أخي المواطن: كُل وأنت ساكت!

حجم الخط
22

عندما عرضت في مقال الأسبوع الماضي ملخص آراء الراضين عما كان يجري في سوريا من قمع رهيب لكل المعارضين أو حتى المختلفين، لم يكن قد نُشر بعد حوار المشير عبد الفتاح السيسي مع وكالة «أسوشيتد برس» والذي يعتبر أبرز حوار قام بعرض رؤيته لحكم مصر بشكل مفهوم بعيدا عن السكتات الطويلة التي توحي بحكمة لا نرى لها في الواقع أثرا، ودون شوشرة يسببها الكلام المُدغم الذي يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا تأمله لم يجده شيئا. وربما كان سر اختلاف الحوار هذه المرة أن من حاور السيسي صحافيون يؤدون مهمتهم باحترافية واحترام لمهنتهم، دون أن يتخذوا من التطبيل ديدنا ومن «المحلسة» منهجا.
سأختار من الحوار فقرة أراها مدخلا مهما لفهم قرارات كثيرة اتخذها السيسي منذ تولى حكم البلاد فعليا عقب خطاب التفويض الكارثي، حيث يقول بالنص: «حقوق الإنسان اللي حضرتك بتتكلم عليها واللي كثير بيتكلموا عليها مش عايزين نختزلها في حرية التعبير عن الرأي، وإن كنت انا بحترم حرية التعبير عن الرأي، مفيش كلام، واللي متابع الاعلام في مصر هيجد انه بيتكلم زي ما هو عايز، أحيانا بيبقى حتى مبالغ في ممارساته لكن لا بأس في كده. فيه في مصر ناس كتير قوي بتعاني، وأنا متصور ان حقوق الانسان متجاوزاها في انه يعيش بشكل كريم ويتعلم بشكل جيد ويجد فرصة عمل حقيقية ده مش موجود، وانا بتصور ان احنا محتاجين حقوق الإنسان كفكرة وممارسة محتاجة انها تتطور علشان تعالج المسائل اللي انا بتكلم فيها. فيه ملايين المصريين موجودين بيعيشوا في أماكن لا تليق. فيه كتير من الشباب مبيشتغلش وده مش مقبول، من حقه انه يشتغل، انه يعيش، انه يبقى عنده بيت وعنده اسرة، ده مش موجود، انا بتصور ان ده من حقوق الإنسان. ومش كده وبس، وعيه، انه يبقى عنده وعي حقيقي بالواقع، ده من حقوق الإنسان».
أرجو أن تراجع كل ما استطعت إليه سبيلا من خطابات جنرالات سوريا والعراق وليبيا طيلة العقود الماضية لتجد أن رؤيتهم لحكم بلادهم كانت مطابقة للمعنى الذي يتحدث عنه السيسي، معنى ملخصه: «نعم حرية التعبير مهمة ولكنها ليست كل شيء، فهناك حقوق أهم للإنسان هي أن يأكل ويعيش ويتعلم، لذلك يجب أن يسكت حتى نوفر له ما يأكله، وعندما نوفره له عليه أن يأكل وهو ساكت لكي لا يعطلنا بكلامه عن التركيز على توفير الأكل له». وهي رؤية لعلك لا تحتاج إلى أن أذكرك إلى أين أفضت نتائجها بسوريا والعراق وليبيا، وبكل دولة لا ترى أن حق الإنسان في التعبير والرفض هو وحده الذي سيكفل له الحق الدائم في الرزق والأمن والكرامة.
منطق السيسي يوحي لغير المتابعين أن الذين يطالبون في مصر بحرية الفكر والتعبير والإعتقاد والتظاهر والعمل السياسي يفعلون ذلك لأنهم راغبون في الحقوق الثانوية أو يعشقون الرياضات الذهنية والسفسطائية، كأنهم لا يطلبون كل ذلك من أجل ضمان حقوق المواطنين في العيش الكريم وتكافؤ الفرص والعدالة الإجتماعية ورفض أن تكون هناك مؤسسات منزهة عن الحساب والعقاب والرقابة. لاحظ أصلا أن السيسي يتحدث كأن الإعلام في مصر حر لدرجة أنه يبالغ في ممارساته، وهو ما لا يمكن أن تفهمه إلا إذا وضعته في سياق شكواه قبل أسابيع من عنوان صحافي من كلمتين: «منورة يا حكومة»، يسخر من مسؤولية الحكومة عن انقطاع الكهرباء، مما يجعلك تسأل كيف سيكون رأيه مثلا لو قام الإعلام بطرح أسئلة جادة عما يجعل كبار الضباط والمسؤولين يعيشون في أماكن تليق، ويعمل أبناؤهم فور تخرجهم في مواقع يتمناها غيرهم، وما إذا كان هذا متسقا مع حقوق الإنسان «الأساسية» أم لا؟، أو لو قام الإعلام بمناقشة جادة لأسباب رفع ميزانية الجيش والداخلية والرئاسة وخفض ميزانية الصحة، الذي تشكو منه نقابة الأطباء في موقعها الرسمي لمن يرغب في التأكد من الأمر. أو لو قام الإعلام الذي يصفه بأنه حر بعرض مهازل التعذيب وإهدار حقوق الإنسان التي تحدث في أقسامه وسجونه، ليس فقط لمعارضيه بل لكثيرين ممن شاء حظهم العاثر أن يولدوا في بلد يعتبر المواطن الذي لا يعجبها مدانا حتى ولو ثبتت براءته.
في حواره يقدم السيسي منطقا كان يقدمه أيضا قادة سوريا وليبيا والعراق كرد على انتقادات المجتمع الدولي لإهدار حقوق الإنسان، فهو يتحدث عن انخفاض عدد الذين يتعرضون للتجاوزات والإنتهاكات لدرجة لا تجعل نسبتهم واحدا من كل ألف مواطن، ناسيا أنه أصلا شق طريقه إلى الرئاسة بكلام عاطفي عن أن أي أذى يصيب أي مواطن مصري لا يرضيه، فإذا به الآن وبعد أن تربع على سدة الرئاسة وسد المنافذ المؤدية إليها يعود لترديد نغمة الثمن الذي يمكن أن يدفعه البعض من أجل تقدم المجتمع، وهي نفس النغمة التي لا يوجد حاكم عربي إلا ورددها، بمن فيهم سيئ الذكر محمد مرسي الذي كان أخيب من أن تواتيه الفرصة لتطبيقها عمليا.
ليكتمل تأملك لمنهج السيسي في حكم مصر، راجع ما سبق أن قاله قبل أسابيع في حديث له مع رؤساء تحريره عن «أن الديمقراطية بشكلها الغربي ليست مناسبة لأوضاع مصر الآن، وأن مصر تحتاج إلى عشرين عاما على الأقل لكي تكون صالحة لذلك». وهي فكرة شديدة الخطورة سبقتنا إليها دول عديدة شرقا وغربا، فأضاعت كلها فرصا سانحة للتقدم والإصلاح، وظلت في تأخرها وخيبتها، حتى أدركت أن النظام الديمقراطي القائم على تداول السلطة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص وضمان حرية التعبير بكافة أشكالها وضمان حقوق الأقليات هو وحده طريق التقدم الذي تكتنفه دائما صعوبات بل وكوارث أحيانا، لكن التغلب عليها لا يكون إلا بالمضي قدما في ذلك الطريق والتعلم من التجربة والخطأ. وهو ما جعل دولا مثل البرازيل وتركيا والأرجنتين وتشيلي وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال لا الحصر، تقفز خطوات واسعة إلى الأمام، بعد أن ظلت لسنوات طويلة في القاع بسبب ابتلائها بنخب حاكمة روجت فكرة الخصوصية الوطنية التي تبيح المحظورات، ودغدغت أحلام الجماهير بغد أفضل، إذا سلمت لتحالف الجنرالات مع رجال المال بمباركة من المؤسسات الدينية.
والمشكلة أنك كلما تحدثت عن تجارب هذه الدول وجدت من يتصور أنه سيفحمك عندما يذكرك بممارسات خاطئة بل وإجرامية أحيانا قام بها قادة هذه الدول «المنتخبون». والمضحك أنك تجد هؤلاء يؤيدون أشد الممارسات الإستبدادية انحطاطا، ومع ذلك يتحدثون بلهجة المكايدة عن قمع أردوغان ودولما روسيف للمتظاهرين والصحافيين، وفساد إبن لولا دي سيلفا، وأخطاء حكام جنوب أفريقيا وتشيلي والأرجنتين، دون حتى أن يطلعوا على الإحصائيات الدولية المعتمدة التي تثبت تقدم هذه الدول التي أخذت التحول الديمقراطي بجدية. لعلهم يشعرون بالخجل من تأييدهم لعودة مصر إلى انحطاط عهد حكم الفرد، الذي ثبت بالتجارب أنه طريق هلاك البلاد مهما كان هذا الفرد صالحا أو وطنيا أو عظيم المناقب. وما أدخل سوريا والعراق وليبيا في هذه الأنفاق المقبضة مجهولة المصير إلا أن شعوبها استجابت لنداء قادتها الملهمين عندما طلبوا من كل مواطن أن «يأكل وهو ساكت»، لأنهم أدرى بمصلحته منه وأخوف على بلاده منه.
كان بريخت قد قال يوما: «تعيس ذلك البلد الذي يحتاج إلى بطل»، فأي بؤس إذاً هو بؤس البلد الذي يظن التعيس بطلا؟

بلال فضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد اللطيف المغرب:

    إذا سلمنا جدلا بأن الديمقراطية بشكلها الغربي ليست مناسبة لأوضاع بلد ما،
    فإن الاستنتاج الحتمي هو كالتالي: إن البلد محتاج إلى ديموقراطية خاصة به.
    و بما أن الديموقراطية بشكلها الغربي غير قائمة على حكم الفرد و إنما قائمة على تداول السلطة وسيادة القانون وضمان حرية التعبير بكافة أشكالها وتكافؤ الفرص وضمان حقوق الأقليات و كرامة الفرد و المجتمع و ربط المسؤولية بالمحاسبة و……….
    و بالتالي فإن الديموقراطية الخاصة ينتفي فيها على الأقل ركن من أركان الديموقراطية بشكلها الغربي،
    بمعنى آخر، فإن الديموقراطية الخاصة إما أنها تعتمد على حكم الفرد (الدكتاتورية) أو إمها لا ترتكز على حرية التعبير بكافة أشكالها، و إما لا يعنيها التداول على السلطة في شيء، و إما تضرب بعرض الحائط سيادة القانون و إما تقوم على تعطيل ربط المسؤولية بالمحاسبة و……..أو تفتقر إلى جميع هذه المرتكزات.

  2. يقول هشام محمود لندن:

    مقال في الصميم .. سلمت يا أستاذ بلال ..
    هكذا هو سلوك كل دكتاتور عايشناه في معظم
    الدول العربية المكلومة .. حكامنا يحبون الخير لنا
    علينا ان نصمت ونقفل أعيننا ونصم آذاننا فهم كتر
    خيرهم من يوفر لنا الخبز وذلك يكفي..

  3. يقول نبيل كامل-- القاهره:

    استعجب ممن يثني علي جزا من المقال ويعترض علي الاخر،، .. فالجزا الذي لا يعجبك هو لنفس الكاتب الذي اثنيت عليه.

    1. يقول Ossama Kullijah سوريا:

      اخي نبيل لايوجد احد يملك الحقيقة كاملة او بشكل مطلق والكاتب يحطي راْية وربما لدية صورة او فكرة يغالط بها نفسة والاخرين معة لكننا متفقين ان المقال جيد بشكل عامل في مضمونه اما التفاصيل فيمكن مناقشتها وانا ايضا احد ان مرسي كان مخطئا على الاقل مثلا في صياغة الدستور الذي تم تفصله على مقاسات الاخوان المسلمين وهذا غير سليم في دولة مثل مصر خرجت للتو من ثورة شعبية اصليه
      بالنسبة لي احب ان اؤكد اننا في سوريا سكتنا طويلا كما قال الاخ ماجد الشامي وماحصل هو ان النظام ازداد ظلما واستبدادا وقباهتى لدرجة اننا لم نعد نصدق اننا نعيش الواقع بل واعتبر نفسة كالآلهه لايسمح لاحد بالشك في سيادته وعلى راْي الشاعر اا اكرمت الكريم ملكته واذا اكرمت اللئيم تمردا وهذا هو حالنا مع الانظمة العربية وخاصة النظام السوري طبعا من الخطاْ الفظيع ان يعطي الشعب المصري للسيسي السكوت وعلى راْي المثل من راْى العبرة في اخيه فليعتبر فلا سكوت بعد اليوم ان شاء الله والساكت عن الحق شيطان اخرس!

  4. يقول الطرفاوي حسن:

    كل تحليلك منطقي وفيه جرأة فقدناها في كثير من الاعلاميين المصريين المنبطحين لكن لم تكن موفقا في تهجمك على مرسي فلا قياس مع وجود الفارق وانت اعلم مني بالمطبات والعراقيل والمؤامرات التي حيكت منذ توليه الرئاسة لتنتهي القصة بانقلاب السيسي

  5. يقول وليد علي -- مصر:

    “الإحصائيات الدولية المعتمدة”
    في تركيا 2011 فإن ال20% الأفقر من الشعب يمتلكون فقط حوالي 6% من ثروة البلاد بينما ال20% الأغني يمتلكون 50% من الثروة.
    http://www.reuters.com/
    article/2012/11/28/turkey-unemployment-idUSL5E8MGBB420121128

    أما في مصر و حتي في نظام مبارك في منتصف التسعينات و قبل تبنيه لسياسات الرأسمالية المتوحشة، فقد كان ال20% الأفقر يمتلكون حوالي 10% من ثروة البلد بينما ال20% الأغني لا يحصلون علي ما يزيد عن 39% من الثروة. فأيهما كان أعدل في التوزيع اذن؟
    http://www.nationsencyclopedia.com/
    economies/Africa/Egypt-POVERTY-AND-WEALTH.html

    أما عن البطالة في تركيا فبعد أم كانت نسبتها تتراوح من 6% الي 8% و أحيانا نادرة تقترب من 9% في الثمانينات و التسعينات و حتي بداية الألفية، نجدها تتخطي تلك النسب و لا تعاودها مرة أخري منذ تولي حزب العدالة و التنمية للحكم بحيث تصل الي نسب غير مسبوقة من قبل فمثلا تزيد عن 14% في 2009 و تصل تقريبا إلي 12% في 2010
    http://www.indexmundi.com/
    turkey/unemployment_rate.html

    أما عن الاقتصاد التركي بصفة عامة فهو يتراوح بين المركز السابع عشر و السادس عشر عالميا منذ ثمانينات القرن العشرين و حتي الآن و لم يتغير ترتيبها منذ عقود (بمعني أن تركيا لم تكن “خرابة” مثلا و جاء حزب أردوغان و عدل المايلة).

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية