الإرهاب الأوروبي يعلن حرب النهاية على العلمانية السياسية

حجم الخط
0

ربما لم يدخل العنف الخالص بأقوى ظاهراته على سياسة العالم، حتى في أكبر المقتلات الكونية، من قبل الحروب العالمية، كما هي الحال المرعية الراهنة المسيطرة على أهم الشؤون الدولية خطورة بالنسبة لمعظم شعوب الأرض، وخاصة شعوب الحضارة المعاصرة التي اعتقدت أنها قد أغلقت تاريخ العنف على وقائعه، وأنها تباشر صنع النوع الأعلى للحلم السلمي وهو الأمن الفردي والجماعي.
أوروبا اعتقدت أنها نجحت في اختيار حصتها من حضارة الجميع الإنساني، عندما أعطت لثقافتها حقوق الرقابة والعقلانية على نماذج السلوك الإنساني عند ممثليه من كبار صنّاع التقدم العالي والنفسي. فإن صنّاع الحضارة هم المسؤولون عن براءة سلوكها الكلي، وفي جوانبه الأخلاقية والاجتماعية تحديداً. لكن العنف الخالص ربما قد يتوارى، دون أن يتلاشى. وها هو يُقارع الحضارة في عقْر دارها، وينقل مختلف معاييرها من أبراجها العالية ومختبراتها المتفوقة، ينزل بها إلى شوارع المدينة، يقذف بها إلى أعماق أزقتها الخلفية، وينشرها هكذا عارية من كل غطاء على الأرصفة جميعها.
هل يمكن مثلاً أن يُفصل بين الإرهاب كظاهرة عمومية وبين معايير هذه الحضارة، المدعية للاهتمام بالشأن الإنساني أولياً بالنظر إلى مشكلات التقدم وتداعياتها الأخلاقية على نظرة المجتمع الإنساني إلى الحرية باعتبارها هي المحددة لمحصلة أيّ إنجاز حضاري شامل.
التاريخ يقدم اليوم مفاجأته الكبرى بتفجير ظاهرة الإرهاب، كما لو كانت هي الخميرة المتبقية عن فشل الأيديولوجيات الثورية والإصلاحية. هذا الإرهاب يضع نهاية لأحلام التقدم في العالم الثالث العربي والإسلامي تحديداً، لكنه لا يُنهي مغامرات النهوض الكبرى والتعمّق لدى الشعوب الصاعدة فقط، بل إن الإرهاب في انتقالاته المتواترة إلى عواصم أوروبا، إنما يشمل كذلك مصير الغرب نفسه. فإن إرهاب أوروبا مكلَّف بإعلان القضاء الأخير على تجربة الحضارة كلياً، على صانعيها أنفسهم من سادة الغرب، وعلى ضحاياها المزمنين من فقراء الشرق، كأنما الإرهاب المجتاح لأوروبا يعلن حديثاً إفلاس المشروع الثقافي الغربي من محاولاته العقيمة مع عقائده التغييرية الفاشلة، جملةً وتفصيلا.
هذه النقلة المريعة للإرهاب في رحلته نحو بلاد الشمال يسجل بالحروف الكبيرة أن أكبر مآزق للفشل الحضاري إنما يمكن أن يرتكبه صنّاع الحضارة أنفسهم، وليس عبيدهم فقط. نحن إذن جميعاً، أبناء الشمال والجنوب نعيش صدمة الإرهاب الشامل لإنسانية العصر من دون تمييزات قوموية أو ثقافوية بين مكوناتها، على الأقل في المدى المتوسط من مهلة التاريخ الموشكة على النفاد المحتوم.
لكن تلك الظاهرة السياسية أضحت حالة عادية فقد راحت تفقد معالمها تدريجياً من مؤسسات الحياة الاجتماعية. فإن اضمحلال فعاليات الأحزاب المدنية ليس مؤشراً عربياً أو إسلامياً فقط، لكنه نوع من سُعار لاهب غربي تشكو منه مختلف الفئات الواعية في الشمال.
ههنا فإن أحاديث شباب الغرب لا تكاد تعترض على تفشي ظاهرة الإرهاب بين صفوفه بقدر ما توجه النقد إلى الوسائل الحكومية العقيمة في مكافحته. هذا (التغيير) ليس عرضياً، بل أنه ينبئ بكل وضوح أن الإرهاب لم يعد بضاعة خارجية مستوردة عن طريق (الأغراب)، حتى العديد من الإرهابيين لم يعد يمكن اعتبارهم من الأغراب الطارئين، إنهم أوروبيون أباً عن جد.
صدمة الإرهاب أوروبياً للوعي الغربي الممزق منذ القدم، لم تكن نتاجاً شعبوياً للشعور العام بالعجز الأمني الحكومي عن ردّ الهجمات العنفية المدروسة، بل هو الخوف من نوعية هذا الإرهاب الذي يبدو أن أصحابه هم مثقفون إلى حد ما، واعون بضرورة الإعداد (العلمي) للعمليات، وليس الإعتماد فقط على رصيد العواطف الشخصية بالغصب والحقد النفسي؛ ففي حين يتطور إرهاب الشرق دائماً في اتجاه المزايدة من صنوف الهمجية اللاعقلانية، فإن إرهاب الغرب يصير أوروبي الصناعة والتخطيط، وخيارات التنفيذ الذكي. وفي هذه النقطة يبدو أن قرار المصير بالنسبة لمستقبل العنف في الغرب هو أنه أصبح الوطَن المتوفر لصناعة: حتى ذلك النوع الموجه نحو مؤسساته هو نفسه أولاً.
أي أن الكثيرين من مثقفي اليسار التقليدي الأوروبي راحوا يخشون أن يحقق الإرهاب تجاوز الإنقسام التقليدي ما بين شمالي المتوسط وجنوبه، وهو ذلك الإنجاز الحضاري التي عجزت ثقافة الديمقراطية عن تحقيقه طيلة المرحلة السابقة من ثورة حقوق الإنسان التي حاولت أن تغطي الفراغ المتخلّف عن انسحاب الإيديولوجيات. فحتى تصبح الجغرافية هي الحاكمة الأولى في الثقافة الإستراتيجية السائدة، سوف تتلاشى الفروق النوعية ما بين أوطان للمتقدمين، وأخرى للمتخلفين، فلا يقوم بينهما إلا حوار العنف والقهر فحسب، حيثما يغدو الإرهاب وحده هو المعيار (الموضوعي) لحماية الدولة التي ستضطر إلى رعايته باعتباره المالك الأخير للضمان الحمائي العام. هذه النتيجة المروعة في حد ذاتها ستكون كافية لإطلاق نوع الإنذار الأخير ضداً على الأمن الإنساني الذي اكتسبته الحضارة كأهم محصول أخلاقي لمجمل تجاربها المصيرية الكبرى، فأوروبا اليوم أمست مدعوة لمفارقة سلوك دعاة النصح المنفصل عن الحدث. لم تعد مجرد نصيرة لحقوق الإنسان العالمثالثي خاصة، بل باتت ملتزمة بالدفاع عن أمنها الذاتي باعتبارها هي التجربة الحيّة والواقعية الوحيدة على إمكانية النظام العالمي أن تقوم له قائمة دولتية فعالة كما توفقتها التجربة الأوروبية بالريادة الفرنسية لفكرة المشاركة العادلة لمواطنية العادلين من كافة الأمم والنحل.
الغرب ليس قوى احتياطية يمكن توظيفها في دعم تحولات سياسية معينة، أو نقلها إلى جهة أخرى وثالثة، بين تصنيف مختلف كل مرة لحجم المساعدة المطلوبة. لكن مع انبثاق الإرهاب المتحول عن أصوله الفوضوية المشرقية السابقة، فإنه تصير له كيانات استراتيجية متنامية في ساحات أوروبية كانت غريبة عليه كل الغربة، ثم أضحت أفضل حاضنات اجتماعية وتربوية له في الغرب. فلقد أقبلت عليه هذه الحاضنات لتثقفه، وتدربه، وتعقلن قواعده الحركية، وهنا يكاد الغرب يصدم العالم حوله بإعادة إنتاج نوع الإرهاب المدرب، هذا النوع المتميز والمشتق من جنس الشر المحض قد وضُع له الهدف الأعلى والأخطر، وهو الالتفاف على كل ثورة من أجل الحرية كيما تحبط مولودها الحر ذاك، وتأتي بالهدف الهجين بديلاً موضوعياً عن الحرية.
أوروبا لم تعد حارسة حقوق الإنسان عن بعد، أمست حقاً أخيراً هي المسؤولة كونياً عن انبثاق قطاع الأنظمة المعرفية من صلب المفهومية العلمانية لتلاقي الثقافات الأممية حول مركزية الحرية للجميع من أجل الإختيار الموجه إلى الأفضل وحده.
نحن هنا نسجل فحسب إشارة المنعطف للتحقيب الحضاري الذي تحدثه نقلة الصدمة الإرهابية من صحارى الشرق إلى غابات الغرب، ونقول منذ الآن عن هذا المنعطف أنه سيؤول إلى أخطار هائلة إلا أنها لن تمتلك النهاية الظلماء منذ الآن، ولا حتى بعد غد، إلا إذا نسيتنا الحضارة وراء ظهرها هذه المرة إلى الأبد..

٭ مفكر عربي مقيم في باريسn

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية