سمير أمين.. صاحب نظرية المركز والأطراف

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
1

القاهرة ـ «القدس العربي» من: يعد المفكر والاقتصادي المصري سمير أمين (3 سبتمبر/أيلول 1931 ــ 12 أغسطس/آب 2018) من أهم مفكري الاقتصاد في العالم، والأكثر تأثيرا من حيث تطبيق نظريته التي دعاها بنظرية «المركز والأطراف»، وهي التي تفسر التحولات الكبرى التي تطرأ على التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية على مستوى العالم. فهو يعتقد أن التغيير يأتي دائما من أطراف النظم لا من مراكزها، حيث أن الشكل الطرفي للنظام هو الشكل غير المكتمل له، وهو بالتالي الجزء المرن منه والقابل للتجاوز. بينما مراكز النظام هي الشكل المكتمل له والجامد، وبالتالي، فهي الجزء الذي يصعب الانتقال منه إلى نظام جديد يتجاوز النظام القديم، الذي بلغ حدوده التاريخية النهائية، ليس في مراكزه فقط، وإنّما بكليته.
وانطلاقا من هذه الأطروحة كان سمير أمين قد تجاوز الأطروحة الماركسية القديمة، التي كانت تنظر إلى أنماط الإنتاج على أنّها تتعاقب وفق نظام تاريخي لكل تاريخ الحضارات. وأكّد، بدلا من ذلك، أن أنماط الإنتاج المختلفة كثيرا ما تواجدت إلى جانب بعضها بعضا في تشكيلة اجتماعية واحدة. وهنا نظرة سريعة على رؤى وأفكار سمير أمين لعدة قضايا، طالما ناقشها في مؤلفاته أو ندواته أو حواراته الصحافية.عن نظرية المركز والأطراف

يرى سمير أمين أن الرأسمالية ترتكز على الانقسام بين المركز وأطرافه، وهي مساحات يقررها قانون القيمة. انطبق هذا النموذج على الرأسمالية خلال تطورها التاريخي وازدادت الفجوة بين المركز والأطراف خلال هذه الفترة، لأن منطق تراكم رأس المال لا يمكّن الأطراف من اللحاق بالمركز، لذلك لا يمكن اعتبار الرأسمالية والإمبريالية ظاهرتين منفصلتين، لأن الأولى لا يمكنها أن تكون موجودة بدون الثانية، على الرغم من تغيّر النموذج الإمبريالي خلال التاريخ، وتغيّر العلاقة بين المركز والأطراف. وبما أن شعوب الأطراف رفضت هذه الحالة، لم يكن النظام الرأسمالي مستقرّا قط، وقد شهد التاريخ على هذا التوتر على الصعيد السياسي. لقد كان هناك مركز وأطراف خلال المرحلة الأولى من ظهور الرأسمالية، قبل خمسة قرون من الآن، وسيظل هذا موجودا في المستقبل طالما أن هناك رأسمالية وتراكما رأسماليا. لكن هذا ليس معناه أن شكل النظام ومضمون المركز ومحتوى الاحتكارات التي تقوم عليها امتيازات المراكز، في ما يتعلق بعلاقاتها مع المحيط، وكذلك سمات المركز، لم تتغير ولم تتبدل على طول التاريخ. كل هذا في تبدل وتغير، لأن الرأسمالية نفسها نظام دائم التغير، في تطور مستمر. والمهم بالنسبة إلينا هو أن نلفت النظر إلى ما هو جديد في سمات الرأسمالية، إذ لم تعد هي سمات الاستغلال البسيط القديم.
ويرى أمين أنه في العالم العربي الإسلامي والصين والهند، كانت تسود أنماط إنتاجية خراجية مكتملة، بينما في أوروبا واليابان كان يسود نمط خراجي طرفي غير مكتمل، هو نمط الإنتاج الإقطاعي، لذلك حصل الانتقال إلى نمط الإنتاج الرأسمالي هناك، وليس في المراكز القديمة. وتحولت تلك المراكز ــ مراكز نمط الإنتاج الخراجي السابقة ــ إلى أشكال طرفية لنمط الإنتاج الرأسمالي. ولكن توفّرت في ما بعد ظروف وشروط أخرى لدى كل من الصين والهند لتتمحور حول نفسها ــ تُخضع علاقاتها الإنتاجية لمقتضيات تطورها الداخلي ــ بصورة من الصور، الأمر الذي أدى بها إلى تجاوز حالتها الرأسمالية الطرفية. وبهذا فقد رفض سمير أمين ما سماه خرافة المعجزة الأوروبية، أو اليابانية، التي هي ركن أساسي في فكرة التمركز أو الغرب. وفي هذا الإطار فتاريخ المنطقة العربية لا يختلف كثيرا عن تاريخ بقية المناطق مثل الهند أو إفريقيا، بالنسبة إلى مسألة العلاقة بالتطور الرأسمالي العام. ومع هذا لا بد من القول، بما أن لكل منطقة سمات خاصة، من المؤكد أن للعالم العربي أيضا سمات خاصة، مع العلم أن العالم العربي، الذي شهد بعض أجزائه نهضة ما، بعيد الحرب العالمية الثانية، توقف تطوره ونموه الحقيقي خلال مرحلة تطور سابقة، بدون أن يصل إلى أي مستوى عالٍ من التصنيع، وأسباب هذا مختلفة، من الضروري الإشارة دائما إلى الأساسي منها، لأنها هي التي انتجت وضع الجمود والتخلف الراهن، ومنها بالطبع أسباب سياسية. فالحال أننا حين نقارن، مثلا بين بعض البلدان العربية التي كان يمكن اعتبارها الأكثر تصنيعا، وربما أيضا تقدما على صعيد المسألة الاجتماعية (مصر عبد الناصر، الجزائر في عهد بومدين، العراق وسوريا تحت حكم البعث) وهي بلدان كانت ـ وبعضها لا يزال ـ تحكم حكما (وطنيا شعبويا) ولكن بدون أن يكون الشعب فاعلا حقا، حين نقارن بين هذه البلدان وتركيا أو البرازيل أو الهند، نجد أن البلدان العربية لم تصل ابدا إلى مستوى هذه البلدان في مجال السيطرة على وسائل الإنتاج والتصنيع.
إننا نشهد خريف النموذج الرأسمالي الحالي، ولكننا لسنا بعد في ربيع الشعوب، لأن البديل لم يتبلور. إنّ التحركات والاحتجاجات العالمية هي حاليا في مرحلة من الفوضى، ويمكنها أن تؤدّي إلى حركات متطرّفة، وأنظمة فاشيّة، بل إلى دول منهارة، أو أنها قد تفضي إلى شيء جديد تماما.

عن الفكر القومي العربي

يأخذ سمير أمين على هذا الفكر حصره مبدأ التقدم من خلال فكرة الوحدة العربية، والتغني بمقوماتها ــ المغلوطة ــ بحيث أصبحت كالنغمة النشاز، فهو يتفق والهدف، لكنه يختلف في الرؤية والتفاصيل. فالتيارات القومية تغفل العلاقة بين مدى إنجاز هذه الوحدة والصراع الطبقي. فهذا الإنجاز موقوف على الخروج التام من أسر الرأسمالية، وهو المتمثل في علاقات ذات طابع اشتراكي في إدارة المجتمع المحلي. والأمر ليس مرهونا بالبورجوازيات العربية، بل بالطبقات الشعبية المُعادية في الأصل للرأسمالية. فالسمات التي استند إليها القوميون من اللغة والدين والجغرافيا لم تكن كافية لتحقيق هذه الوحدة، والحديث حولها كمسلمات هو ما أدى إلى نهايات مفجعة، أصبحت تثير السخرية. فالفصحى كلغة النخبة أصبحت تواجهها العامية وتنوعاتها، وأنها القادرة على التفاعل وإنتاج الخطابات المختلفة والمتناقضة أيضا! ويأتي الدين من حيث أسلمة المجتمعات، سواء بمصطلحي الفتح أو الغزو العربي ــ إيران ترحب بالفتح، وتتباهى بالقضاء على الغزو، المتمثل في الحفاظ على لغتها ــ مع ملاحظة أن الغزو لم يحقق المزيد من التجانس المجتمعي، بل المزيد من التنوع والاختلاف، أو الخلاف بمعنى أدق، حيث انتقلت آفة «القبَليّة» إلى أماكن ومجتمعات تجاوزتها منذ قرون وآلاف السنين! فمقولة «القومية العربية أمر ثابت متواصل عبر تاريخ الشعوب الناطقة بالعربية» هي مقولة ذات طابع أيديولوجي بحت. حتى أن هناك مَن يتطاول ويفترض أن ظاهرة «العروبة» سبقت الفتح/الغزو! هذه الثوابت التي يبحث عنها القوميون تتنافى والبحث العلمي. هذا المطلق هو النمط نفسه الذي يدور حوله خطاب الإسلاميين، وهو ما أدى إلى «أن مَن تبقى من القوميين بعد هزيمتهم السياسية، مالوا إلى الاندماج مع الإسلاميين في تكتل سياسي موّحَد.. وما كان من الشعوب إلا تكريس انتمائها إلى عقيدة دينية حلّت محل العقيدة القومية».

عن الإسلام السياسي
في رؤية مفارقة يُشدد سمير أمين على أن الإسلام السياسي (ظاهرة حديثة) وليس استمرارا لظاهرة قديمة، «فجميع المذاهب والحركات النشيطة في العالم المعاصر هي حديثة، لأنها بكل بساطة لا يمكن فصلها عن واقع الرأسمالية». ويضيف أمين أن الإسلام السياسي المعاصر، وكذلك المسيحية الأصولية الأمريكية، ينتميان إلى هذه المجموعة التي تقدم إجابات لا تعتمد على تحديد علمي، وبالتالي تروي أوهاما خطيرة حول قدرتها على تغيير العالم. ومن ناحية أخرى لا يصح الجمع بين ظاهرة إسلام الضواحي في أوروبا وأمريكا، وظاهرة الإسلام السياسي في المجتمعات الإسلامية، فالأولى لا تعدو كونها انتفاضات مهاجرين فقراء، شأنها شأن الاحتجاجات الاجتماعية الأخرى، فهي رد فعل اجتماعي طبقي قبل أن يكون ثقافيا. والنظر إلى الإسلام السياسي من خلال خطاب عام، أمر في غاية الخطورة، فهناك فارق كبير بين الإسلام السعودي والباكستاني من جانب، والإسلام في الدول الأخرى، فالوهابية ظاهرة خاصة وصورة لنمط غليظ من العقيدة، نتاج مجتمع ظلت تحكمه أشكال عتيقة من الممارسات التي من الممكن أن تكون سابقة على الإسلام نفسه، هذه الممارسات التي أصبحت مذهبا حليفا للولايات المتحدة، كما ساعدت الثروة النفطية على انتشار هذا المذهب في صفوف الإسلام السُني المعاصر، ترتبت عليه ردّات تدميرية، متمثلة في سلوك رجعي لأقصى حد، اختزل العقيدة في شكلها الطقسي، وأصّل لعنصرية طائفية متعصبة. بينما في باكستان نجد أن السلطات البريطانية اجتهدت في القضاء على حركة التحرر والتحديث التي طالت الهند، فما كان منها إلا اختراع مذهب الإسلام السياسي الذي تبناه أبو الأعلى المودودي، والذي أقيمت على أساسه دولة باكستان. أما مقولة إن الإسلام في حد ذاته محور المقاومة ضد الكولونيالية، فهو تزييف كبير للتاريخ. فعلى سبيل المثال، لم تقاوم السلطات الفرنسية الإسلام، عندما كانت في الجزائر، بل اعتمدت على رجال الدين السلفيين، وأعطتهم سلطة تنفيذ الشريعة على أهل البلد، حتى أن الجمهورية الجزائرية هي التي قامت على استحياء بعلمنة جزئية للقوانين. وبالنسبة لمقولة إن الإسلام السياسي يحارب الولايات المتحدة، فهو ما تروّجه الولايات المتحدة نفسها، لأنه الوحيد الذي يعطي للولايات المتحدة الشرعية لمشروع سيطرتها العسكرية، والمعروف باسم (الحرب على الإرهاب). وبذلك لم يعلن الإسلام السياسي الحرب ضد الولايات المتحدة، بل هي التي اتخذت المبادرة، وما اختيارها للشرق الأوسط كبداية بسبب أن الشعوب التي تسكنه مُسلمة، بل لأسباب أخرى، أهمها.. الثروة النفطية والموقع الجغرافي، الذي يتيح لها استيطان قواعد عسكرية دائمة، قادرة على تهديد الصين وروسيا، إضافة إلى الهند عند الضرورة، وبالتالي يكون الإسلام السياسي قد ساعد وكرّس العودة إلى مفاهيم عصر الانحطاط.
عن ثورات الربيع العربي
وعن رأيه في ثورات الربيع العربي يقول أمين.. ما جرى في مصر لم يكن متوقعا. كنت أرصد غليانا في الشارع توقعت أن يؤدي إلى إصلاحات، لكن الأنظمة لم تلتفت إلى ضرورة الإصلاح، فكانت الثورات، إن ما حدث أكبر من انتفاضة وأقل من ثورة، هو مجرد خطوة ثورية، تليها خطوات أخرى. كي نسمي ما جرى ثورة، لا بد من تحقيق ثلاثة أشياء: العدالة الاجتماعية، ولا يحدث ذلك إلا بسياسة اقتصادية مختلفة عما كان سائدا. ثانيا، ديمقراطية حقيقية للمجتمع، وهذه أكثر من مجرد انتخابات، بل دمقرطة للعلاقات الاجتماعية في العائلة والعمل. وثالثا تحقيق استقلالية للوطن في المنظومة العالمية. وللأسف الثورة لم تحقّق أيا من هذه الأهداف حتى الآن. لكنها كأهداف موجودة بقوة في أذهان الشباب. ولاستمرار الثورة، يجب تأسيس برلمان مواز للبرلمان المقبل، يضم القوى الوطنية الساعية إلى أن تصبح مصر دولة مدنية، ويمثل قوة ضغط ومحاسبة للبرلمان المنتخب. وهو الأمر الذي يجعل جذوة الثورة مشتعلة دوما. ويختتم أمين رؤيته في إحدى حوارته الصحافية قائلا، اعتقد أن الشغل الأساس هو شغل على مستوى الأفكار، فالأفكار الموجودة حاليا غير مقبولة. سكوت المثقفين كارثة، والتحالف مع المتطرفين مرفوض، والتعاون مع السلطات القمعية لن يؤدي إلى مكان. أما الحل الوحيد فهو الصراع من أجل ديمقراطية مستقلة عن النمط الأمريكي، ديمقراطية مرتبطة بالمصالح الحيوية للطبقات الاجتماعية، كما يمثلها مجتمع مدني حقيقي، في إطار علماني، غير ملحد، يلغي استغلال الدين وأي أيديولوجية.
بيبلوغرافيا
ولد سمير أمين في محافظة بور سعيد عام 1931 لأب مصري وأم فرنسية، حصل على الشهادة الثانوية عام 1947 في مدرسة فرنسية، وبعدها غادر إلى باريس، حيث حصل على دبلوم في العلوم السياسية في عام 1952، والدكتوراه في الاقتصاد في جامعة السوربون عام 1957، وعاد بعدها إلى مصر، التي غادرها عام 1960 إلى باريس بسبب أزمة الحركة الشيوعية مع عبد الناصر.
عمل أمين مستشارا اقتصاديا في مالي والكونغو ومدغشقر وغيرها من الدول الإفريقية، كما عمل مديرا لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي في داكار لعشر سنوات طوال سبعينيات القرن الفائت، حيث تصدى لمقولات عديدة سائدة عن التنمية والتحديث وخطط المؤسسات المالية الدولية، وشارك أثناء عمله هذا في تأسيس منظمات بحثية وعلمية إفريقية مثل المجلس الإفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية والاقتصادية (كوديسريا) ومنتدى العالم الثالث.
المؤلفات: أصدر سمير أمين العديد من المؤلفات، بعضها بالعربية والآخر بالفرنسية والإنكليزية، منها على سبيل المثال.. «التراكم على الصعيد العالمي» 1973، «التطور اللامتكافئ» 1974، «الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الإمبريالية» 1980، «قانون القيمة والمادية التاريخية» 1981، «أزمة المجتمع العربي» 1985، «ما بعد الرأسمالية» 1988، «نحو نظرية للثقافة» 1989.

في رحيل سمير أمين.. صاحب نظرية المركز والأطراف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Bilal:

    سمير أمين

إشترك في قائمتنا البريدية