التخلّف سببُ كلّ علّة.. ما علته هو!

حجم الخط
2

في أدبيات الثورية العربية أن (المناضل) يكون رجلَ سياسةٍ في مرحلة الكفاح نحو التغيير، ثم يغدو رجلاً أمنياً في المرحلة التالية من بلوغ رأس الهرم. ولقد ذهب الثوري العربي ضحية منسية، ما بين نموذجي رجل السياسة في مرحلة الكفاح، ورجل الحكم في المرحلة الموسومة بخصائص أمن الدولة.
حينما ينهار البناء الكرتوني لهرم السلطة الثورية الزائفة تغدو (الأفكار) هي الملهَّمة الأولى، كأنها هي التي عليها أن تتحمل أعباء أخطاء الرجال الذين حملوا شعاراتها.
العصر النهضوي الآفل راهنياً قدم مختلف النماذج الحركية، اعتباراً من شخص العقائدي، ثم المكافح، وبعده الفدائي، وبعده الجهادي، وأخيراً المضاد التفكيري. ولكن وراءَه الاصطفاف التاريخي كان المفقود الأهم والمركزي هو العربي الثوري. كانت تلك مجرد مصطلحات تقوم على سطوح خطابات الجميع من الحركيين واعدائهم واحزابهم. لكن وجه ذلك الثوري كان ضائعاً بين كثافة الأقنعة الزائفة. فكل ما كان يتحقق على أرض الواقع كان يتخذ صفة الحقيقة الأخلاقية، في حين يظل قاع ذلك الواقع ثانياً عن سطوحه اللماعة، يعجّ بمستحاثات أنواع الوحوش الضواري البدائية والمستديمة، متأهبّةً لافتراس وجبة جديدة من أحلام الماضي عينه، مقنَّعة بوعود مستقبل لم يولد بعد.
إنه تاريخ التجربة النهضوية المعذورة، وقد كان تاريخاً مزدوج السطح والقاع دائماً. ولم يكن احدهما قابلاً للفهم والتأويل دون أن يحيل إلى وجهة الآخر نحو الأسفل والأعمق. لكن الناس الفاعلين المتحركين على كلا الوجهين لم يكونوا يأبهون للخطأ إلا باعتباره شكلاً آخر من الصواب غير المعترف به بعد.
فلنقل إذن أن منطق السلطة قد التهم منطق النهضة في كل أحداثه الموصوفة بالكبرى والتاريخية. مثما انتهى عالم المشرق إلى مغربٍ لكل شمسٍ مشعة.
لقد استحوذ مصطلح نقد السلطة على كل محاولة جادة نحو نقد المجتمع. غير أن نقد السلطة، استحوذت عليه السياسة فحسب. هكذا تساقطت المشاريع الثورية في أفخاخ التنافس اليومي ما بينها تحت طائلة بلوغ السلطة بأية منهجية كانت. فإن قصة صعود دولة الاستقلال الوطني وانحلالها الفوري، ارتبطت، وبصورة آلية بأرصدة القوة والصفف لدى الفئويات الحركية الطامحة إلى التغيير. وإن تكرار فصول كفصول هذه التراجيديات شبه المبتذلة استنفد الوعيَ الجماهيري، أفقده حماسه العفوي لذلك المستوى الأعلى لنوعية المعاني النهضوية الدافعة إلى العمل العام. لا يتبقَّى لهذا النشاط السياسوي ما يُقنع به عقوُل الأكثريات القادرة فعلاً على الحسم. وبذلك كانت أكثرية الثورات مجرد انقلابات، إما أن تبدأ من انقلاب أو ينتهي إليه، قد تستثير شعاراتها الكلية المرفوعة في البداية أوسعَ جمهور، ثم لا تلبث أن تتهاوى من مستوى الأغلبيات الشعبية إلى التلقّف الفئوي، حيثما تلعب النزوات الشخصية أدوارها المسيطرة متحررة من أية ضوابط أو رقابات كلية.
خلال أربعة خمسة عقود من عمر دولة الاستقلال الوطني سادت حركيات الانقلابيين كبدائل جاهزة عن جماعيات الأفعال الجماهيرية الكبرى. ذلك كان الأسوأ في قصة التكوين النهضوي، إذ يقع ما كان يعتبر غاية أخلاقيةً إنسانية في ذاته إلى مجرد سلعة في أيدي المتسلطين، من تلك الفئويات الطامعة إلى الاستيلاء على كلية الدولة كأنها كنز من الغنائم محتكرة لأقويائها وحدهم.
إنه الأمر الأخطر الذي قلب دولة الاستقلال الوطني إلى ملكية إقطاعية كبرى محتكرة لقوى المجتمع، مسيرة لها ومستثمرة لجهودها من أجل مصالح أصحاب السلطات المطلقة الممسكين بتلابيب السلطة.
إنها تلك البنية الاجتماعية العميقة التي يتوارثها أجيال النهضة منذ حوالي قرنين. فقد اكتشفت هذه الأجيال عبر تجاربها (التقدمية) الفاشلة ان هذه البنية لا يكاد أي تطور ينال من تجذرها. بل إن حصائل الخيبات الموصوفة إجمالاً بالثوريات والعقائديات، كانت تمنح هذه البنية مزيداً من التماسك الذاتي؛ فقد برهنت الخيبات ان البنية المجتمعية هي الأشد مناعة، وهي الأصلب أمام عواصف التغيير، إذ عاجلاً أو آجلاً لا تلبث حركات التغيير حتى تتحول من سيول عارمة جارفة إلى مجرد جداول مائية سطحية وتائهة بين كتل الصخور الكبيرة الهائلة المحيطة بها في كل مجال عمومي.
إنها المشكلة المتجددة هي نفسها مع كل وثبة تحرر ذات مطمح نهضوي. إذ أن كل حركة تحرير إنما تتكلم بلغة عالم يتحقق بعد، في حين أن البنية المجتمعية الأصلية، تبقى صلابتها المتوارثة، قائمةً محسوسةً، متجسدةً في عمق كل الأفعال الجماعية.
فالتخلف هو الفاعل الأول وهو الممسك بأنظمة الوعي والسلوك معاً. ليس هو مجرد حالة، إنه منتجَ الأحوال السائدة، والصانع الأزلي لنماذجها، وهو يكاد يكون الآمر الأخلاقيْ المطلق، المهيمن على سلوكها، المتدخل في تفاصليها اليومية. إنه هو المتحكم الممسك بعالم الأشياء والوقائع ما دامت قضايا التقدم لا تبارح مستويات التصور السابق لمستقبله. هذا لايعني أن التخلف هو قوة إنتاج سحرية خارقة تحمي أنظمتها القائمة بفضل قوى استمراريتها. ليس التخلف سوى مصطلح مضاد للحراك الحداثوي يُراد له أن يُعبر عن أحوال الجمود الملازمة لمجتمعات ما قبل التشكل الدولتي السياسي العام. وما اعتاد الجيل على تسميته بالنكوص إثر كل هزيمة ليس سوى بعض الممارسة الدائمة لترسخ الجمود. لعله ينبغي الاعتراف ان دولة الاستقلال الوطني التي راكمت هزائمَها عبر تجاربها السياسية الفاشلة المتتابعة، لم تفعل أكثر من إضافة محصولها اللاحضاري هذا إلى أرصدة الجمود التقليدي. فتقدم له أسلحة عصرية جديدة سوف يكافح بها نزعات التقدم الوليدة، وهي لا تزال في ضمير الغيب؛ وقد تلاحق هذه النزعات حتى وهي تنتقل من طور النوايا إلى حيّز الأفعال التلقائية، ومن خطوط هذه إلى مشاريع المؤسسات الهادفة إلى تأصيل التغيير في الهيكل المجتمعي غير المنجز بعد.
إن التخلف ليس هو إلا هذا الجمود وقد انتقل من حال الكمون إلى حال الفعل والتأثير، وذلك رداً منه على تحديات التغيير الأولية. من هنا تفوقت مواسم النكسات على محصول من النجاحات العابرة والنادرة، لتجارب التأسيس في المختلف.
ليس هناك جدلية حقيقية ومثيرة ما بين حدي التقدم والنكوص في ظل هيمنة التخلف المستقر دهرياً..
ولقد أكدت تجاربنا البائسة هذه المأثرة الحزينة. فالمآلات كلها متجهة نحو السلبيات الصماء وحدها التي لاينفع معها التعديل أو التصحيح أو كل هذه المصطلحات الهادفة إلى تغطية ما لا يجوز إخفاؤه على الحسّ العام.
هل يمكن القبول بواقعة أن التخلف ما زال هو الأقوى على ممارسة الممانعة ضداً على محاولات التغيير التي كان يمكن اختزال ذاتها إلى ذلك التغيير من المدخل الأضيق والأشد ظهوراً الذي هو السلطة. ولقد استنفدت صراعات السلطة معظم قوى التغيير العابرة بهذا العصر النهضوي. كأن هنالك اعتقاداً مرسخاً أن الطرق إلى الغابات العامة محفوفة عادة بصراعات المركبات الجيوسياسية السائدة إبان كل مرحلة حركية شاملة؛ بل لقد نشبّت عقلُ النخبة دائماً بألاعيب التعاطي السياسي، بحيث ترسخت تلك القاعدة البائسة، وهي القائلة أن كل إعادة تأسيس اختزالي إنما يبدأ من قمة الهرم. وليس من جذوره أبداً.
لم يكن عقل النخبة الفاعلة مهتماً ولو لماماً. بتبيان الفاصل المفهومي بين الثورة والسلطة. أما الثوار أنفسهم، فإنهم ليسوا سوى أولئك الرجال الذين يعتقدون غالباً أنهم يعملون من أجل سيادة أفكارهم، في حين أنهم يريدون السيادة لأشخاصهم عملياً.
ولقد اعتادت الأنتلجانسيا العربية أن تعتذر عن نكسات (الأمة) ورد أسبابها إلى مصطلح التخلف؛ ومن ثم جرف بعض النخب على التصدي لهذه الحالة باقتراح نظريات الحالة المدنية وفروعها العلمية المتشعبة. لكن أثبت التخلف العربي أنه عصي حقاً على التفسير والتأويل العلموي المستورد خاصة من تجارب الغرب. فبعد التصدي لمختلف (أسباب) التخلف هذا، لا يبدو أن محصلة الأبحاث والدراسات قد استطاعت حقاً أن تعلل التخلف كظاهرة إلا بذاتها. هنالك سلاسل من المقدسات التي لها أدوار العلل المنتجة لأوضاع الظاهرة، لا يعرف لها بداية، وبالتالي لا يمكن تصور غاية أخيرة كاشفة لمجمل الظاهرة.
فالثوري السياسي ليس وحده كافياً لإحداث الفارق. فهل المطلوب أن يكون الثوري عالماً اجتماعياً مثلاً أو إناسياً أو مفكراً فلسفياً. هذا التساؤل يدل بوضوح أن رواد العمل العام ينبغي أن يكونوا هم أنفسهم رجالَ معرفة كذلك، وفي مجمل الهزائم الماضية والراهنة افتقدت حركاتها النهضوية ليس الثوري الحقيقي وحده، بل أضاعت معه رجل الإصلاح والخبرة. فالأميون، وأنصاف الأميين، وأشباههم عطوا القطاع القيادي لمختلف الانقلابيات التي تدعي (العلمانية) السابقة، ثم زحف أمثالهم إلى قيادة المرحلة الدينية الحالية، فأصبحوا قادة وزعماء، وليسوا مجرد كتل موجهة بغير رؤوسها.
إن التحليلات والتعليلات المستغرقة في توظيف خطاب التخلف كمرجعية مركزية لمفردات قاموسه وحده، إنما تنشىء نصوبها المعرفية حسب منهج مرآوي تتبادل وحداتها فيما بينها ذات الصور كأشباح شفافة يعكس بعضها فراغ بعضها الآخر. وبالتالي وصلت خلاصة النصوص إلى ما يشبه الحكم الأخلاقي، بل الأنطولوجي كذلك، حسب هذه العبارة: إنه هو التخلف عينه!
حتى عندما تحال بعض النخب أن المجتمع الموصوف بالمتقدم هو الذي يفارق تطورُه أحادية النواة الواحدة التي تتفرع إليها مختلف التمظهرات المجتمعية الأخرى، بحيث يمكنه أن ينقسم على نفسه إلى اليمين واليساري، سياسياً على الأقل، نقول في هذه الحالة عينها تظل للمتخلف فعاليتُه الأولية ما وراء كل الشعارات المرفوعة فوق رؤوس الجماهير. فإذا كانت حصيلة المرحلة النهضوية هذه الآفلة قد أعادت إلى التداول، طقوسَ الاعتذارات السياسية الكبرى بثوابت المفردات التخلفية، فذلك يبرهن بقوة عجيبة أخيرة أن المجتمع لم يعد يحمل صفة التخلف كعرض تاريخي، بل كاد يتحول إلى مجتمع التخلف عينه. إنه هو نموذجه الأعلى، وهو يشق من نفسه عينها نسخاً تتبارى فيما بينها في حيازة الأنواع والدرجات غير المسبوقة في (إبداعات) الكوارث غير المسبوقة لجماعاتها وشعوبها أولاً.
واليوم يسأل العالم كله عن الإرهاب: ما هو حقاً أو كيف السبيل إلى مكافحته؛ أما نحن العرب فالبعض الأقل منا يعترف بنفسه أن التخلف هو سبب كل علّة. والإرهاب ليس هو إلا الوجه الأصلي والحقيقي الدائم للتخلف، بعد أن قرر التخلف أن يسفر كلياً عن وجهه ذاك، أن يكف عن توظيف العقائد والأيديولوجيات والأنظمة الحاكمة، وأن يقود الصراع من مقدمته وان يمتطي فرس القيادة الأولى لكل الظاهرة السياسية ومشتقاتها.
لقد أجهز التخلف على حقائق الحقبة النهضوية، بعد أن زيفّها، وجوفّها. وها هو اليوم لم يعد محتاجاً إلى أية أقنعة سياسوية خادعة. إنه هو حقيقته كما هو، وسياسته كما هي. ولا بأس من أن تطلق عليه تسميات الإرهاب. بل أصبح التخلف من القوة بحيث يفرض لفئة وأساليب أفعاله، وطقوس بدائيته المظلمة تحت شمس النهارات العربية السادرة. لقد تَعسْكر التخلف وتسيّس وتديّن، وهو اليوم يهدد بسيوفه أعناق الخائفين والبائسين، ويتحالف مجدداً مع الجيل الأخير من وحشية الإنسانوية الظالمة المظلومة معاً.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير قايت-الاردن:

    مقال رائع … وحتى نتغلب على التخلف يجب ان تنتشر ثقافة القراءة, ولكن للاسف المتخلفون لا يحبون القراءة.

  2. يقول عائدة ــ لبنان:

    ثقافة التخلف راسخة ولها جذور عميقة ، والتخلص منها لبناء أسس ثقافية حديثة تحترم القيم الإنسانية وتنهض عليها يحتاج لمضي أجيال وأجيال ، ولن يبدأ بناء الثقافة النهضوية إلا بإعادة النظر بالنظام التعليمي بشكل جذري وعميق وشامل ، والتخلص من المؤسسات التي تمد ثقافة التخلف بالدماء .

إشترك في قائمتنا البريدية