بغداد ـ «القدس العربي» من صفاء ذياب: قدَّم الفنان والناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي محاضرة في اتحاد أدباء البصرة بعنوان «التلصّص ومؤسسة المراقبة الشاملة.. إمبراطورية النظرة المحدِّقة» مفتتحا كلامه عن الخريطة الجينية في الفن التشكيلي، التي يعني بها تتبع بنية متكررة في ثيمة محددة.
فقد تتبع الناقد البريطاني هربرت ريد في كتابه «الفن والمجتمع» الجذر الطبيعي الحيواني أو النباتي (غير التجريدي) للكثير من الزخارف التي كان أصلها سحليات وتحولت إلى تشكيلة زخرفية، فضاع أصلها الطبيعي بمرور الزمن، مبينا أن الجذر الجيني كانت في ريليفات المواكب الرافدينية القديمة، إذ يقدّم الموكب فروض الطاعة والولاء للإله: فكانت لوحات التظاهرة في تجربة فيصل لعيبي ومحمود صبري وهاشم حنون ولوحة التظاهرة لفائق حسن.
وفي حديثه عن مفهوم التلصص الذي قدّمه الصالحي، يشير إلى أنه يماثل التلصص من ثقب الكاميرا عملية (المراقبةَ)، ولكنّه يفارقها بعمله في اتجاهين متضافرين ومتقاطعين أبدا، لا يشرعان في البدء من نقطة واحدة، ولكنهما ينتهيان إليها، ويشكلان حوارا متبادلا بين: ثقبٍ للتلصص يمارس لعبة الكشف والإخفاء، من خلال فرض درجة من استراق اللقطات عبر البحث عن طيّات العري الأكثر أهمية، وبين موديلٍ عارٍ يتفنن في حجب وإظهار ما يرغب من جسده، وعبر هذا الصراع بين الرغبات المتباينة، في ما يسميه هايدغر «النزاع القديم بين الفجوة المضاءة وحالة الإخفاء» أي (صراع الإخفاء والكشف)، فتتوتر خيوط الشد في اللقطة الفوتوغرافية، ويكشف (الجسد: الضوء ـ الظلام) عن نفسه شيئا فشيئا، ولكنْ خارج ما أمكن من سلطة الأيديولوجيا، لصالح أن تعيش اللقطة كينونتها كواقعة شيئية يلعب قانون (الكشف ـ الإخفاء)، (الضوء ـ الظل)، (السواد- البياض) الدور الأساس في بنائها الشيئي.
يعدّ الصالحي الصور العارية، جزءا من نظام المراقبة الشامل الذي يسود العالم الآن؛ فتتخلق من خلال ذلك، ما يسميها فوكو (إمبراطورية النظرة المحدِّقة) التي يخلقها ما تبثه في مختلف الأشكال والاتجاهات، ملايين الكاميرات الخفية التي تراقب الواقع، وتراقب تحركات البشر، وتهدف إلى خلق نظرة مركزية؛ تستقبلها عين مركزية غير مرئية تهدف في النهاية إلى رؤية اللامرئي: كاميرات في مخازن البيع وأخرى في الدوائر والشوارع والمطارات والأجواء، وربما غرف الفنادق وربما حتى دورات المياه.
ومن ثمَّ فإن إرادة الحجب تنتصر على ارادة الكشف في النودفوتو nude photo بينما تنتصر إرادة الكشف (الثقب المتلصص للكاميرا وإرادة الموديل العاري) في الفوتوغراف الجنسي، الذي يتوجه نحو دوافعه الجنسية؛ بينما لا يتوجه النودفوتو إلى كشف الطيات (المحرمة) كما يطمح الفن الجنسي الخليع؛ فتوجهاته ذات مرتكزات جمالية بهدف اكتشاف سحنة جسد الموديل: قشعريرة جلده، وطياته، وانحناءاته، أي الجسد بوصفه واقعة شيئية.. ما يحصنه من الانزلاق إلى نفعية غير مستساغة، كما هو حاصل في الفوتوغراف الجنسي.. فحين يوضع الموديل العاري تحت سطوة الكشف (وهو نمط من التعرية البصرية) فإن أهدافه تنحصر في التحسس البصري لسحنة الجسد أي بساطة تحسس (شيئيته).
ورغم أن الفوتوغراف العاري هو صور عارية، إلا أنها لا تضع ضمن أهدافها أهدافا جنسية مفضوحة لصالح تقديم رؤية جمالية للجسد الإنساني، ما يجعل نمط الصورة العارية الجمالية أكثر نجاحا باستخدام نمط التصوير الأسود والأبيض لتيسير هيمنة الظلام عليها وتقنين عملية الانكشاف إلى أدنى درجاته الممكنة. وفي حديثه عن مفهوم علانية الجسد، يبيّن الصالحي في محاضرته أنها تلك العلانية التي مورست في أندية العراة، وفي طفولة البشرية، وفي حفلات التعذيب وسط الجماهير الملتذة بتقطيع أوصال الجسد، بهدف تحقيق المرحلة التالية الهدف، التي بدأت «تتعاون فيها على الجسد المجتمعاتُ الانضباطية المعقلنة، الموصوفة بالتعذيب الناعم والهادئ والصامت والمقنن بدقة والموزع بعدالة ومعرفة، سواء في جغرافية الجسد الخارجية، أو جغرافيته الداخلية» حسب كلام مطاع صفدي، وهذا الانتشار الشامل للانضباط (السيطرة والرقابة) في كافة الفعاليات في العصر الحديث طال جماليات الجسد بشكل مماثل، حيث قنّنت مقاسات الجسد بشكل دقيق وبنموذج أوروبي كنموذج أو كذائقة.. وهذا الانضباط يشمل التعري المعقلن (المنضبط) على البلاجات.
وفي نموذجه، يتحدث الصالحي عن بنتام ونموذجه الشهير للسجن 1791، فإذا كان بنتام حين اقترح عام 1791 نموذجه الشهير للسجن قد أسس منظومة مراقبة كان يسعى أن تكون (منظومة للنظرة المحدقة) فإن اختراع صندوق كاميرا التصوير الفوتوغرافي كان تأسيسا لمنظومة للتلصص على الواقع من ثقب، فكان السجن بالتحليل الفوكوي النهائي نظاما بصَريا للنظرة المحدقة الكلية ذات المتجه الواحد من الحارس تجاه السجين، بينما تخلق الكاميرا نظاما بصريا بمتجه متبادل يشكله طرفا: ثقب الكاميرا والموديل، ويكون فيها (الجسد) العاري مادة بصرية يقع الاشتغال عليها.. فكان السجن مغمورا بالضوء ولا مكان للظلال فيه؛ وهو ما ينطلق منه التصوير الجنسي حينما يغرق الجسد بالضوء، بينما يبدأ التصوير النودفوتو من الجسد الغارق في الظلمة.
أما عن تصوير الجسد العاري، فيصفه الصالحي بأنه عمل غير حيادي.. إذ يجب أن يكون متلصصا بشكل استثنائي، وأن تشمل هذه السمة كل فن التصوير من أجل اكتشاف الزاوية، واللقطة الاستثنائية (التلصص والكشف)، فقد كان ميرلوبونتي يقارن في كتابه «العين والعقل» 1960، بين العلم وفن التصوير الزيتي بأن العلم ينظر إلى الأشياء من أعلى، في حين ينغمس فن التصوير في عالم الرؤية، ففتحة صندوق الكاميرا هي أكثر من فتحة لتقنين دخول كمية من الضوء، فقد كان يتحدث عن جسد العالم الحيّ ولحمه، الجسد الذي هو «تفاعل تبادلي بين الضوء والظل».
أما عن تلصص السجن، فيعدّه الصالحي نظرة محدقة تراقب تحركات الجسد اجتماعيا، باعتبار السجن جزءا من نظام اجتماعي شامل للمراقبة، بينما يختلس الفوتوغراف النظر إلى سحنة الواقع (الجلد) وثنياته، وطياته الخبيئة، وعبر ملايين الكاميرات المنتشرة الآن حول العالم (أداة رؤية كلية)؛ فكان واحدا من أهم مهامها اتخاذ الجسد موضوعا للرؤية، فهي كذلك منظومة شاملة لمراقبة الجسد، وتسجيل حركاته وسكناته في مشروع لمراقبة جلد العالم وجلد الجسد بطريقة كلية.
وفي العودة لموضوعه الرئيس (الـصور العارية)، يرى الصالحي أنه يحمل صفة التعارض بين اليد والعقل، فالرسام التشكيلي كان فنانا مبدعا إضافة لحرفيته التي يجب أن تكون عالية، أما الفوتوغرافي فكان حرفيا يمارس مهنة، وقد كانت الـصور العارية واحدة من محاولات إعادة الصورة الفوتوغرافية إلى حقل التشكيل، أي إلى التحول من نظامها الإشاري إلى نظامها الأيقوني من خلال تقنين عملية الانكشاف (انحسار الضوء وهيمنة الظلام)، وأيضا أنسنة عمليات الأنظمة الآلية للفوتوغراف: التبئير، واختيار اللحظة والتأطير.
في حين كان النزوع الداخلي للصورة الفوتوغرافية لتأكيد طبيعتها المادية (الشيئية)، فرغم اختلاف طبيعة فني الفوتوغراف واللوحة التشكيلية بسبب اختلاف نظاميهما، إذ «ينتمي التشكيل إلى نظام الأيقونة، وتنتمي الصورة الفوتوغرافية إلى نظام الإشارة» حسبما يقول ريجيه دوبريه «حياة الصورة وموتها»، إلا أن الصالحي يعتقد أن الصورة الفوتوغرافية تنطوي على نزوع داخلي لتأكيد طبيعتها المادية (الشيئية)، من خلال التخلي عن جزء من نظامها والاتجاه صوب تحويل طبيعتها الإشارية إلى أيقونية، متوسلة بالعديد من الوسائل التي تضمن تكريس الطبيعة الشيئية للصورة: كإنهاء الجزء الأعظم من المهمة الإبلاغية للصورة الفوتوغرافية، وتفعيل أكبر درجة محسوسة من فاعلية الإخفاء في صراعها بمواجهة الانكشاف؛ فحيثما تضيق فاعلية الانكشاف: تهيمن الطبيعةُ الشيئية للصورة الفوتوغرافية، وتضمحل الطبيعة الإبلاغية؛ لذا يجد الصالحي أنماطَ الصورة الفوتوغرافية الإبلاغية الإخبارية في الصحافة تتوسّل لإتمام أهدافها الإبلاغية (إيصال معلومة إخبارية سردية عبر الصورة) باستخدام نصوص اللغة التي تساهم في إتمام مهمتها السردية، وكذلك تتوسل بوسائل شكلية أخرى من خلال هيمنة الضوء في الصورة الصحافية.
وفي كلامه عن المماثلة مع مشخصات الواقع، يوضح الصالحي أن هيمنة فكرة المماثلة مع مشخصات الواقع في فن الفوتوغراف، تجعل من الصعوبة التعامل مع الصورة الفوتوغرافية باعتبارها واقعة شيئية، ورغم إنها تجعل الأمر يحمل قدرا نعتقده ضخما من المكاسب؛ فهي في الوقت ذاته تجلب قدرا ضخما كذلك من الصعوبات المقابلة؛ لذلك يجب طرح هذه الفكرة بصورة متواترة، رغم صعوبة تقبّل فكرة الشيئية من قطاعات واسعة من الوسط الفني للفن التشكيلي: مبدعين ومتلقين، إلا أن عزاءنا الكبير يتمثل في المحافظة على منجز نعتقد، ونأمل أن يكون، مختلفا في حقل (النقد التشكيلي) عما هو سائد لدينا من كتابات تنتمي أحيانا إلى سوسيولوجيا الفن، وأحيانا إلى تاريخ الفن، وفي أسوأ الحالات إلى الصحافة.