بين العربي وإنسان نيتشه الأخير

حجم الخط
0

■ في مقاله الأخير في «نيويورك تايمز» قبل أسبوعين حول داعش، يخصّص سلافوي جيجك جزءاً ليس بقصير لتكرار انتقاده الدائم للإنسان «الغربي»، إذ يرى أن نبوءة نيتشه قد تحقّقت، فالحضارة الغربية كما يرى تسير نحو «الإنسان الأخير»، وهو المقابل للـ»إنسان المتفوق» أو الـ»فوق- بشري» الذي دعا إليه نيتشه. الإنسان الغربي الآن، حسب جيجك، هو إنسان نيتشه الأخير: مخلوق لا مبال، بلا أي شغف أو التزام حقيقيّين، غير قادر على الحلم، متعب من الحياة، لا يخاطر بشيء، ويسعى فقط إلى الراحة والأمان. «نحن في الغرب إنسان نيتشه الأخير، منغمسون في ملذّات يومية غبيّة، بينما المتطرفون المسلمون مستعدون للمخاطرة بكل شيء، منخرطون في الصراع إلى حدّ تدمير الذات».
من جهة أخرى يقتبس جيجك وصفاً للمأزق الإنساني العام من الشاعر الإيرلندي ييتس: «إن الأفضل (من الناس) ينقصهم الاعتقاد، بينما الأسوأ مملوءون بالحدّة الشغوفة»، ويرى في ذلك وصفاً ممتازاً للانقسام بين «الليبراليين المصابين بفقر الدم» و»الأصوليين الشغوفين»، إذ «الأفضل» لم يعودوا قادرين على الانخراط والمشاركة، بينما ينخرط «الأسوأ» في أشكال من التعصب العنصري والديني والجنسي.
قد تبدو فكرة جيجك فادحة في الاختزال والتعميم والتبسيط، وهو متهم عادة بالكثير من الخلط وانعدام الدقة العلمية. على أن فيما يقول شيئاً من رائحة الحقيقة، سأحاول الاقتراب منها للإجابة عن السؤال حول موقع الإنسان العربي الآن من إنسان نيتشه الأخير، منطلقة من فكرة جيجك في امتداح الشغف، ومن فكرة مشابهة لميشيل فوكو وردت في أحد الحوارات معه حول تونس (نشرت ترجمة له صحيفة العرب اللندنية في مارس الماضي، وكان د. فتحي التريكي قبلاً قد تناول «اللحظة التونسية» عند فوكو في ورقة نشرت في كتاب «الفلسفة في الوطن العربي في مئة عام»). في الحوار يقارن فوكو بين «المناقشات الأكاديمية الباردة» حول الماركسية أوائل الستينيات في فرنسا، و»العنف الراديكالي» و»الاندفاع القوي العجيب» نحو الماركسية عند شباب تونس، الذي أصاب فوكو بالـ»ذهول»، إذ رأى أنه «لا توجد هناك مقارنة بين متاريس الحي اللاتيني وخطر قضاء خمس عشرة سنة في السجن، كما الأمر في تونس». ويتابع: «لم يكن مايو 1968 بفرنسا هو ما غيّرني، بل مارس 1968 في بلد من العالم الثالث». بالنسبة لـ»أولئك الشبان الصغار» حسب فوكو، فإن الماركسية «لم تكن تمثل فقط طريقة لتحليل الواقع، بل كانت أيضاً نوعاً من القوة الأخلاقية، وفعلاً وجودياً»، مشتعلا بالـ»رغبة، والقدرة، وإمكانية التضحية المطلقة»، نتيجة ما لم يحتمله الشباب من آثار الرأسمالية والكولونيالية والكولونيالية الجديدة.
لا يكاد إذن تصور نيتشه عن «الإنسان الأخير» ينطبق على الإنسان العربي، بسبب استمرار وجود «شغف» بل وراديكالية ما أعادت الانتفاضات والثورات العربية، منذ ثورة تونس، الإيمان بوجودها، وإن كانت بعض صور الإنسان الأخير كما صاغها جيجك تنطبق على العربي اليوم («لا يريد سوى الراحة والأمان»، «متعب من الحياة»). قبل عامين، نشرت مجلة Philosophy Now حواراً تلفزيونيا متخيلاً بين إنسان نيتشه المتفوق وبين الأخير، وبينما كان الأول بلا اسم يسأله مقدّم البرنامج عن شبهه بالديكتاتوريين أمثال هتلر وموسوليني وبفنانين كفاجنر، اختار الكاتب كارل موراي أن يكون «الإنسان الأخير» هو الشخصية التلفزيونية المعروفة هومر سيمبسون، البليد السعيد بحياته العادية، بلا طموح أو أفكار كبيرة، بلا رغبة ببطولة أو إبداع، وهو نتاج مجتمع صناعي ينتج بشراً متشابهين كما ينتج البضائع بالجملة. لا شك في أن تكرار نموذج الإنسان العادي أو المتوسط في الكثير من الأعمال الغربية قد يتضمن أحياناً رفضاً وانتقاداً ومراجعة ما، كما في فيلم «American Beauty» الذي وُصف بأنه عمل يسخر من مفاهيم الطبقة الوسطى للجمال ومن حياتهم الفارغة التي تفضح خللا ما في الحياة الأمريكية، ومؤخراً The Incredible، إذ تسأل البطلَ الخارق بوب زوجتُه لماذا لا يريد الذهاب إلى حفل «تخـرّج» ابنهما، فيجيبها أنه ليس تخـرّجاً، بل إن ابنهما قد انتقل ببساطة من الصف الرابع إلى الخامس، فتقول هي «إنه احتفال!»، فيجيبها بأنه «اضطراب عقلي» ويضيف: «إنّ الناس يبتكرون باستمرار طرقاً جديدة للاحتفاء بالعادية، أما عندما يكون الإنسان استثنائياً…». لقد نبه مرة جيل دولوز إلى أن عبقرية بلزاك تكمن في قدرته على جعل الشخصيات بالغة العادية والغباء «عملاقة»، كما فعل في الأب غوريو، لكن الأدب بشكل عام طالما أخاف القارئ من مصائر هذه الشخصيات بطريقة بارعة، ومن أكثرها تأثيرا عليّ شخصياً رواية «التربية العاطفية» لفلوبير، التي يفشل فيها كل الشخوص في تحقيق شيء مهم في عالم مليء بالإلهاءات، ربما بسبب «نقص في الاستقامة» كما يقول فريديريك لصديقه في نهايتها. «والاستقامة»، كما الشغف والالتزام، هي ما يراها جيجك حاضرة اليوم عند «الأسوأ» من البشر، وهو تماماً ما عبر عنه عبد الإله بلقزيز بعدما رأى نتيجة الثورات العربية في مقال له بعنوان «الثورة: عنفوان البدايات، تواضع النهايات»، إذ كتب: «أسوأ شيء أن يناضل المرء عن قضية عادلة بعقل مغفّل».
مع كل ذلك فإن العربي ليس تماماً نسخة عن إنسان نيتشه الأخير، رغم أنه قد يشبه أحياناً هومر سيمبسون في نقص «الشغف» أو «العنفوان» وفي «العقل المغفّل»، وفي الاحتفاء بما لا قيمة له، وفي حياة تبدو عادية فارغة، خاصة مع قدرة الإعلام على تجميل «الحلم الأمريكي» والحياة الغربية، حيث للإنسان على الأقل حرية وكرامة وحقوق وحد أدنى من أمان مادي. عائلات بأكملها تجلس لتشاهد Arab Idol، وتفكر فيما ستأكل، وتدرس ما يراد لها، وتعمل، وتتزوج، وتنجب، وتخرج أو تسافر قليلاً، وهكذا، وهو كله محكوم بوضع اقتصادي رديء في أغلب الأحوال يضخم قيمة هذه «الأحلام» ويجعلها مشتهاة لأنها صعبة أو بعيدة المنال، بل ربما لو تحسن الوضع الاقتصادي لما قاد إلا إلى بيت أفضل، وسيارة أفضل، وتلفزيون أكبر، وتعليم أفضل من أجل وظيفة تدر ما يعيد الكرّة، مما يقرب العربي من إنسان نيتشه الأخير. لكن في الجانب الآخر الذي ظهر مع الثورات العربية ومع روح الاحتجاج والاعتراض والامتعاض والشكوى اليومية المستمرة من الوضع العام، لا يمكن وصف الإنسان العربي بـ»فقر الدم» الروحي، إذ قد لا يكون سبب «عاديته» عدمية ثقافية بقدر ما هو عجز: سياسي وفكري واقتصادي عن إيجاد حلول قد يكون المسؤول المباشر عن غيابها النخب الثقافية والحزبية والأكاديمية، التي لم يكن لها أدنى دور في ما ظهر في الثورات العربية من «شغف» منذ تونس. لذلك فإن الـ»عنفوان» لم يجد اقتراحات حقيقية لترجمته، فكان يخبو وينام (في الأردن مثلاً)، أو ينتج بدائل سياسية بائسة بعضها متخلف متطرف، وبعضها يعيد إنتاج الاستبداد، أو مخارج فنية وفكرية تأبى دوماً أن تقترب من نموذج نيتشه للإنسان المتفوق الذي يعيد النظر في كل القيم من حوله، ويحاول بديلاً شجاعاً عنها، ويعيش حياته بأكملها بشغف معرفي وجمالي حقيقي. هناك الكثير بالتأكيد ممن يحاولون الاختلاف، لكنهم (أو لكننا) نتاج أنظمة تعليمية لا تؤسس إطلاقا لثقافة حقيقية تصنع وعيا بالتاريخ الذي يراد الاختلاف عنه، والنتيجة اختلاف مظنون، هو في معظمه تقليد بل نَسخ لأفكار سابقة لا ابتكار حقيقياً فيها. ورغم أن أشكال الخطاب الفنية والفكرية المتعددة تحاول الاقتراب من مأزق الإنسان العربي بين شروط حياته الواقعية وأحلامه التي تنتهي بخيبة أمل مستمرة، إلا أن اللافت للنظر أن من بين كل أشكال الخطاب (قد تبدو الفكرة متسرعة) يبقى الشعر وحده الذي لم يتوقف عن المناداة بما يشبه نداء نيتشه للإنسان المتفوق: بين «أريد من زمني ذا أن يبلّغني…» و»إذا غامرت في شرف مَروم…» للمتنبي، وبين «سأصير يوما ما أريد» و»سنكون يوماً ما نريد» لدرويش أكثر من ألف عام. على أن قلة يوجههم الشعر وتطرفه الأبديّ («فلا بدّ أن يستجيب القدر»)، وقلة أصلاً ممن يرومون وجوداً استثنائياً يمتلكون إمكاناته، ويعتقدون أن كلها مرتبط بالظروف، فيحنّون كثيراً إلى «الهجرة إلى الشمال» كخلاص فرديّ لا بديل عنه.
من الصعب لمن يعرف وصفَي الإنسان المتفوق والأخير في «هكذا تكلم زرادشت» ألا ينتبه لتأثير دوستويفسكي المعروف على نيتشه. في روايته العبقرية «الجريمة والعقاب»، جاء على لسان راسكولنيكوف «المجرم» ما يعمّق أفكار نيتشه وفوكو وجيجك، ويشرح الشغف الذي يمتلكه «الأسوأ» حسب ييتس، والسبب الذي يجعل ترجمته فاشلة إلى حدّ فادح: «أمّا بالنسبة إلى تصنيفي الناس إلى عاديّين واستثنائيّين، فأنا أعترف بأنّ هذا التصنيف عشوائيّ إلى حدّ ما (…) فهناك الفئة الدنيا (العاديّة)، أيّ، دعني أقول، تلك الفئة التي لا تقدّم سوى مادّة للحفاظ على الجنس، وأولئك الذين يتمتّعون بملكة أو موهبة تصوّر عالم جديد. وهناك طبعاً عدد غير محدود من التقسيمات الفرعيّة، ولكنّ المهم هو أنّ العلامات الفارقة لكلا الفئتين واضحة بما يكفي. فالفئة الأولى تتكوّن، عموماً، من أناس محافظين بالفطرة ومُطيعين للنظام، فهم يعيشون خاضعين ويحبّون أن يُخضَعوا. ووفقاً لطريقتي في التفكير فإنّه من واجبهم أن يُخضَعوا لأنّهم وُجدوا من أجل هذا، وليس في الأمر ما يهين بالنسبة لهم. أمّا من ينتمون إلى الفئة الثانية فيتجاوزون جميعاً القانون، فهم مدمّرون أو مستعدّون للتدمير حسب طاقتهم. إنّ جرائم هؤلاء الأشخاص متنوعة ونسبيّة طبعاً؛ وبالنسبة إلى الجزء الأعظم منهم، فهم يسعون إلى تدمير الحاضر من أجل ما هو أفضل. وإذا اضطر الواحد منهم أن يمشي فوق جثّة ما أو أن يشقّ طريقه عبر الدماء في سبيل فكرته، فأنا أؤكد أنّه سيجد في نفسه وفي ضميره مبرِّراً للخوض في الدماء، ولكن لاحظ أنّ ذلك يعتمد على الفكرة وأبعادها. «
«الفكرة وأبعادها». هنا، ربما، جوهر المسألة. «داعش» مثلاً، بلا شك، فئة متمردة غير مطيعة للنظام وتحاول تغيير العالم، لكن ذلك لا يجعلها استثنائية بمعنى نيتشه إلا من جهة الشغف والاعتقاد والالتزام، كما قال جيجك، فهي في النهاية فئة تتبع نسخة فكرية رديئة (ناقصة الملكة والموهبة والتصور حسب راسكولنيكوف) ستعيد الحضارة قرونا إلى الوراء، ولن تساهم في أي إبداع فردي أو جماعي جديد، بل ستكبته بكل قوتها وهنا المفارقة: شغف مصيره أن يقمع شغفا قد يكون منتجا بحق. لقد نبه فوكو في معرض حديثه عن تونس إلى أمر سلبي رغم المديح الظاهر للـ»التزام الوجودي المباشر». فقد ذكر أن الإعداد النظري الماركسي المقدم للطلبة التوانسة «لم يكن معمقا ومطورا على نحو عميق جدا»، بل إن «دقة النظرية ومميزاتها العلمية كانت قضية ثانوية بالكامل، وأنها قد شُغّلت في السجالات كأداة للتضليل أكثر من تشغيلها كمعيار حقيقي وصحيح ومناسب للسلوك.» والملاحظة نفسها أبداها بلقزيز في سياق بعيد أكثر من أربعين عاماً حول الحركة الشبابية العربية منذ ثورة تونس، إذ رأى أنها تعاني من «حالة من الفراغ التنظيمي والرؤيوي والبرنامجي»، أدت إلى أن تسرق ثورتهم الأحزاب التي لم تشارك معهم في تدمير السلطة الحاكمة.
إن فراغ الوعي إلا من تصورات هشة حول الدولة والمدنية والعلمانية والديمقراطية والحرية والعدالة والحضارة والوجود والمعرفة بات حقيقة قبيحة يثبتها الواقع السياسي والاجتماعي كل يوم. لكن الواقع نفسه الذي أنتج الأصولية والتطرف أثبت أيضاً أن الإنسان العربي لا يقدر إلا على الحلم (فهو بالكاد يملك سواه) وإن أحاله كابوساً في الواقع، ولذلك فهو لا يشبه كثيراً، إلا في بعض الأعراض، وبسبب الحلم والشغف والعنفوان، إنسان نيتشه الأخير.

٭ كاتبة أردنية

د. بلقيس الكركي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية