التوأمة بين المال والحضارة ليست حلما عربيا مستحيلا بَعْد…

حجم الخط
0

كثيرون راهنوا على «السيسي» أن يكون شبحاً لـعبد الناصر أو تلميذاً له، أو وريثاً قومياً شاملاً فقد انتخبه ملايين المصريين زعيماً تاريخياً جديداً لهم قبل أن يمنحوه لقب رئيس الجمهورية. فالشعب المصري الذي حقق ثورة يناير ثم اتبعها كذلك بالثورة على التحريف الأخواني، لم يكن يرضى باقل من مثال الزعامة الناصرية، وما قد يماثلها، ليسلمها من جديد مصير ثورته العارمة، ويخوّلها حكْم جمهوريته العتيدة المتحررة.
هكذا كانت آمال الناس في مصر، وفي معظم العالم العربي، تنتقل من ثورة عارمة حارقة إلى إنقلاب على ردّة من بعض العسكر، إلى لصوص الثورات الذين يتاجرون برصيد الإسلام ليدفنوا بواسطته حريات المجتمع وطموحاته الحداثية؛ لكن السيسي الذي دخل القصر الجمهوري بين يوم وليلة، متخلياً عن وظيفته الأولى كمسؤول عن المخابرات العسكرية، كيما يكتسب شخصية الرجل الأول الحاكم لأعظم دولة عربية. لم يكن سهلاً عليه أن يستوعب ضخامة المسؤولية الملقاة على منصب الرئاسة في ظروف مصر البالغة التعقيد والخطورة في آن معاً، وفي كثير من مناحيها الأهلية والرسمية معاً. لم يلتقط من أعباء تلك المسؤولية إلا جانبها السلطوي الخالص. فالرئاسة ليست هي إلاّ الحكم المطلق. ولعل السيسي أدرك سريعاً ان كل ما كان ينقصه من مؤهلات الرئاسة يمكن تعويضه فقط بوسيلة الأوامر القطعية التي توفرها قوانين الدولة لأصحاب الشأن حسب مواقعهم السلطوية.. وهكذا كان على السيسي إذن أن يختار بين جمهورية ثورة المواطنة الحرة، أو جمهورية القهر. فما تعنيه ثورة المواطنة الحرة ليس مما كان همّاً ثقافياً أو عقائدياً بالنسبة لرجل هو ضابط نظامي ملتزم قواعد مهنة العسكرة الرسمية التقليدية.
خلال أشهر معدودة من معايشة ضابط المخابرات سابقاً العقيد السيسي لأجواء الحياة في القصر الجمهوري، لم يكن الرجل ساعياً بوعي أو بدونه إلى إعادة تكرار زعامة أو وراثتها بعد أن انقضى زمانها واندرس رجالها.
فماذا يتبقى من كنوز السلطة المطلقة بالنسبة لملاكيها سوى تلك القدرة الفوقية والاستثنائية للحفاظ عليها. لكن سريعاً ما ينحلّ مفهوم الأمن القومي للدولة إلى مجرد حفظ الأمن لسادتها. فالبديل المنتظر عما كان يسمّى ببناء مجتمع الثورة المواطنية الحرة، سوف تغدو معاييره الأمنية وحدها هي الحاكمة بأمرها في كل شأن جمهوري أو دولائي أو اجتماعي. ما أتت به الثورة الثالثة التي قادها السيسي، لم تكن تصحيحاً لسابقتيها، وأما ما أتى به حكم السيسي خلال ما يقترب من عامين أو أكثر، هو أنه أقام مجدداً دولة الرجل الواحد. وهو أمر واقع، وإن راح يتبرأ منه السيسي وينكره. ومع ذلك فإنه مضطر يومياً وكل ساعة أن يمارس عقابيله، وتنويعاته المتعارضة فيما بينها. فكان سهلاً على أعداء مصر أن يغرقوا عواصمها فيما يشبه حرب شوارع متفشية كبقع الزيت في كل مكان. فالدولة العاجزة عن حماية حياتها اليومية المدينية، كيف لها أن تنهض بمشروع المواطنة الحرة لأكثر من مئة مليون كائن إنساني منتظر لأيام عدالته لآلاف السنوات، لعلها آتية لأبنائها وجيرانها وإنسانيتها من حولها يوماً ما.
بعد كل ما اعترى ثورة مصر من الإنقلابات الفكرية والبنيوية خلال هذه الأعوام الحافلة، ستظل الثورة هي الحقيقة الموضوعية الكبرى والثابتة. بالرغم من العهد السلطوي الحالي الذي يحكمها، وتحت رمز الشاب القائد الذي هو السيسي، بكل ما تحمله هذه العباءة من نزواتها الشخصية الخاصة، وهو إذاً كان يقنع نفسه أنه جاء إلى السلطة لكي ينقذ مصر من أسوأ مصير كان يمكن أن تصل إليه تحت التسلط الإخواني، إلا أنه يعتبر أن حماية دولة مصر هي الهدف الأسمى في ظروف الفوضى العارمة التي تجتاح كامل المنطقة العربية؛ وعلى هذا قد لا تكون الحريات الفردية هي المطلب الأول للمرحلة الحالية، بقدر ما هي سيادة الدولة المشرفة على النظام العام، فهي ضمانةُ كل حكم رشيد. وقد أصبحت لهذه السيادة ضمانة أخرى، هي الحفاظ حقاً على ثورة مصر. مع هذه العقدة التبست أمور الحكم الجديد، فلم يستطع الرئيس الشاب أن يختار جمهوره الشعبي الذي يتفهمه ويحاول التفاعل مع تطلعاته بعيداً عن دوافع القهر أو التبعية. هذا الواقع أفسح المجال أمام تسرب مختلف القوى الأخرى بمشاريعها الخاصة إلى حواشي السلطة، وحتى إلى بعض مراكزها الأساسية، الأمر الذي أفقد السلطة الكثير من مصداقيتها الأولى الواضحة التي جعلت الشاب شبه المجهول أن يتشبّه أحياناً بفرعون الذي حكم بلاد النيل منذ آلاف السنين، فلماذا لا يُخيل للرئيس الصاعد أنه يمكنه أن يكون فرعوناً، مادام هناك جمهور يفرعنه بطاعته المطلقة. عالم يعلمه السيسي حتى اليوم هو انقضاء زمن حكم الفرد. وأن من يطمح إلى حكم دولة الثورة ينبغي عليه أن يرفع كل السدود ما بين قوى الثورة ورجال الدولة الجديدة. فهذه الدولة تحاول أن تعد نفسها كما لو أنها على الأقل صديقة للثورة وليست سلطة لذاتها فقط. الفوارق كبيرة وكثيرة ما بين مصر والدول العربية الفرعونية الأزلية، وبين دولة الثورة المبددة شبه الناجحة رغماً عن كل الشرائح المتمردة في مجتمع حقق سلسلة انتقاضات شعبية خلال سنتين أو ثلاثة فحسب، فالعهد السيسي له معاناته الكبرى من مجتمع الإنشطار أو الانسلاخ الحاد ما بين الدولتين. فهو مضطر أن يكون هو الواحد بين الاثنتين، وهو هماً معاً في وقت واحد. وهذه هي معضلة الاستقصاء البنيوي الأكبر الذي عانته معظم ثورات التاريخ. ولن تكون مصر بعيدة عن هذا المصير، في ظل شبه ثورة كانت أقرب إلى إنقلاب عسكري، وإن بمساعدة جماهير المليونيات المصرية الهائلة.
غير أن العلة المحورية في كل مشروع نهضوي مصري هي دودة الفقر التي تأكل الأخضر واليابس في البيئتين الاجتماعية والمدنية معاً. فما أكثر ما كانت حكومات مصر في مختلف عهودها عاجزة عن تغذية أحلام النهوض بأقل أكلافها المادية.
من وجهة نظر الفقر المدقع المزمن تبدو الإستعصاءات المصرية بالغة التأثير الحاسم في نوعية المصير القومي وليس السياسي فحسب لمصر العروبة والإسلام. وإذا كان العهد السيسي مبادراً لتصدي لهذه الإشكالية كأولوية، ليس كرهان على مصداقيته فقط، بل على إمكانية استمراريته، فحاجة مصر إلى المال الوفير تجعل بعض مفكريها يحلمون بإطلاق زعامة شبه عضوية بين أعرق دولة في ابتداع حضارة الإنسان، وبين أغنى دول العصر بالأرقام الفلكية للثروات الخيالية. وفي هذه الظلمة الحالكة الهابطة على سماوات العرب في كل مكان أصبح يمكن القول أن فكر المعجزات وحده هو المتبقي لاستعادة الثقة بإمكانية مشاريعه شبه المستحيلة. غير أن مشروع التوأمة بين المال الفائض عن كل حاجاته وبين الحضارة الأصلية الباحثة عن معاصرتها الراهنة، هذا المشروع هو عصب القوة الوحيد المتبقي لعالم عربي يكاد ألا تقوم له قائمة بعد أعظم نكبات الخراب الشمولي التي حلت خاصة في مجتمعاته القيادية خاصة.
لقاء الحضارة والمال بانتظار العقلانية العصرية، هو السر الأخير الذي سينقل الحاضر العربي من خلال الزحف على شفا الهاوية الأخيرة، لكي يصيرَ عتبَة انطلاقٍ لعهد آخر تكلّله الحرية والقوة معاً، كلاً منهما بأشواك تيجانها، وورودها كذلك. وعند ذلك يمكن لسؤال عن قيامة عربية جديدة، له ما يبرره حقاً في معطيات الواقع الشعبي حتى قبل أن تتحسسه بعض الأنظمة المحافظة على بقية عهد عربي. فليست المعجزة هي تحقق تلك القيامة بقدر ما هي في ابتعاث بعض مصداقيتها، وان شابتها شكوك الأسئلة الماضية الكئيبة، من كل زاوية مظلمة.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية