أي سلام لسوريا مع استدعاء شعوبيات التاريخ إلى كل الجغرافية العربية الراهنة؟

حجم الخط
0

سؤال «ماذا بعد الهدنة ؟» شبيه بنفسه حين يُقال: وماذا في اليوم التالي على الثورة؟
كلاهما يعبران عن ضرورة الفاصل الحديّ الذي لا بدّ أن يأتي به التغيير الحاصل على أرض المعركة الفعلية. فما ينبغي أن يأتي بعد كل منهما ينبغي أن يختلف كليّاً عمّا كان قبله. فإذا كان الشعب الذي ينجز إسقاط نظام حاكم جائر، غيرَ مفكرٍ، أو غير قادر على إملاء فراغ السلطة من أسيادها المستبدين الساقطين، بإشادة أول هيكل تأسيسي للنظام الجديد البديل، في هذه الحالة السيئة التي انهارت إليها بعض ثورات الربيع العربي، سوف لن تستثمر الثورةُ في صناعة المستقبل الأفضل لمجتمعها، بل لعلها تتساقط في دهاليز المجتمع القديم، لتُصاب بعدوى أوبئته المزمنة إياها، وفي مقدمتها وباء الصراع العقيم على النفوذ وبلوغ مناصب ومفاتيح الهيمنة بأشكالها السياسية والاقتصادية أولاً.
مرحلة ما بعد الهدنة شبه الناجحة سوف تفتح الكثير من أبواب المشكلات النائمة منها والمحدثة، وأولها ولا ريب هو ذلك الخوف من العودة إلى جحيم ما قبل الهدنة، إن لم يصل المشرفون عليها إلى إتفاقات جديدة، على الأقل حول تمديدها. بينما تتطلع جماهير الناس العاديين إلى أن تتكلّل نهايةُ الهدنة بخاتمة للحرب كليّاً، وليس بمجرّد حالة تعليقٍ للقتال، فقد تظل كل الجبهات القائمة مفتوحة الحدود ضد بعضها، بانتظار لحظة انطلاق مدافعها المتقابلة حتى من دون إنذار، أو محاولةِ ردع بعضها، اسكاتَ بعضها الآخر المدوي.
هؤلاء المشرفون من السادة زعماء المجتمع الدولي وزعيماهم الأمريكي والروسي معاً. هؤلاء لا يبدون حتى الآن أنهم أنجزوا الشرط الضروي واللازم لإعادة السلْم الأهلي إلى سوريا، وذلك بالإتفاق الواضح العبارة، والأسلوب حول مبدأ إلغاء ما يُصطلح عليه بمشروعية الأمر الواقع لوقوع الحرب أو استمراريتها. فأركان هذا المجتمع الدولي لم يفعلوا شيئاً حقيقياً طيلة سنوات الدم والخراب الخمس الماضية ليوقفوا المتآمرين والقتلة ومحترفي النهب بمختلف أشكاله الإجرامية والوحشية. كأنهم عملياً كانوا يبررون اللامبالاة الممنهجة إزاء الكوارث المتنامية ذاتياً، اعتماداً على براهين (إنجازاتها) كحقائق مادية ملموسة للأمر الواقع الفعلي، أي أن عنف الكارثة نفسه هو الذي يمنحها مشروعية الأمر الواقع الذي بدوره يسمح للشرعية الدولية أن تسبغ عليه صفته القانونية. هذه اللوحة الملتبسة من الظاهرة المتناقضة ما بين مشروعية الحدث الواقعي الراهن (كارثة الحرب المستدامة) وما بين شرعية القانون (الدولي تحديداً هنا)، لا تزال تسوّغ لزعيميْ القتال الأصليين، أوباما وبوتين، ألا يتخليا عن اعتبار هذه الحرب كخيار جائز. فهما يتأبطان حقيبته السرية والعلنية معاً، ويمكنهما أن يخرجا منها المراسيمَ المطلوبة والمتدرجة حول الاقتالات القادمة والمرخّص لها ضمنياً.
إذ يبدو أن مهالك المقتلات السورية قد تصاعدت بطبيعة الحرب نفسها إلى أقصى أشكالها التي كادت تفصلها حتى عن إرادة مديريها. لقد باتت حرباً ذات قوة ذاتية مستقلة وربما عن قادتها العلنيين أو المتخفين. فهؤلاء باتوا شبه أدوات طبيعية للحرب طيلة اللحظات الفاصلة التي كانت تفاجئ بها أحداث سوريا على مدى السنين الخمس. واليوم تحوم عودة القتال فوق الرؤوس جميعاً، كأنها أمست مالكةً لتوقيتها الخاص إن لم يستطع المسؤولون الدوليون أولاً ابتكار المنظومة السلمية التي ستتولى قيادة مرحلة الإنتقال الآتية. وهذه مهمة إعجازية أخرى قد لا يسهل تجاوزها عبر تناقضات الأقطاب المتواصلة.
غير أن ما يزيد من يأس الناس من حصول معجزة السلم الحقيقية، هو أنه، وفي ظروف تعثّر الهدنة نفسها، تفرّخ الحالةُ العربية الإقليمية حروباً فرعية وسياسية وطائفية أخرى، ستعمل على تهميش المسألة السورية أو نقلها إلى مرتبات ثانوية بالنسبة للتحديات المستحدثة حولها. فالانقسام العربي الفارسي المتصاعد، يتخطى الخلاف المذهبي التقليدي (سني/ شيعي) ليصبح سريعاً صراعاً على أولوية النفوذ والقيادة السياسية للإقليم العربي بكامله مع جواره الإسلامي، فتزايد التوتر الدعاوي بين القطبين السعودي والإيراني سينعكس من جديد على المسألة السورية بمضاعفات معقدة. سوف تندد بعودة المدافع إلى دويها المعهود في أجواء الجبهات شبه الساكتة حتى الآن، بحيث لن تسمح هذه الردة باستئناف النقاش حول الحوارات الجدية المؤدية إلى أي نوع من السلم المحلي أو الإقليمي، وستزوّد عربدةَ الحروب المتنقلة بدوافع تبريرية لن تنتهي، كأنما لا رادّ لمخطط تقسيم جسم المشرق، بدءاً من نهري العراق إلى شواطئ الشام. ومن أجل تجديد هذا التصميم التاريخي العريق بنكبات الماضي البعيد والقريب، لا بد من استئناف مقدماته المتكفلة بإحلال كل أشكال الفوضى الشعبوية، وعلى رأسها ذلك العبث بالثورات المزيفة والطائفيات والعنصريات الملفّقة. فلنتذكر أن الأساس (الايديولوجي) لاستعمار المشرق منذ أيام انهيار الإمبراطورية العثمانية، كان اعتماد مبدأ التطويف لشرذمة كتلة الأمة العربية من مدخل عقيدتها التراثية في الإسلام السني. وما فعلته استراتيجية أوباما في المنطقة الأخطر من هذا المشرق العربي هو أنها خدمت أهدافها التقسيمية حسب محاور التطويف المتحكمة إجمالاً في تطور كياناتها الدولتية منذ أول دولة أموية ومن ثم عباسية، ومن بعدهما عبر كل تنويعات التذرير تصوّب على أضعف الخلايا المجتمعية لكل كيان قائم.
تستثمر أمريكا في مكسب التصالح مع ملالي إيران أحد أخطرمحاور التقسيم، على أساس استنهاض ثقافة الشعوبيات المزروعة بذورها في اللاشعور الجمعي لكلا الأمتين العربية والفارسية منذ أيام العباسيين. فإن جعل التطور السياسي في هذه المنطقة متعلقاً بالدرجة الأولى بحاكمية الإستقطاب الديني الطوائفي، هذا يلغي صميم الحاكمية التقدمية لاستقطاب الحرية ضداً على الاستبداد والاستغلال الذي قاد فكر الكفاح الوطني ثم القومي فالإجتماعي فالمدني الثوري الراهن، ذلك الذي شهد عودة الكينونة العربية إلى خارطة الوجود الإقليمي والدولي.
وقد ساعد مزاج أوباما المتقلّب، شاء أم أبى، ومن خلال رقصاته السورية المفجعة والمضحكة معاً، في تهميش المبدئيات السلمية والتقدمية واحدة بعد الأخرى، فإذا بالغيبيات الخام والوحشية تغدو هي المؤهلة وحدها لتشكيل عقليات الأجيال الشابة الصاعدة. فلقد صنّفت هذه الاستراتيجية الخبيثة، كل أسباب تشكيل الإنسان الإرهابي قاتلاً أو انتحارياً. فها هما دولتا النفط الأعظم في العالم، السعودية وإيران، تنخرطان معاً وفي توقيت واحد، (مع فارق المسؤولية الكبرى الواقعة على أكتاف ملالي طهران) في تفجير أخطر بؤر الزلازل الجيولوجية الأعمق ما تحت كل مجتمع عربي وإسلامي كان ينعم في استقرار هش، ولكنه سلمي إلى حد ما.
إذا كان ساسة المجتمع الدولي يحرصون حقاً على عدم إضاعة ثمرة الهدنة القريبة من النجاح الظاهري على الأقل، عليهم أن يواجهوا لكن أجواء المنطقة كلها، التي أمست تعج بموجبات المقتلات الفئوية المعممة هذه المرة على كل معالم المشرق وضواحيه. فكيف لسوريا أن تستعيد أي سلام وهي غارقة في بحر المنطقة هذه الطافحة بإنذارات الكوارث الأسوأ من بعضها، فيما لو استمرت استراتيجة أوباما «العميقة» تلك، التي قادت تناقضات الربيع المشرقي البائس طيلة سنوات حكمه العُجاف، وربما سيمتد زمانها إلى الرئاسة الجديدة القادمة؟ وخلال هذا كله ستتحول وتتصاعد كوارث سوريا إلى مستوى النكبة الفلسطينية السورية الثانية، لتصبح نكبة كبرى عربية وإسلامية شاملة.
ما هو اليوم التالي إذن، على إنجاح الهدنة؟ هل عليه أن يفتح كل هذه الدروب المشؤومة أمام شعوبنا المقهورة، بحيث لا يندفع بعضها في أحد هذه الدروب حتى يكشف ما هو أرهب من خياره السابق، ليلقي بنفسه في تهلكة الآخر؟ هل لم يعد من منفذٍ من وكر الأفاعي الضارية هذه؟.. وإلى متى!

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية