كثيرة هموم العقل الغربي هذه الأيام حول مصيره. قد لا تعبر عن همومه تلك سياسات حكوماته القائمة، وإن كان يخترق ببطء سجن الأكاديميات المغلقة على ذاتها. فالعقل الغربي والأكاديمي منه بخاصة كفّ عن ابتداع النظريات الكليانية. لم يعد طامحاً إلى اختلاق مشاريع التغيير الكونية، وحتى الوطنية المحدودة منها.
فالموسم الثقافي لنهاية العام الحالي كانت هي الأفقر بالنوع والكم. في مجال الفكر والإنسانيات؛ فرنسا مثلاً لم تعد تقرأ كما كانت خلال معظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين الماضي، والمكتبة الألمانية المتميزة دائماً لا تزال إصداراتها الفلسفية تدور حول ذاتها، أي بما كانت أبدعته من التحليلات المبتكرة فكرياً واجتماعياً على ضوء فلسفة الاعتراف التواصلي التي أعاد تأسيسها يورغن هابرماس، وتابعها تلميذه وصديقه وخليفته في إدارة معهد فرانكفورت المتزعم أوروبياً لأطروحات الفكر الماركسي وتطوراته خلال القرن العشرين.
إنه ذلك الفيلسوف العملاق جسداً وعقلاً، اكسل هونيت.
لكن يبدو أن طاقة العقل الجرماني قد توقفت أخيراً عند أعلام هذه المدرسة. فهل لم تعد تجد الأجوبة على أسئلة مابعد الماركسيات، من أجل استعادة القدرة على صياغة المفاهيم الملائمة لفهم مآزق العصر التي تجاوزت إمكانيات المناهج المعرفية القديمة، وحتى الماركسيات وأشباهها.
يبدو استعصاء هذه الحالة ليس في المجال الثقافي وقيادته الفلسفية فحسب، بل هو الخواء السياسي الذي يعصف بأنظمة الحاكميات القائمة. إنه الارتباك المضطرد في مسيرات القرارات والمواقف الحكومية، بما يؤكد لإنسان الغرب أن فوضى حكامهم في الشأن السياسي الخارجي ليس سوى تحصيل حاصل لفوضى الداخل. فلم يكن العقل الغربي يتوقع أن تعاود المشكلات التقليدية في العلاقات البينية الأوروبية ذاتَها ما بعد قيام اتحاد القارّة، بذات القوة والتعقيد اللذين كانا يطبعان علاقاتها ما بين كبارها، وذلك قبل تشكيل وحدتها الحالية.
لكن مع الحكم السريع القائل أن تزايد التشابك المضطرد والمتفرع دائماً في المسالك البينية لأقطاب الاتحاد، قد ساهم بقدر كبير في تعطيل ماهو الأهم مما كان مأمولاً من فعاليات الاتحاد في محيطه الخارجي الأقرب، وهو حوض البحر الأبيض المتوسط على الأقل.
فالفراغ السياسي الكبير والمتمادي، مع دول المحيط المتوسطي ضاعف من عزلة أوروبا إجمالاً عن محركات وهموم السياسة الدولية، المشتركة، واستراتيجيتها العامة؛ ذلك أن كل النشاط الدولي الأوروبي طيلة العقود الأخيرة كان في أحسن ظروفه مجرد اصداء أو ذيول للسياسة الأمريكية. لم تكن هذه الحالة مجرد تعبير عن تفاوت في ميزان القوى ما بين القارتين الأمريكية والأوروبية، بقدر ما كانت بعض الثمن الباهظ لتخاذل العزيمة الوجودية، وشيئاً من العنصرية الكامنة تحديداً لدى قادة الاتحاد الأوائل، وفي المقدمة يبرز زعماء ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الذين اعتبروا أن التفاوت في المعاملة مع الآخرين هو حق من حقوق التفوق المشروعة لأصحابه. لكن حين تخطى الدبُّ الروسي صحاريه الثلجية وحوّل مسيرته نحو الغرب… معلناً أن الحرب الباردة لم تنته فصولها بعد، وأن الغرب لم يهزم (الأمة الروسية)، بل إنها هي التي اسقطت نظامها الأيديولوجي بيدها، ومع ذلك حاول الغرب أن يختطف كامل الرصيد الإيجابي دولياً واقتصادياً المتأتي من هذه الهزيمة الاستراتيجية العظمى للنظام الذي كان حاكماً لنصف العالم؛ فالاندفاع الروسي المتجدد لاسترداد حصته المسروقة من النفوذ الدولي أمسى اليوم يتحرك على مستويين أوروبي وعربي متوسطي؛ هذا مع معرفة أن الوثبة القيصرية على عمق أوروبا الشرقية لن يكون لها حظوظ نجاح كاسح، سوى أنها قد تبعث الإنقسام القديم لجغرافية القارة، وفرض العقابيل المرّة المعروفة لهذه التجزئة في مختلف نواحي الحياة المدنية والاقتصادية خاصة والتي سيعانيها الانسان الروسي نفسه في حياته اليومية، قبل سواه.
أما الاندفاعة الروسية على المستوى الآخر العربي والمتوسطي. فسوف تكون (ثورات) الربيع هي ضحيته اليومية المستمرة، فإن جميع (مبادرات) التدخل الروسي، في بلاد الشام تحديداً، قد أنجزت حتى الآن كل ما يريد أن يعرفه الجميع عن هوية هذا التدخل وأهدافه الحقيقية، وذلك على الرغم من أن مذهب (القيصرية) الغازية المعاصرة حرص على إخفاء مخططها مستعيراً مختلف الأقنعة الإيديولوجية المتعارضة لتغطية وجهه الأصلي ولكن دون طائل.
هكذا يمكن القول أن سياسة التخاذل الأوروبي قد سبقت تحولات أمريكا /أوباما نحو سياسة الانسحابات بالجملة والتفصيل من القضايا العالمية الشائكة، ومن تلك المدعوة بالشرق أوسطية خصوصاً. لكن هذه القضايا قد فارق أهمُها حدودَه الجغرافية منذ أن افتقدت هذه القضايا الحيوية عواملَ الحسم المحايثة لتناقضاتها الذاتية أولاً. تلك العوامل التي كانت محتكرة الفعالية لعالم الغرب. فإن انسحاب أوروبا من كل مشاركة جدية في انضاج الوطنية النهضوية والالتزام بأهداف التنوير العربي خارج معادلات الربح والخسارة، أفقد الاتحاد جوهر صدقيته كرائد حقيقي لعصر مابعد الأيديولوجيات، حالما يسود نظام أنظمة المدنية تحت هالة الحل الإعجازي للتاريخ الإنساني وفق المعادلة، التي كانت مستحيلة لدهور سحيقة بين «اقنوميْ» السياسة الكونية وهما الحرية والمساواة.
اليوم بات هذا الاتحاد العظيم هو أكبر مجرّة بشرية، مؤلفة من مجتمعات الخائفين دولاً وأفراداً. فقد صار أحدث تعريف للعقل الغربي هو انه عقل الرعب، ربما لم يفارق هذا العقل رعبه القديم دائماً. لكنه كان يبتدع في كل صدمة رهيبة علاجها الفكري ما قبل البنيوي والعضوي.
ها هو يكتشف في لحظة الضعف الأخيرة إزاء ضربات الإرهاب المتوالية إن بطولته الفريدة في قدرته على اختراع لكل أزمةٍ الأيديولوجيا المناسبةَ لظروف معالجتها.
هذه البطولة ليست سوى ايديولوجيا هي أيضاً. فالمادة التي تشتغل عليها كل من ثقافة الصواب و الخطأ إنما هي من طينة واحدة. وما الفارق بين المنهجين سوى خط نحيل من أوهام التصور وليس من عجائب التفكر.
هذا الغرب المرعوب اليوم بما لم يعانِه منذ الحرب العالمية الثانية، ليس ذلك بسبب أن أخطاراً مداهمة تغزو عاصمة النور باريس، بل ان ما يرعب وجدانه السياسي هو أنه لم يعد لديه جاهزية ما قد يرعب بها اعداءه.. أدهى ما يخيف ليس هو الوحش نفسه، بل زئيره البعيد أو القريب.
هل يشعر الغرب أنه فات الأوان، وإن الوقت هو للدفاع وليس للهجوم. أليست هذه هي الحالة السلبية المزرية بحق التفوق (الحضاري) أن يصبح مدرّبو الوحش هم من أوائل ضحاياه.
هذه الغزوة الهمجية التي قد يعتبرها البعض أنها بمثابة إعلان حرب كل «الحضارة»، ألا تضع حداً لألاعيب من كان يصنف نفسه من بين قادة المجتمع الدولي، المنخرطين في اللعبة الراهنة تحت تسمية مؤتمر فيينا للسلام. إنها الغزوة (الإرهابية) التي حكمت على هذا المؤتمر مقدماً بالعدم واللاشيئية. لكن اعضاءه للأسف يتابعون لقاءاتهم ما بين أصناف الأعداء والأصدقاء وكل الدرجات الأخرى من العلاقات شبه الشخصية بين رموزه.
المهزلة في هكذا مؤتمر أنه حتى إذا ما أنتج بعض الاتفاقات المصنفة في حالة الإعداد للسلم في سوريا المعذبة، فهي المرشحة حتماً ألا تفارق مخطوطها الورقي أبداً.
هذا (المجتمع الدولي) ليس مُعدّاً لأي صلاح دولي حقيقي. إنه مصنوع فقط من أجل أن يقول إلى الملأ أن هناك بديلاً عن القتل. لكنه لن يطرح أية وسيلة ناجحة في وقف القتل، بل في إعداد جبهات أخرى له، وتوريد أسلحة وتوزيع أموال قذرة هنا وهناك.
هذه الحقيقة يعرفها الجميع؛ لكن المهزلة ان هذا الجميع هو المنشغل والدؤوب على تكرار التمثيلية إياها العبثية. فالتكرار يريد أن يجعلها أشبه بواقع، وإن لم يصدقه أحد…
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي
أخي الكبير …لا أجد تعبيرا آخرا كما أعتدت أنا عليه بمخاطبتك .؛ أخي الكبير مطاع ..فانت وبفكرك المنير الطاهر تسكن كل جوارح الحياة والتي أتمناها لك طويلة ما رغب القدر .؛؛ ليس بامكاني الا الاضافة المتواضعة .؛؛مشددا على كل كلمة وحرف كتبته أنت منطلقا من عمق الفكر الناضج ( المعلم ) كما عرفتك به ومنذ عشرات السنين .؟ كلمتك أعلاه يا أخي ، هي مدرسة لمن وعى وأدرك ولو بعد حين ، هي ايقونة الوعى المتعاظم مع الزمن المتسارع ,,,,وفكرك المنير أسرع من خطوات الظلام ، الهادف أقدس ما وجد الانسان به ..ولـه .؛؛ وأخصه انساننـا العربي والمسلم في آن واحد .؛؛ انها لوحة مرصعة بعبرات وعبير الروح الانسانية الكامنة فيك جسدا وروحا …؟؟ لذا لا ..ولن أجد ما أستطيع اضافتة لما أبدعت بـه أعلاه…فأكتفي تكرار اعتزازي بك تقديرا محقا لمن استحق فوق الحق ؛؛ لقد وفّرت علي وعلى الكثيرين ( مهمة ) التحليل والتعبير ..؛ في هذه اللحظات السائلة بالّحاح الحاجة والضرورة فكنت الرائد والمشعل …؛ فالله أسأل حفظك ورعايتك للاستكمال واجب عاش ولم يزل في ضميرك الطاهر ..مرشدا لأسمى هدف …ولك تقديري الأسمى ..مني …ما حييت .