«الضابط»: حكاية أخرى من حكايات سجون مصر

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: «ما الذي يجعل وجوه هؤلاء الغرباء مُحمّلة بكل هذا الانتشاء حين ننكسر، ما الذي يجعل جباههم تتألق إذا داسوا جباهنا بنعالهم؟ لماذا يكرهوننا؟ وكيف لا ترف لهم عين حين يلحقون بنا الأذى؟».
يستعرض الكاتب المصري أحمد زين تجربته في السجون المصرية، خلال منتصف تسعينيات القرن الفائت، وقت المخلوع مبارك في ما سماه بـ(سردية ذاتية) بعنوان «الضابط الذي ترتعش فتحتا أنفه حين يغضب أو يتوتر» والصادرة مؤخراً عن دار جسور للترجمة والنشر. ورغم أن الأدب المصري يزخر بالعديد من التجارب التي تستعرض حياة السجن وأصحابه، في ما تعارف عليه بـ(أدب السجون) سواء صدر ذلك في رواية أو كتاب أشبه بالتوثيق لهذه التجربة أو تلك، إلا أن لكُتاب اليسار اليد الطولى في مثل هذه الكتابات، واللافت في هذه التجربة أن صاحبها ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي، بغض النظر عن تصنيفات الجماعات والفرق المتباينة، وهي فرصة مناسبة لمعرفة وجهة نظر أخرى غير معتادة في هذا الشكل من الكتابة.

عائلات النضال

لم يأت وعي الكاتب من فراغ، إذ نكتشف معه أن والده أيضاً كان مناضلا قديما، دفع ثمن أفكاره سجيناً لسنوات، ثم بعد ذلك شقيق الكاتب.. «أبي قد اعتقل وهو طالب في عامه الأول في كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1954 لاشتراكه في مظاهرات ضد عزل محمد نجيب وإلغاء الأحزاب، وتقليص الحريات المعروفة بأحداث مارس/آذار 1954، وكانت تهمته أنه تبرّع لبعض المعتقلين من جيرانه من الإخوان المسلمين، الذين كان متعاطفا ونصيرا لهم، وانتهى به الأمر محكوما عليه بالسجن خمس سنوات». ويعود موضحاً في نهايات الكتاب.. «وظهر لي أننا عائلة معارضة، هناك جذور نمت في العائلة ربما عبر الأب، الذي كان يحكي عن عذاباته في المعتقل، وعن أحلامه بتحرير فلسطين، وبالحرية والكرامة في وطنه مصر، حكاياته عن النضال المستمر للمصريين في ثورات عرابي وثورة 19، حديثه عن الوطن برومانسية وحلم، كل ذلك أنبت فينا نحن الأولاد ـ على غير إرادته ـ اهتماما بالشأن العام، والتصاقا بالقضايا الوطنية والقومية، ومشاركة في الأنشطة والفعاليات العامة، مهما كلفنا هذا الأمر».
ورغم أن الفتى هنا رئيس اتحاد الطلاب في كلية دار العلوم، إلا أن هذا المنصب لم يعطه حصانة أمام ضابط أمن الدولة الموجود في الجامعة، الذي استعاض عنه الكاتب بوصفه عنوانا للرواية، وهو الذي رافق الكاتب بداية من اعتقاله داخل الحرم الجامعي وحتى خروجه على ذمة القضية، والذي أخبره وصيته بأنه لن يتركه لحاله أبداً، وقد أصبح يمتلك ملفاً سيتضخم بمرور الوقت في مقر أمن الدولة.. «لكن النظام لا يزال يعتبر كل مَن عمل بالسياسة، وإن هجرها، خطرا عليه، ومع كل حدث كبير يقلِّب في دفاتره القديمة ليتعقبهم». مع العلم أن الراوي كان من سُكان منطقة (إمبابة) في القاهرة، التي كان يُطلق عليها (جمهورية إمبابة) وكانت معقلاً للمتأسلمين.

تجاور الأزمنة

يستدعي الكاتب عدة أزمنة وأحداث، ترتبط في شكل غير مباشر بآلة القمع المتواصلة، بداية من تغيّر اسم (أمن الدولة) من القلم المخصوص، إلى القلم السياسي، مروراً بأمن الدولة، ووصولاً للأمن الوطني، وما هي إلا أسماء مختلفة لمعنى واحد هو الاكتشاف والقضاء على أي محاولة أو رأي مخالف للنظام السياسي القائم. ويبدو تجاور الأزمنة هذا، وكذا بعض الأحداث الدالة، كاغتيال السادات، أحداث الأمن المركزي، اغتيال إسحق رابين، مجزرة قانا، إضافة إلى تواتر بعض الأحداث من طفولة الكاتب.. كإدمانه على قراءة قصاصات الصحف التي كانت تغلف أقراص الطعميّة، واختياره في الإذاعة المدرسية، وكذلك فريق التمثيل. لكن الملاحظ على هذه الفقرات، أنها جاءت في صيغة إسقاطات مباشرة تفتقر كثيراً إلى جماليات الأدب، وليس أدل على ذلك، من المسرحية المدرسية التي قام بأداء أحد أدوارها.. «يقع الفدائي المصري في أيدي قوات الاحتلال الذين يطلبون منه أن يمدهم بمعلومات حول المقاومة الشعبية. الحوار: وعايزني أخون بلدي؟ يصمت قليلا، ويتابع ببسمة ساخرة: يبقى أنت متعرفناش.. متعرفشي يعني إيه المصريين.. أنا يمكن أبان قدامك فلاح غلبان وفقير، لكن أنا من جوايا بطل لا يمكن أخون أبدا أهلي وناسي، حتى لو كان التمن اللي هدفعه حياتي». وبالطبع يتم ذكر هذه الذكرى وقت التحقيق معه في أمن الدولة.

أزمة الخيال

من الصعب مُطالبة كاتب يحاول توثيق تجربة مثل هذه ـ الاعتقال والسجن ـ بأن يرتفع بخياله لتجاوز الحدث الحقيقي، لكن هناك بعض الفقرات تكشف عن أزمة في هذا الخيال، حتى أن هناك سذاجة في الوصف والتفاصيل. فهو على سبيل المثال كان ضمن مجموعة في سيارة الترحيلات، من مقر أمن الدولة في الجيزة ـ يطلقون عليه جابر بن حيان ـ إلى مبنى النيابة، والمشهد المألوف هنا هو مُطالعته من خلال الشباك المسيّج الضيق للعربة الشوارع والبنايات، فيقول.. «أتخيل حدوتة لكل شيء أراه، هذه النافذة المضاءة في البناية البعيدة، تقف خلفها فتاة تهاتف حبيبها، الدم يتدفق إلى ملامحها من الخجل، ربما قال لها كلمة حب، وربما طالبها بها، تخفض صوتها حتى لا يسمعها أبوها الذي يتغافل عن مكالمات ابنته، لا يرجو إلا سلامتها، وسعادتها.. هذا أتوبيس متأخر يستقله رجل أربعيني يسند رأسه المرهق على النافذة، ربما يفكر في ديونه، أو يحلم بعشاء ساخن قبل نوم عميق يستعين به على يوم جديد من العمل وعمر مقبل من التعب والآلام».

ما يُشبه الختام السينمائي

وبما أنها تجربة شاركه فيها آخرون، ولا بد من لملمة الأوراق، وكما في أفلام الشخصيات المتناثرة، أو ربما للتأكيد على الحِس الوثائقي، الذي لو التزم به الكاتب فقط لخرج سالماً من عدة مآزق جمالية، يذكر مصير الشخصيات، كما في اللحظات الأخيرة من نزول تيترات نهاية أفلام على هذه الشاكلة.. «يمارس جعفر التدريس، ويعد واحدا من أفضل مدرسي اللغة العربية للمرحلة الثانوية في محافظته، لا تفارقه ابتسامته ومرحه. اتجه خيري للبحث الأكاديمي كمهنة وهواية معا، ولا يزال يدهشنا بثقافته الغزيرة ولطفه البالغ. صلاح صار واحدا من أهم وكلاء لاعبي كرة القدم في مصر. جاب وليد كل أقطار آسيا وافريقيا تقريبا ليتابع إسهامات تخصصه الدقيق في تأهيل المعلمين المتخصصين، تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، التي أصبح أحد أبرز الأسماء في ميدانها. ولمصطفى إسهاماته المعروفة في مجالات الفن والغناء وتقديم البرامج التلفزيونية.
أما إسلام عباس، الذي يظل أكثر البشر الذين قابلتهم نقاء على الإطلاق؛ فقد تلقى رصاصات قاتلة في عصر 16 أغسطس/آب 2013، خلال اعتصامه السلمي في ميدان رابعة العدوية».
بس خلاص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية