أوباما: إكتشاف سر القوة المطلقة أو قتلها نهائيا

حجم الخط
0

ربما يقرّ اليوم أكثر الذين يعتقدون أن (الأوبامية) مرحلة عرضية في النهج الأمريكي المتأصل منذ قيام الدولة، والمستمر بقفزات هائلة طيلة النصف الثاني من القرن العشرين الماضي، أي أن الإمبراطورية لم تتخذ قرار تصفية ذاتها خلال حقبة رئاسية واحدة لتتراجع عنه فيما بعد خلال عهود رئاسية أخرى مختلفة، فالحقبة السمراء هي على وشك الإنتهاء بعد بضعة أشهر، لكنها ستظل لها أشباح كثيرة هائلة في منعرجات كل ما هو قادم مع مستقبل الأدوار السياسية الكبرى للعالم ولقارات الغرب خاصة.
هناك حقيقة أولية تقول إن الرئيس المختلف لم يكن قادراً لوحده على إعلانات ساعات الحقيقة الجديدة، لم تكن تحولاته ناجحة أساساً من صلب الدولة الأمريكية القوية، فمن أراد أن يعطي الوجه الدبلوماسي المبتسم بديلاً عن وجه المدفع والصاروخ لم يكن ينتوي أن يحوّل أهم دولة عالمية إلى مجرد قرارات سياسية مرتجلة، ومن ثم متعارضة فيما بين قطب وآخر. ومع ذلك فقد اختار أوباما أن يتابع طريق الشوك هذه، وأن يجعل حتى من شخصه، مهزلة الصحافة في بلده، وليس في دول الخصوم وحدهم : لم يتراجع الرجل قيد أنملة عن ثوابته الجديدة هذه، وها هو في خطاباته شبْه اليومية الأخيرة لايزال مدافعاً بارعاً، الاستاذ الجامعي إن صحّ القول، عن مبدئيات أفكاره التي يعتبرها حتى معظم أنداده وأصدقائه مجرد مسوّغات لفظوية لقلب حقائق البدهيات السياسية المتعارف عليها أكاديمياً وتاريخياً، رأساً على عقب. فالرجل يعتبر نفسه مبشّراً جديداً في فلسفة العلاقات الدولية وخاصة بما يتصل منها بمصائب الشعوب الصاعدة، والباحثة عن حرياتها الضائعة بين أكتاف العمالقة كلها، وأتباعهم الصغار. فهو يرى أن هزائم هذه الشعوب المستضعفة كانت علّتها هو اندفاعها المطلق وراء التحرير بكل وسائل العنف المطلق، إذ أنها بعد توالي الخيبات الكبرى في هذا الإتجاه وكأنها تنحو نحو سلم استسلامي لإرادة المستتبين بها، من دون أي اعتراض فعّال. فلماذا لا نأتي بالبديل الثالث عن كلا الحديْن وهما الكفاح المحكوم بهزائمه المتوالية، من ناحية، أو السلم الإستسلامي لمصير الخضوع لأمر الواقع التسلّطي وحده. هذا البديل الثالث هو الجمع بين الحديْن لكن دون الإستتباع التلقائي لأحدهما ضداً على الآخر.
تجربة أوباما مع فتن سورية شكلتا أول تطبيق صارخ لهذه المعادلة، فالتوجيه الفاعل في مختلف تجلّيات هذه التجربة هو من وحي الرفض الأمريكي على كلا الحبلين معاً دون أن يقع أسيراً لأحدهما دون الآخر على الأقل.
فالإدارة الأوبامية لم تنجرّ إلى أية معركة واحدة حاسمة مع النظام السوري الذي كانت لا تكفّ عن المطالبة برحيله ولاشرعيته، هذا حدث مع توفر عشرات المناسبات الميدانية والثأرية، التي كان يمكن لها أن تنهي الحرب خلال أسابيع أو أيام وليس أشهراً أبداً.
إذا أتيح يوماً لبعض المعارضين الإضطلاع على بعض جوانب العلاقة المعقدة بين العملاق والقزم، فسوف تتلخص لها ذخيرة حية بالمفارقات المتنوعة سياسياً وعسكرياً وحقوقياً فريدة من نوعها في الثقافة الدولية، كان فيها أوباما يصطاد الفأر والقط من لعبتهما معاً، ويتلاعب بها إيجاباً وسلباً معاً. كان حريصاً، في كل حبكة معقدة في السياسة السورية أو في ميدان من ميادينها، للقبض على رأس كل من القط والفأر في اللحظة المناسبة، رادعاً لهما عن إرتكاب مجزرة هنا أو هناك. أو دافعاً لارتكاب سواها في مناسبة أخرى.
بكلمة واحدة، فقد يختلف الكثيرون حول مدى النجاح أو الخيبة من السلوك الأمريكي لأوباما. لكن بصورة عامة لن يكون من المبالغة التصريح بالفم الملآن، أن الحاكم الأسود الأول، وربما الأخير، لأعظم دول الدنيا قد خرج من تمارينه السورية كأنه هو الرابح وحده. كذلك لن يكون نجاحه ذاك نصراً عابراً محدوداً، بل انعطافاً بالغ الأهمية بالنسبة لمكانة أمريكا وأدوارها المنتظرة إزاء قضايا دولية لا تزيدها المهالك العسكرية إلا شراسة وضراوة ضد ما تبقّى للإنسانية من تعلقها بالمُثل العقلانية العريقة. إنه المنطق الأمريكي الذي سيغدو مثلاً عالمياً حتى في مفاهيم متجذرة حول استراتيجية كونية شاملة، أهم عناوينه البادية منذ الحاضر هو إلغاء مبدئية الفاعل العسكري في بناء الأمن المحلي والدولي. فالمستقبل الذي هو لقوة الذكاء الإنساني مرافقاً لمنهج الذكاء الإصطناعي إنها القيادة للعلم وحده، اللامحدود. غداً لن تكون الدولة الأقوى عالمياً هي دولة الصواريخ أو القنابل النووية، بل إنها شجاعة الآلات الحاسبة الجبارة التي ستتابع حركات كل إنسان على الأرض؛ لأقل نجمة في السماء.
وأما إذا سألنا أنفسنا نحن العرب، أين سنكون في هذا العصر الجنوني ذكائياً الذي فتحت سوريا بابه الأصغر كلياً، ثم راحت بقية أبوابه الأخرى تستعد للإنفتاح، وذلك ما وراءها من المصارف والأرقام والمعادلات الرمزية السرّية والعلنية، بالطبع لم تكن نكبة سوريا في كل هذا إلا الذريعة أو الخدعة التآمرية الكبرى. وقد عرف أوباما كيف يكتشفها هكذا على حقيقتها ويمتطيها ليخوض بها (ثورته) السرّية الخاصة به، التي سوف تصير ثورة الدنيا على ذاتها، من أجل ذاتها وربما حتى مسارها الأخير كذلك.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية