عشية نهاية الحرب العالمية الثانية لم تعد جبهات القتال تتسابق دولها نحو إسقاط القيادة العسكرية الأخيرة للحكم النازي فحسب، بل كانت جيوش (الحلفاء) الرئيسية (الروس السوفييت، والأمريكان والبريطانيون، يخوضون نوعاً آخر من التسابق المحموم فيما بينهم على احتلال القسم الأعظم من برلين، العاصمة، والفوز برموز السلطة، ورأسها هتلر. كانت ألمانيا آنذاك تعاني سقوطها المحتوم مع نظامها، وكان الحلفاء لايخوضون مرحلة التصفية الأخيرة للجيش النازي في عاصمته كغاية المنتهى من أهوال أفظع حروب التاريخ التي أودت بعشرات الملايين من الأرواح، وكادت أن تلحق بهم حضارة الغرب، لم يكن الصراع هو على احتلال مخابئ القيادة الهتلرية وأشخاصها الأساسيين المتبقين مع الزعيم المنهار، سوى آخر الطريق نحو تحقيق هذا الهدف الأعظم لأمم الغرب كافة، يصير هو الوسيلة الوحيدة للاستئثار بوراثة ألمانيا، أو على الأقل بالنصيب الأكبر والأهم من أمجاد هذه الأمة المصنَّفة لذاتها بأحادية التفوق على الجميع، في كل شأن إنساني وعلمي وعسكري وإبداعي. فقد كان هذا الصراع (العالمي) سباقاً محموماً على اغتصاب ألمانيا الحضارة العائدة إلى تفوقها المعهود وذلك ما بعد انتزاعها من براثن أوحش ديكتاتورية عسكرية لذلك العصر.
ونحن نستعيد هذه اللوحة من نماذج الصراع الدولي للإشارة فحسب ليس لإمكان تطبيقها آلياً على ظاهرة الزحمة العسكرية على أجواء وأراضي سوريا والعراق من قبل القوى الدولية والاستخبارية بهدف تقاسم هذين القطرين كمناطق نفوذ ومصادر ثروات فلكية، واكتساب مواقعهما الاستراتيجية الدولية والإقليمية، ليس لهذه الأسباب القوية المباشرة فحسب بل ربما لأهمية ما سوف يعتري هذه البلاد، ما بعد هذه الانعطافات البنيوية من واقع آخر حافل بظواهر انحرافية غير مسبوقة. فإن العالم الذي تفبركه المصالح الدولية ومعاركها الذاتية فيما بينها، سيكون مختلفاً كلياً عما كانت عليه خرائط تلك الأقطار الضحايا. لكنها هي التي سيحكم على شعوبها أن تكون الغائبة بالفعل والقوة عما يخططه الآخرون الغرباء لمصيرها. فألمانيا اليوم التي تعتبر شبه القائدة الرئيسة لاتحاد القارة الأوربية، ما زالت تشكو من عقابيل تقسيمها إلى غربية وشرقية، وإن داخل دولتها الواحدة والمتقدمة باضطراد حتى بالنسبة إلى زميلاتها الأوربية الأخرى. فكيف سيكون الأمر بالنسبة لبلاد المشرق، ودولتيه الرئيسيتن سوريا والعراق بدءاً من الحاضر المضطرب، والمسلوب الإرادة الذاتية أكثر وأكثر مع غزارة الاحتلالات والجبهات القتالية. فقد غطت هذه البؤر الموبوءة بالموت والخراب جغرافيةً أخرى، من طبيعة دموية وكارثية أخفت معالم أوطانها الأصلية حتى أمست مجتمعاتها شراذمَ ومجاميعَ بشرية متناثرة في صحارى من بقايا حياة المدنية المندرسة. صار الناس هناك متعايشين مع الفظائع والأهوال، وكأنهم باتوا هم من سكانها الطارئين على أحوال الأصليين، بينما بات هؤلاء هم الحماة لهذه البؤر السوداء والحمراء.
السؤال أين صار الشعب السوري ليس هو سؤالاً انكارياً، لكنه هو السؤال الأصعب الذي يريد أن يستفهم عما تبقى لسوريا ليكون لها شعب. فالأوطان لا يتم توارثها بحكم الأسماء فقط. والهوية ليست انتماء للاسم وإن كان لابد منه، فالاسم مصطلح، لا تقوم له قائمة إلا بدلالته عن ثمة كينونة ما، سابقة عليه وفائضة عنه. وعرب المشرق اليوم باتوا مهددين بفقدان الكينونة، وليس بضياع أسمائها فقط، كل المتقاتلين، المتعادين فيما بينهم، يجتمعون حول نقاط إيديولوجية غير مصرح عنها. أولها هو إهمال الوطن كأرض ودولة. مع التمسك بالوطن نفسه من ناحية أخرى ولكن كتاريخ فقط، بل ربما كمتحف من متاحفه الصامدة ضد عوادي الزمن.
المشرق العربي لم يعد يشكو من استعمار أو احتلال واحد معين في ذاته، ذلك أن تعدد (الاحتلالات) أفقد المجتمعات المحلية قدرتها على التمييز فيما بين من هو عدو أو صديق أو مجرد محايد إزاء شعوبها. كذلك فقدت الشعارات السياسية معانيها وهي تتقاذف ألفاظها بين الألسنة العجماء والرؤوس الحامية. بل بات من شبه المستحيل العثور على تطابقات بين تلك الشعارات وممارساتها على الأرض. هذا الخليط العجيب من القوى الدولانية الكبرى والمنظمات الشعبوية وأشباهها، وما تقيمه هنا وهناك من حصون وبؤر وجبهات، غطَّى سطوحَ الجغرافية المشرقية بخارطة اتنية وجيوسياسية مختلفة عن أصولها الأزلية. فالهمجية لم تعد مجرد وصمة عار وإدانة مطلقة لما يسمى بمعارك اليوم والأمس، بل إنها هي الهمجية النابعة أصلاً من مراكز تخطيطها العليا. ليس الهمجي هنا هو القاتل الفعلي والمباشر وحده، فهو أداة للاستعمال دون أن تحجب عن الأنظار صنّاعها البعيدين من سكان الأبراج العالية.
فالسؤال أين هو شعب سوريا اليوم، أين هو من أفواج (ضيوفه) المغتصبين لدياره وسياسته معاً؟ أين هي صرخات ثورته الشهيدة: الشعب يريد إسقاط النظام، ثم (الثورة)، وبعده أخيراً، الشعب يريد إسقاط الهمجية. فهل صار الشعار الثالث هذا هو خلاصة التجربة كلها. هل هو محل الإجماع من كل المختلفين أنفسهم. لعله البديل الوحيد الجامع والمتجاوز لكل صيغ الخلائط المجنونة السارحة في كل اتجاه نحو التدمير لكل ما هو حي قائم وحقيقي. هذا الإسقاط للهمجية لا يعني فقط استعادة أخلاقية لجوهر الثورة المغدورة، بل لعله هو مركزية القصد التاريخي لكينونة الثورة الصادقة مع نفسها أولاً عندما يتاح لها أن تنقذ نفسها من التحريفات اللاحقة بها من كل جهة.
لن نبحث عن شعب سوريا بين أطلال المدن المنهارة والعقائد الشوهاء والممارسات الإرهابية المطلقة.. هذا الشعب المهاجر من أرضه لن يظل مهاجراً تائهاً عن ذاته، إنه حامل لوطنه معه في الغربة المادية، متمسك بوعيه التاريخي في كل غربة عقائدية مصطنعة، فالهمجية لم تحقق هدفها النهائي بعد لأنها فشلت في قتل الشعب، وإن نجحت في تهجيره الثنائي عن أرضه دون ذاكرته، وعن فكره دون عقيدته الإنسانية.
أقول لشبابنا الحائر لا تكفوا عن الثورة. ولكن اجعلوا موضوعها الأعظم إسقاط الهمجية أولاً، كيفما كانت وأينما عثر عليها حسّ النقاء والأصالة في نفوسكم. هذا الحس هو أصدق معيار، باق فوق أطلال كل (المبادئ) الخرافية. لا تنسوا أن الهمجية ليست مذهباً ولا ديناً ولا سلطة، بل يراد لها أن تكون نموذجاً أعلى بديلاً عن إنسانية العصر الفاشلة، والقاتلة لأصول الإنسانية الحقيقية.
الهمجية الجديدة هي إيديولوجيا الإيديولوجيات في كل تاريخها المظلم. إنها ثقافة الفشل المتراكم لتجارب الحضارات الضالة الحاكمة لصيرورة البشرية. لكن تجاربها المنهجية صار لها ميادينها في مشرقنا. فالجميع من المتكالبين على أوطاننا عليهم أن يتلقوا دروسها العملية عبر كوارثنا الراهنة، كيما يعود أغرابهم إلى أوطانهم لينشروا مجدداً تراث أهوال الانحطاط الحيواني لمجمل الحضارة الكونية الموشكة على الزوال قريباً.
لتكن إذن ثورةً ضد الهمجية باسم العادلين المتبقين على هذا الكوكب البائس قبل أن يُغلق سجلُ العادلين والظالمين معاً وإلى الأبد هذه المرة.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي