بناء الشخصيات في بواكير الرواية السورية

حجم الخط
1

مع أن التشابه وصل إلى حد التطابق بين سوريا ومصر في الفكر السياسي، لم يكن يخلو الأمر من تناحر في السياسة. وانعكس ذلك على التطور الفني والنفسي للبلدين.
ولو حصرنا الكلام في حدود فن الرواية يمكن القول إن مصر أسست لنوع كلاسيكي طبيعي قاده العقاد في «سارة»، ثم نجيب محفوظ في مرحلته التي سبقت الثلاثية، بينما تعددت الاتجاهات والدروب في دمشق وما يلف حولها.
لقد ابتعدت المغامرة الروائية في سوريا عن المجال الطبيعي والواقع المجرد، وقدمت رواية أحداث تهيمن عليها فلسفة السيرة وتاريخ الأسلاف. وكانت تحدوها لغة رومانسية مشرقة. أكاد أقول لغة مختلفة تهتم بالألفاظ أكثر من المضمون والتراكيب. والمثال على ذلك ملحمة «سيد قريش» لمعروف الأرناؤوط.
إنها جزء من الفلسفة الإسلامية للمدونة. فقد كانت لا تعرف الفرق بين كتابة التاريخ وتدوينه. بتعبير آخر كانت صنعة الرواية مدفونة تحت قشور العواطف الدينية، وضمنا لغة القرآن وشذرات من السيرة. لكن هذا لا يمنع صعود اتجاه آخر أهمل الأحداث تماما، وصب كل اهتمامه على الشخصيات والأفكار الخاصة بالعالم الداخلي لتلك الشخصيات. وفي هذا المضار توجد أيضا ثلاثة حقول أو أحزمة.
الأول رسم صورة المثقف التنويري الحامل لقيم وخصال أصيلة. في هذا النوع تكون الشخصيات مهاجرة بغاية الدراسة وليس السياحة، بمعنى أنها روايات طلابية أو روايات حرم جامعي، وتتفرع من ذلك أزمة جنسية وراءها كل عقد الحضارة.
إنها في الواقع روايات صدام حضارات، وينطبق عليها نموذج جورج طرابيشي.. أن الشرق للمذكر والغرب للمؤنث. وتكون العلاقة اختصارا لغزو جنسي هدفه الانتقام لذات جريحة، فما لا تأخذه بالسيف يمكن أن تأخذه في السرير. وإن كان وراء ذلك معنى فهو مجرد عقدة شرف وتفسير بيولوجي للحضارة والثقافة، وينتهي بالقطيعة، لأن الشرق المتباهي بإخلاصه وروحانياته يأنف من مشكلة التخلي، أو الاغتراب، عن أخلاق عمرها عدة قرون..
وقد عوضت عن مثل هذه النظرة السلفية البنية وإنضاج الشخصيات وخفوت صوتها، وحتى لو أن الخطاب مونولوجي أحادي الصوت وتسمع من خلفه حكمة الكاتب وخلاصة آرائه يبقى القناع موجودا. لقد فتح الطريق لهذا الصنف شكيب الجابري في أهم نماذجه وهي (نهم) ثم (قوس قزح). وأعتقد أنه سبق نموذج «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم. فالجابري لعب بشخصياته بمهارة بينما الحكيم اتكل على أسلوب اليوميات والسرد المباشر والصوت عالي النبرات.
هذا لا يعني أن عميد المسرح العربي لم يكتب رواية رائدة وناجحة. بالعكس لقد قدم نماذج واقعية لا يمكن تجاوزها أو تناسيها، وهي روايات عن جحيم الداخل بكل ما فيه من مافيا زراعية وعشائر وفوضى وعنف. إنما كانت قراءته لصدام الحضارات على قدر غير قليل من المراهقة.
الحقل الثاني هو طور الطلبة. في هذه الروايات كانت البطولة تناط بطلبة لهم واقع انفصالي، بمعنى الانفصال عن الذات وليس الاغتراب في الطبيعة. وأجزم أن الفرق واضح. فالاستلاب في أعمل مطاع صفدي كان يدل على ذخيرة فلسفية خاصة، أو موقف من النفس والذات. لقد كانت شخصياته تقرأ الواقع من خلال انعكاساته على الحالة النفسية. كان السقوط الحضاري بخلفيات سياسية. ووقفت خلف تفكيك المجتمع ذات جماعية معصوبة لا تعرف شيئا عن نشاط الأفكار خارج حدود خبرات الأشخاص، فهي شخصيات نمط لنماذج تتكرر في سلسلة من المرايا وتعكس الهم نفسه لكن بصور متعددة.
ولا يخفى على أحد ما لسارتر من تأثير على هذا الاتجاه، كان شعار تلك الأعمال إدراك معنى الحرية إنما ليس البحث عنها. وفي الوقت نفسه ربط تحرير الذات بمبدأ الالتزام وكأن الحياة لا تتطور بلا شروط. وإن ما نسجله لهذه الروايات هو عمق النبوءة الكامنة فيها. لقد كانت مرثية لا تقل بجدواها عن «أربعاء الرماد» لإليوت. وأعتقد أنها تتعادل في جرأتها مع ثورة الشعر الحر.
لقد مهد مطاع صفدي لرواية حرة بلا قيود يفرضها المنطق الكلاسيكي. وكانت هارمونيته تتأتى له من دمج أهم وحدتين بنائيتين في أي عمل روائي وهما: الزمان والمكان، فقد استوعبت الشخصيات هذا الشرط وكانت تلعب به كورقة تفسير وتأويل، ولذلك قدم لنا شخصيات ممتلئة فكريا ونفسيا.
أما الحقل الثالث والأخير فهو طور الحركات الطلابية ووعيها غير المشروط بمعنى التحرر السياسي، وقاد هذا الاتجاه هاني الراهب في وقت مبكر، وربما استمر في توسيع تجربته حتى الثمانينيات.
لقد أمضى حوالي ثلاثة عقود في توسيع محيط دائرته التي وضعت المؤنث بجانب المذكر وأضفت عليهما معنى بيولوجيا تحت غطاء الفلسفة الوجودية. كانت شخصياته عصابية، لا تفهم الحياة إلا من خلال فلسفة الموت الجزافي، فهو موت استنكار واحتجاج ورسالته موجهة إلى جيله فقط، وهو جيل يتألف من الطلبة الجامعيين والأساتذة.
وإن ما يسجل لهذه التجربة أنها لا تعزو للأستاذ قيمة وعظية وتنيط بالطلبة دورا تربويا، ولذلك جاءت روايات هاني الراهب بعيدة عن التكلف، الحركات والأفعال فيها مكثفة وجرعتها عالية التركيز، ويغلفها نزوع للحضارة السورية مع قلة اهتمام بالبعد الشعبوي الذي احتضنه فاضل السباعي في سلسلة من أعمال صغار الكسبة والطبقة المتوسطة المكافحة. لكن فاضل السباعي جاء متأخرا، ولعب دور نسخة سورية من نجيب محفوظ، واهتم بالحبكة.
إن بواكير الرواية في سوريا (وأقصد بذلك الفترة المحصورة بين 1930 – 1965) تطورت بمنأى عن المفهوم التقليدي للرواية. لقد بدأت مباشرة من القلق الوجودي الذي أعقب نتائج الحرب العالمية، وحمل بصمات ثلاثية سارتر «دروب الحرية»، ولم يختلف عنها إلا في تصنيف الشخصيات.
فالمثقفون في الرواية السورية هم المتعلمون حصرا الذين يحملون أعراض السأم من الذات العامة والمدمنون على اكتشاف القيم في لحظة السقوط والانهيار، سواء في مقاصف الجامعة أو في المقاهي التي يرتادها الموظفون. بينما كانت شخصيات سارتر من سلك الصحافة والمحاماة والطب والجامعة مع ميول غير انتحارية. فوسيلة الهرب لديهم تتركز في الإدمان على الكحول وممارسة فعل الحب (جدلا- فهو جنس مادي لا غاية له سوى إهدار الطاقة الكامنة وتفريغها) بمعنى آخر تطهير البدن من ذاته كما هو تطهير النفس من مشاعر الخوف والترقب عند الإغريق.
فالانتحار عند الوجوديين ليس قتلا للصورة بالمعنى الحرفي للكلمة ولكنه قتل للذهن كما يقول جون كروكشانك في حديثه عن كامو. في حين الشخصيات السورية تهرب من نفسها عن طريق الانتحار الفعلي (تدمير الجسم والصورة) وانتهاك التقاليد.
وكانت التقاليد تسقط صريعة في مضمارين اثنين: قانون الفن الروائي الذي تجاوز الشروط المعروفة: مقدمة وحبكة ونهاية، وقلة احترام الأخلاق الموروثة عن آبائنا.
لقد أطلقت الرواية السورية النار على رأس القانون البطريكي لكتابة الرواية ولخيال الشخصيات الروائية وتوجهاتها. وهذا يستحق إعادة تقويم لتاريخ الرواية لدينا.
فقد بدأت من الشخصيات وليس من الأحداث، وأن يبدأ الكاتب السوري من الشخصيات، بخلاف كتاب مصر في مرحلة ما قبل ثورة يوليو/تموز، يعني أننا أمام ظاهرة حضارية ويجب التفكير في دواعيها.

٭ ناقد سوري

بناء الشخصيات في بواكير الرواية السورية

صالح الرزوق٭

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رياض السوري:

    أشكرك استاذ صالح لهذا التحليل القيم للرواية السورية والذي أتفق معه تماما ولكن أين نضع حنا مينة، وعبد السلام العجيلي، وسواهما
    مع التقدير

إشترك في قائمتنا البريدية