يقظة حقيقية أم سراب صحراوي جديد؟

حجم الخط
0

يقول لي الصوت المنذر القبيح ان العرب لن تقوم لهم قائمةُ بعْد، فلقد عرف عصر العرب المنهار كل نماذج الإخفاقات السياسية ورديفها من الهزائم العسكرية، وهوامشها من الفواجع الثقافية، فلم تتبقَ ثمة عاصفة من أسباب المهالك إلا ومرّت بمعظم بلاد العرب. هذا يعني أن الهزائم استنفدت أقدارها السوداء جميعها، لكنها بقيت هي فاعلة وقادرة على مفاجأة كل مجتمع آمن ومترهل بجموده. فالهزيمة في حد ذاتها هي سببها الذاتي الكافي. فالعرب والهزيمة متآلفان معاً منذ بداية التاريخ. لا يوجد أحدهما إلاّ يتبعه الآخر. لن يكون عرب إلاّ وفي جوارهم هزائم تحوم حولهم متربصة بهم.
لكن الهزائم العامة لا تحدث من تلقاء ذاتها. ولو لم تسبق أو تصاحب كل هزيمة بيئةُ خاضعة لها لما أمكن لأية واقعة سياسية سلبية أن تستحوذ على المصير العام وتوجهه نحو أسوأ ظروفه. إذن ينبغي التصريح بالفم الملآن إن للهزائم عواملَها الموضوعية كذلك، وقد تكون خارجة عن إرادة الناس، عن قدرة ضحاياها على استباقها، على ردّها، على التمكن من ضبط نتائجها. غير أن الرأي العام اعتاد ألا يرى في هزائمه العامة إلاّ أسباباً وظروفاً سياسية معينة. كأنما السياسة العربية الفاشلة في شتى ظروفها هي المنتجة للانهيارات. والعرب إجمالاً، رغم أنهم منشغلون دائماً بأحداثهم السياسية أكثر من أية فعاليات عامة أخرى، إلاّ أنهم قلّما اعتبروا أنهم هم أسياد أفعالهم، أو على الأقل هم من المشاركين في صنع قراراتهم. كما لو كانت الأمور العامة تنقاد بفعل قوى مجهولة، وتسمح للمفسرين بتوجيه المسؤولية الأولى عن التردي العربي المتفاقم، إلى اصرار «الغرب» على الهيمنة بطرقِهِ المشروعة وسواها.
هذا مع العلم أن العرب قد عانوا من مختلف صنوف الهزائم الاجتماعية، وفي الوقت عينه استطاعوا أن يتغلّبوا على أكثرها. وفي الأقل على الالتفاف حول أهوالها، وربما التوصل إلى إعادة التلازم النسبي مع بعض عواقبها. لكن قد يمكن للهزيمة أن توصف مثلاً بالعسكرية أو السياسية والاقتصادية، غير أن عصر الهزائم المفردة يبدو أنه مضى وانقضى ليحل مكانه عصر آخر لما سوف يُعرف بإسم، ليس الهزيمة الكبرى، بل بتلك الهزيمة المميزة بخاصتها المهولة، إنها الهزيمة التي تصيب كلّيةَ التجربة الحضارية القائمة؛ أي إنها من طبيعة تكوينية، فالعرب لم يعودوا اليوم مجرد منهزمين عسكرياً أمام عدوهم المزمن اسرائيل، أو عدوهم الصديق أمريكا. انهم المنهزمون الأخيرون في عين ذاتهم لذاتهم. فالإنهيارات العظمى في خُلقية العرب العامة مع الأمثلة المروعة لابتعاث النماذج الوحشية المنقرضة، هذه الظاهرة الصادمة حتى لأوحش وجدان إنساني، تكاد تكون هي العنوان الملائم للسياسة العربية المسيطرة على المحافل الرئيسية، فأنْ تُهزم الأمةُ فيما يُعتبر من صميم تكوينها الأنطولوجي، وهي الثقة بتملك الأمة لإمكانيات النهضة الجديدة العصرية، في هذه الحالة من فقدان الحد الأدنى من تطبيق التوازن الذاتي تصبح هزائم الحياة اليومية كأنها هي الحياة العادية أو الطبيعية، الجارية كل يوم.
وهكذا، ليس غريباً أن ينتهي الفشل بأكثر شعوبنا إلى ابتكار الحلول المُعْوجّة لإعادة التلاؤم مع الظروف المضادة، والتخلي تدريجياً عن التصدي العقلاني للواقع الفاسد.
غير أنه ينبغي القول أنه لم يحدث للعرب المعاصرين أن اعترفوا بأية هزيمة كبرى حلّت بهم أنها هي القاضية عليهم نهائياً. يشهد على ذلك ما يعانيه العرب راهنياً من أحوال الإنهيار في مجمل طموحاتهم القومية، بل الوجودية العادية حتى، فإذا ما قامت لبعض رموز الدول الموصوفة بالقيادية، ثمة قائمة جديدة، إذا ما تنطّحت لكسر حلقات المعدن القاسي الذي يحاول الالتفاف على أعناق شعبها، قد يشعر البعض أن المغامرة المداهمة بتحدياتها غير المسبوقة قد تستحق الإقدام عليها أو بما يشبه الأفعال الإعجازية الجماعية. فلم يعد مسموحاً التوقف على مسافة من الإنهيار والتفرّج على منجزاته من بعيد، وكما لو أنها تحدث لأمم أخرى؛ إذ في هذه الحالة يصير شعب المتفرجين كماً إضافياً إلى زمر العدوان المداهمة نفسها، فالفرجة على المشاهد الظلامية من جور الإنسان ضد أخيه تغدو نوعاً من شراكة خبيثة في تغذية المَهْلَكة الأصلية عينها، المخيمة على الجميع.
عالمنا العربي، الغاصّ بوحوشه سواء منها قديمها أو الآتية عن مواردها المستحدثة. لا يتباهى على الإنسانية من حوله أنه وحده، قُدِّر له أن يواجه، ذلك الصنف الأدهى من أعطال الحضارة العامة الفاشلة ومن مخلوقاتها الشاذة، من وحوشها الأفظع والمبدعة في جرائمها النادرة ضد الإنسانية (على أن كل ما هو نادر فيها إنما هو مختصِر للكل في وقت واحد).
إذا كانت آمال عالمنا العربي قد أُحبطت مجدداً تحت أقدام ثوراته المجهضة والمغدورة، فإنه في الوقت عينه لن يكفَّ عن منازلة شياطين الإنهيار وهم يعبثون ببقايا دياره المحطمة. فلا يمكن الحكم أن الهزائم الصغرى قد تولّد الهزيمة الكبرى، بل قد يصبح الأمر على العكس في حالات نادرة، أو قد يستنزف أضعفها أقواها قبل أن يحين وقتها، ولذلك قيل عنها إنها هي صانعة تحولات التاريخ الإنساني الفاصلة.
فالعرب هم اليوم ليسوا أضعف خَلْق الله على أرضه، ولكنهم للأسف يتوارثون تعاويذ جَلْد الذات منذ القديم. وحين تحلّ المصائب يتشبث المحبطون بها كعناوين جديدة لمآسيهم القديمة، وإذا كان «عالمنا العربي» اليوم هو من أشدّ عوالم العصر قتلاً لبشره، وتعذيباً وتشويهاً لأرواحه إذا كان في كل منعطف «حضاري» بائس يمرّ به عليه أن يفعّل جهنمَ في توجيه مخيال مجتمعاته، فلن يكون عليه إلا أن يقلب أروع أحلامهم الطفولية إلى كوابيس شيطانية.
ومع ذلك، قد يمكن القول أنه ربما وصل عالمنا العربي المعذب هذا إلى أصعب مآزق خياراته المصيرية، كأنما لم يتبقَ على ثوراته إلا أن تختار كبدائل عن سلطاتها المتصورة بين أن تسلّم البلاد إلى جبابرة الفساد القدامى، ومن هم من سلالتهم، أو أن يدع مركّب الإرهاب الداعشي ينقض على مصائر الأقطار العربية واحداً بعد الآخر. ذلك هو أقسى قدر أسود تُصاب به كل ثورة مدينة كبرى، عندما يُحالْ بينها وبين مشروعها النهضوي الذي حملته على أكتافها، فصارعت تحت أعلامه كل عقبات المجتمعات المتخلفة التي انبثقت هي عنها أصلاً، ما يشهده «عالمنا العربي» هذه الأيام من تصاعد نشاطاته الدبلوماسية ما بين حكامه الأشاوس، كأنه يريد إثبات أن سلطة المبادرة ما زالت أقرب إلى أيدي رجال السلطة. فهؤلاء لا يكفّون كل ساعة عن إطلاق التصاريح المجلجلة ضد أعداء موجودين، أو موهومين غالباً، ليس بين أيديهم سوى دعوات إلى المؤتمرات واللقاءات والندوات المؤدية إلى إعلانات كلامية جديدة بألفاظها، عتيقة بالمعنى والهدف، وبعد ذلك يقال أن عالمنا العربي يوشك على أن يحيا يقظة وجودية عارمة. فإنه هذه المرة يوشك أن يوفر للشباب معايير موضوعية للتمييز بين ما هو سراب صحراوي خادع أو ما هي واحة خضراء حقيقية واعدة بربيع (عربي) خالص من التزوير والتحريف والإبتزال.
هل نحن حقاً قد أصبحنا أقرب إلى لحظة الصحوة المميزة، أم أننا ننسج من دموعنا المتراكمة في مآقي عيوننا سرابات جديدة لامعة بأنوار كاذبة خادعة كالعادة، كما كنا نفعل دائماً عَقِب كل هزيمة مصيرية لا نعترف بها، حتى ولو أنها راحت سكاكينها تفرم لحومنا وتمزق شرايين أجسادنا.
عالمنا العربي يريد أن يقول أنه لا يزال يؤلف عالماً حقاً، وأن هذا العالم يستحق الفخر بإسمه ولقبه العربي، وأنه إذا كان قد تعذّر عليه طيلة وثباته النضالية والنهضوية أن يقدم عن إمكانياته الدفينة إلاّ أضعف البراهين عن كنوزها، فإنه مصرُّ أن تُتاح له فرصة أن يستوعب أسرار اسمه الحقيقي كعالم يعجّ بالناس الأصحاء. هؤلاء جميعاً، إنما يعتزون بالإنتماء إلى العروبة باعتباره إنتماء إلى مشروع النهضة الإنسانية المستدامة نفسها، وليس ضداً عليها أو تحريفاً لها؛ فالعرب مدعوون اليوم إلى اليقظة التي تنقذ بقية إنسانيتهم من مصير المأزق الساقط تحت مطرقة الاختيار المفروض ما بين حكم الفساد الإجرامي الأسود أو الإلتحاق بمواكب الجهادية أو العدميين المناضلين. فاليقظة هي الآتية ببشرى الرفض لكلا الخيارين البائسين، فهي المنادية الأخيرة على إمكان تحويل سرابات الصحارى العربية إلى واحات رافلة بالخضرة، والعدالة معاً، حيثما في ربوعها قد تتحقق النبوءة الأزلية للإنسانية المعذبة: سُكْنى العالم شعرياً..

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية