المسحراتي.. مهنة تعاند الزمن

حجم الخط
0

لندن – «القدس العربي»: يشق بصوته سكون الليل، يجوب شوارع وأزقة المدينة ضارباً على الطبل ومغرداً بالأهازيج: ”يا نايم وحّد الدّايم”، ”قوموا إلى سحوركم جاء رمضان يزوركم”. إنه المسحراتي أو «المفلّح» كما يطلق عليه في بعض مناطق اليمن، ذلك الرجل الذي يقوم بتنبيه الصائمين بوقت تناول وجبة السحور قبل أذان الفجر في ليالي شهر رمضان المبارك. هذه الشخصية التي إرتبط ظهورها بفرحة قدوم شهر الصوم لطالما أيقظت الكثير منا قبل آذان الفجر حاملة معها معانٍ روحانية تعدت مهمة مجرد إيقاظ السكان لتناول الطعام. ففور سماع خطواته المنتظمة مع إيقاع طبلته، يطل الأطفال من الشرفات والنوافذ ليراقبوا تحركاته وصوته وجلبابه التقليدي وكأنهم يتفرجون على عرض مسرحي يومي ينتظرونه بكامل اللهفة. ومع إنتهاء شهر رمضان يعطيه سكان وأطفال الحي ما تيسر من مال وحلويات ويبادلونه عبارات التّهنئة بالعيد السّعيد ومنهم من يسير خلفه في المناطق الشعبية والقرى. هذه هي الطقوس المعتادة للمسحراتي، إلا أنه ومع تطور المجتمع تكنولوجيا وظهور الأجهزة الذكية، أضحى المسحّراتي أشبه بفولكلور رمضاني عفا عليه الزمن وغيرت معالمه وطقوسه الأجيال عبر السنين. 1161 هو عمر تلك المهنة حتى يومنا هذا، شهدت مولدها ونموها، فتوتها وأفولها، حتى اقترابها من الإندثار.

كيف بدأت مهنة المسحراتي وكيف تطورت؟

ظهرت مهنة المسحراتي في عصر الدولة العباسية خلال عهد الخليفة المنتصر بالله. ويذكر المؤرخون أن والي مصر، عتبة بن إسحاق، هو أول من طاف شوارع القاهرة ليلا في رمضان لإيقاظ أهلها ودعوتهم إلى تناول طعام السحور في العام 238هجرية (853 ميلادية)، ليصير هو «المسحراتي» الأول.
«عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة»، كان نداؤه .. ومرت السنون ليتطور النداء ويصير أشهره «اصحى يا نايم .. وحد الدايم» وتضاف أدوات الطبل والمزمار إلى صوته الجهير للمساعدة في تنبيه النائمين ليستعدوا للصيام .. بالماء والطعام. وبحسب خبراء فإن المسلمين كانوا منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفون وقت السحور بأذان بلال بن رباح، ويعرفون المنع بأذان ابن أم مكتوم فقد كان هناك أذانان للفجر أحدهما يقوم به بلال وهو قبيل الوقت الحقيقي للفجر والثاني يقوم به عبد الله بن أم مكتوم، وقد جاء في الحديث الشريف الذي رواه البخارى ومسلم «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وما كان الناس في المدينة يحتاجون إلى أكثر من ذلك للتنبيه على السحور طبقاً لما جاء في دراسة أثرية عن المسحراتي والمفردات الرمضانية. وكان المسحراتي في العصر العباسي يحمل طبلة صغيرة يطبل عليها مستخدماً قطعة من الجلد أو الخشب ومعه طفل أو طفلة صغيرة مع شمعة أو مصباح لتنير له طريقه وكانت النساء تترك له على باب منازلهن قطعة نقود معدنية ملفوفة داخل ورقة ثم يشعلن أحد أطرافها ويلقين بها إلى المسحراتي الذي يستدل على مكان وجودها من ضوء النار فيدعو لأصحاب البيت ويقرأ الفاتحة. وكان ابن اسحاق أول من أيقظ الناس على الطبلة بذهابه ماشياً من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص .أما أهل بعض البلاد العربيّة كاليمن والمغرب فقد كانوا يدقّون الأبواب بالنبابيت، وأهل الشّام كانوا يطوفون على البيوت ويعزفون على العيدان والطّنابير وينشدون أناشيد خاصّة برمضان. وتطورت بعد ذلك مهنة المسحراتي فاستخدم المسحر الطبلة الكبيرة منشداً الأشعار والأغاني الشعبية.
وهكذا انتشرت المهنة وشهدت أوجها، وفي عديد أشهر رمضان مضت، لم يخل شارع عربي من «مسحراتي» يقرع طبلته قبل الفجر قبل أن تشيخ مهنة المسحراتي مع مولد الأجهزة التكنولوجية الحديثة ومنبهاتها.

لبنان – المسحراتي بين الطربوش ومكبّرات الصوت

«ولا مرة إمي وعّتني حتى إتسحر، كل مرة بيمرق رمضان وبتقلي صغير، أنا حابب شوفك يا مسحّر وطبّل عطبولك، أنا حابب إكبر وإتسحر بليالي العيد، علوا البيارق علوها وغنوا للعيد». بهذه الكلمات عبر الشاعر اللبناني احمد قعبور عن علاقة الطفل بالمسحر وحرصه على مشاهدته عبر النافذة وهو يجول شوارع الحي. هذه الأغنية التي عرف بها تلفزيون المستقبل في التسعينات جسدت بالكلمة والصورة المعنى الإجتماعي والرمزي لظاهرة المسحراتي التي هي أشبه بفولكلور روحاني يزين شهر رمضان. والمسحراتي هو «الطبال» في الثقافة الشعبية اللبنانية، الذي لا يزال يحاول التغلب على مظاهر الحياة العصرية، فلا يزال الكثير من سكان أحياء بيروت الشعبية وغيرها من المدن يستفيدون من خدمات المسحر الذي يرتدي عباءة أو دشداشة بيضاء. وغالباً ما يكون لكل منطقة أو حي، طبال من ابنائه، يؤدي مهنة المسحراتي التي يتوارثها اباً عن جد، مقابل مبلغ مالي متواضع يناله آخر أيام شهر رمضان أو أول أيام عيد الفطر. وقديماً كان المسحراتي اللبناني يرتدي الجلباب البيروتي او «القمباز» والطربوش الأحمر. اما اليوم فالبعض يرتدي الدشداشة البيضاء، والبعض الآخر يكتفي بالزي العادي.
وفي الأعوام القليلة الماضية برزت ظاهرة جديدة في لبنان لدعوة الناس إلى السحور، إذ تمرّ سيّارة تضع على سقفها مكبّرات الصوت وتصدح منها الأناشيد الدينية الإسلامية وتتخذّ من بعض الأماكن محطات مؤقتة للوقوف ثمّ تكمل سيرها حتّى تنتهي من المنطقة المكلّفة بها.

اليمن – مضغ القات ينوب عن المسحراتي

«قم يا صائم وحّد الدائم .. سحورك يا صائم سحورك يا صائم» بهذه العبارة يبدأ المسحراتي بالطواف بأزقة وشوارع اليمن، وهو يقرع طبله بدقات معتادة قبل ساعتين من السّحور ويتحلق حوله الأطفال والصبية الصّغار ويرددون أهازيجه الرمضانية وهم يمشون معه في الحي أو كما يسميها الناس (الحافة). ولكن على الرغم من تمسك أهل اليمن بالكثير من طقوس شهر رمضان إلا أن كبار السن يرون أن الكثير من العادات الرمضانية الجميلة اختفت خلال الأعوام الماضية بفعل عوامل أخرى ومن أبرزها مهنة المسحراتي. ويرى البعض أن هذه المهنة بدأت تغيب مع إنتشار ظاهرة التخزين أو مضغ القات فى اجتماعات يطلق عليها «المقيل» حيث تكتسب هذه العادة أهمية أكثر في أيام رمضان حيث يستعين الرجال بمضغ نبات القات لمساعدتهم على السهر حتى وقت السحور لما له من خصائص منشطة تحرم متعاطيه من النوم.

مسحراتي مصر- مهنة إرتبطت بالحكايا الشعبية

واتخذت بعداً فنياً على يد الشاعر فؤاد حداد

ارتبطت شخصية المسحراتي في مصر بالزينة والفوانيس، كما ارتبطت بالسير والحكايات الشعبية مثل «ألف ليلة وليلة» و»ابو زيد الهلالي» و»علي الزيبق». ورغم ظهور الأجهزة الذكية والمنبهات فإن المصريين يفضلون سماع طبلة وصوت المسحراتي في ليالي رمضان، كما يقول المسحراتي في شوارع القاهرة عادل العيسوي في تصريحات صحافية خلال جولاته: «رمضان من غير مسحراتي مينفعش» لأنه يعرف بين المصريين من زمن. يطلون من الشرفات والنوافذ عند سماع الطبلة ويبدأون بالتهليل والمناداة بأسمائهم التي أصبحت أحفظها كل عام في هذا التوقيت عن ظهر قلب.
ويختلف شكل المسحراتي في بعض المناطق في مصر من البحراوي والبدوي والصعيدي فهو ينادي بالمدائح النبوية في المناطق الصحراوية ويطوف شوارع القاهرة مردداً الأناشيد والأغاني الرمضانية ويدق أبواب سكان الحي في الأسكندرية. وبدأت مهنة المسحراتي تأخذ مسارًا جديدًا بداية من أربعينيات القرن الماضي، واتخذت بعداً فنياً على يد الشاعر فؤاد حداد والموسيقار سيد مكاوي فمن أشهر وأجمل البرامج الرمضانية التي وثقت لتلك المهنة، برنامج «المسحراتي» الذي ما زالت كلماته تتردد في القلوب منذ الطفولة: «اصح يا نايم.. وحد الدايم.. وقول نويت.. بكره أن حييت.. الشهر صايم… والفجر قايم… أصح يا نايم.. وحّد الرزاق».

المغرب – «النفار» عرش يصارع التكنولوجيا

يحرص أهل المغرب على الحفاظ على العادات الشعبية والتقليدية في شهر رمضان، ومن معالم هذا الإرث الرمضاني «النفار» باللهجة المغربية أو المسحراتي. ومصطلح النفار لم يأت محض صدفة وإنما جاء نسبة إلى آلة النفخ النحاسية الطويلة الشهيرة. أما أصلها العربي فهو النفير، وتعرفه القواميس بالبوق الذي يضرب لينفر الناس، أي يستنفرهم، ويعجلهم للسفر والرحيل أو للجهاد. إلا أن مهنة «النفار» بدأت تغيب عن العديد من مدن المغرب بفعل إستعمال المواطنين للمنبهات على هواتفهم الذكية، ولكن إلحاح بعض النفارين على الاستمرار في أداء هذه المهنة في محاولة أن لا يكون مصيرها الإندثار، لم يحرم أهل القرى والأحياء الشعبية من متعة هذه الظاهرة الإجتماعية حتى أيامنا هذه ولم تستطع صرعات التكنولوجيا الحديثة سحب البساط عن عرشها.

مسحراتي «الجينز» و«التيشيرت»

لم يعد المسحراتي، بالضرورة، الشخص الذي يلتزم بارتداء الجلباب التقليدي المتعارف عليه منذ القدم، فبعض الشباب والأطفال الذين يرتدون الجينز والـ «تيشيرت» يتجولون في الشوارع بالطبلة، أو حتى من غير الطبلة، لإيقاظ الناس طالبين إليهم التأهب للصيام بتناول طعام السحور، في محاولة للإسترزاق وجمع العيدية في نهاية شهر رمضان. وقد يكون هذا المسحراتي شاباً وحيداً يجول الطرقات في الليل أو مجموعة من الشبان ترافقهم أدواتهم المتمثّلة بالطبل والدربكة والدفّ ويصدحون بالعبارات والكلمات التي تدعو الصائمين إلى اليقظة.

ريما شري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية