رزقي. قعدت ادور بالتاكسي ساعتين ثلاثة مفيش ولا زبون عبرني (ركب معي) تصدق؟ قلت له: معقول ولا زبون. قال: طيب لاجل الحلفان: زبونة واحدة اعطتني عشرة جنيهات فقط. المهم اني روحت، كانت مراتي عند امها ولما رجعت مارضيتش احكي لها ما حدث، وقلت اني راحت علي نومة. لكنها شعرت بالحقيقة، وقالت لي شكلك خرجت ومارزقتش.
وهنا التفت اليّ قائلا: يابيه احنا كنا مع الثورة في يناير/كانون الثاني ويونيو/حزيران بس دلوقت انا باقول ياريت مبارك يرجع. صدقني باقول كدة لاننا في ايامه رغم الظلم والفساد كنا قادرين نعيش. لكن دلوقت مفيش شغل. اللي بيحصل للناس حرام وما حدش حاسس بينا.
(كلما سمعت هذه العبارة: فين ايام مبارك؟ اشعر انني اضعت حياتي هدرا. عارضته عشرين عاما، لأسمع في النهاية من يترحم على عهده).
وصلت اخيرا الى معرض الكتاب. كانت الابواب مشرعة مجانا امام الجمهور، بعد ان نفدت التذاكر بسبب الاقبال الشديد المستمر حتى في المساء. الشعب الذي يقول انه لا يجد ما يسد رمقه يتدافع للحصول على الكتب، على الرغم من اسعارها المرتفعة بالنسبة الى مستوى المعيشة من دون شك.
هناك رواية سألت عنها في اكثر من مكان، قيل لي انها نفدت بالكامل. عناوين عديدة تبدو صريحة في رغبتها الجامحة في كسر المحرمات، وتخطي الخطوط الحمراء. حركة النشر منتعشة بدءا من الكتب الدينية والسياسية بكافة انواعها الى كتب من نوع (كيف تصطادين عريسا؟).
على باب المعرض يبيعون صور بطاقات شخصية للمشير السيسي. النسخة الواحدة بجنيه، رغم ان تكلفة طباعتها لا يمكن ان تزيد عن قروش قليلة. ومع ذلك تلقى رواجا كبيرا. في طريق العودة، بدت مصر مختلفة تماما، فقد كان سائق التاكسي من انصار السيسي، واقسم لي انه طبع بوسترا كبيرا على حسابه، وعلقه على واجهة بيته في حي مدينة السلام الشعبي، رغم وجود انصار للاخوان هناك. واكد انه متفائل لأن الشعب المصري (خلاص اتطعم ضد الديكتاتورية، واي رئيس هاييجي هيمشي على العجين مايلخبطوش).
على طريق المطار في الصباح الباكر، القاهرة التي لا تنام ركنت الى هدوء ما قبل العاصفة. تبدو جميلة رائقة. تتمنى ان تبقى هكذا. لكنك تعرف انها لن تتوقف عن الصخب وعن الحياة، مهما حدثت من منغصات عابرة. هكذا كانت وهكذا ستبقى.

كاتب مصري من اسرة ‘القدس العربي’

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول امين الريحاني:

    لقطة معبرة للقاهرة لكن talk shows ليست shoes التي تعنى الحذاء
    تحياتي

  2. يقول محمد/المغرب:

    سائق التاكسي من انصار السيسي و طبع بوسترا كبيرا على حسابه، وعلقه على واجهة بيته في حي مدينة السلام الشعبي، رغم وجود انصار للاخوان هناك.ياله من شجاع واكد انه متفائل لأن الشعب المصري (خلاص اتطعم ضد الديكتاتورية)كيف ؟ وماذا عن تقارير منظمات حقوق الانسان الدولية والاقليمية من انحدار مصر الى الرتب السيئة من بين الدول المنتهكة لحقوق الانسان ايها المعارض السابق؟؟

  3. يقول حنان الاتربي:

    اولا احيي الاستاذ خالد علي هذه الصورة القلمية الراقية التي اشعرتنا اننا معه في القاهرة الحبيبة.
    ثانيا اشكره لتنويهه بدور المرأة المصرية ما يدل هل فهمه العميق لما يحدث في مصر.
    ثالثا اختلف معه في انتقاده لبرنامج فيفي عبده والسبب انه لم يشاهده وأؤكد له ان برنامجها أفضل كثيراً من اغلب البرامج السياسية لانها صريحة وطبيعية ولاتنافق احدا.
    وأخيرا أقول للأخ محمد من المغرب ان الدكتاتورية تختلف عن انتهاكات حقوق الانسان التي هي موجودة في أعتي الديمقراطيات. وأكيد موجودة في المغرب أيضاً ولا ايه؟ عموم نشكرك لاهتمامك بحقوق المصريين ونتمني ان تهتم بحقوق المغاربة أيضاً.

إشترك في قائمتنا البريدية