وقفة مع المؤرخ الالماني يوهانس فرايد: العصر الوسيطô.نهضة أم انحطاط؟!

حجم الخط
0

لقد كان العصر الوسيط مليئا بالتناقضات، يحدثنا المؤرخ ‘الالماني المعروف يوهانس فرايد في هذا الحوارعن متطلبات الحياة اليومية وازدهار المدن وولادة علم جديد من بين ثنايا روح ‘أبوكاليبس’ أي بمعنى ‘كشف الحجاب’
جريدة دي تسايت: السيد ‘يوهانس فرايد’، أنت أكبر العارفين بالعصر الوسيط. هل كنت تود العيش في تلك الحقبة؟
يوهانس فرايد: بحق السماء، لا! إنها القذارة المروعة والرائحة النتنة، وإذا قُلت نعم على المرء إعادة قدراته الحسية كاملة إلى الخلف، نحن نعيش اليوم في عالم خال تقريبا من القذارة وفي ذلك الوقت لم يكن الناس يغتسلون بشكل دائم كما نفعل نحن ذلك اليوم، كانت الملابس لا تُغير بشكل منتظم فقد كان المرء ينام ويعمل ويعرق ويبرد بنفس الرداء وهذا ما كان يدعو إلى انبعاث الرائحة الكريهة! كما كان هناك مشكل السفر، فإنك كنت إذا أردت التنقل من مكان إلى اخر، كان عليك الذهاب سيرا على الأقدام أو يمكنك التنقل بالعربة بعضا من الوقت ولكن حتى لو كان لديك حصان فعليك توخي الحذر لأنه لا يجب على الحصان أكل عشب الفلاحين لأن هؤلاء قد يُبرحونك ضربا بسبب الضرر الذي لحقهم وإذا حدث وذهبت إلى الكنيسة فليس هناك كراسٍ أضف إلى ذلك هناك مشكل الأكل إذ لم يكن طعمه جيدا على الإطلاق لأنه جد مالح!و بما أنك طرحت علي سؤال:هل تُريد أن تعيش مثل العصور الوسطى؟ أجيبك: لا، لا أستطيع ذلك.
جريدة دي تسايت: حسنا ولكن العصر الوسيط الذي مدحته بشكل كبير في كتبك، هل كان جد مظلم؟
يوهانس فرايد: نعم، صحيح كان مظلما! فقد كان الناس يعيشون في بيوت خشبية صغيرة كأنها كوى كما كانت المنازل مظلمة من الداخل ومن ثم الناس في فصل الشتاء يُوقدون النار التي مثلت غالبا الضوء الوحيد وبالتالي كان الدخان المنبعث من النار سببا في احمرار العيون والتصاقها فساد الاعتقاد أن قديسا يأتي فيجعل الأعمى مبصرا ولكن ذلك لم يكن في العادة أكثر من تأثير مرهم مُهدئ، يضاف إلى ذلك الموضوع المتعلق بالشموع التي كانت موجودة ولكنها لا تقدر بثمن لأنها كانت مصنوعة من شمع العسل ورغم ذلك فقد ذكر أن ‘تشارلز الرابع’ كان يُشعل منها الكثير على مدار الساعة دون مبالاة ولا خوف خلافا لعامة الناس الذين كان يُكلفهم ذلك ثروات طائلة لذا كان الفقراء يستعملون بدل الشمع في كثير من الأحيان رقائق الصنوبر والخشب المبلل من جبال’الهارتس’.
جريدة دي تسايت: جميل، إذا تتبع المرء العرض الذي نشرته مؤخرا يمكنه التوصل إلى اعتبارك بأن ضوء ‘العقل’ ظل ناصعا، فهل هذا هو ‘العصر الوسيط المعتدل’ كما وصفته وهل هو في النهاية إسقاط للظلام؟
يوهانس فرايد: تعود فكرة ‘العصرالوسيط المظلم’ إلى حوالي ثلاثمائة سنة خلت وبالضبط إلى عصر ‘التنوير’ وآمل أن يتم فهم أعمالي بشكل أفضل قليلا عوض القراءة الحالية المنتقدة وأريد التصريح به أنه في القرن العاشر خاصة -كما عبرت عن ذلك- كان هناك ‘انحطاط للعقل’ ولم أقل أبدا أنه كان أحسن قرن للحكمة في التاريخ ولكن ذكرتُ أنه تم في ذلك العصر ولأول مرة إعادة تلقي وتفسير نصوص’أرسطو’ وخاصة النصوص الأولى والثانية المتعلقة بـ’المنطق’ وقد اشتغل علماء العصر الوسيط المتأخر على هذه النصوص مثل نظرية ‘الفئات’ ومذهب ‘الجملة’ اللذين قام ‘أرسطو’ من خلالهما بوضع الأساس لمفهومنا الغربي للاستدلال العقلاني ووصف العالم كما تم التعليق باستمرارعلى كثير من النصوص والمخطوطات ولذلك كنت تجد كثيرا من تلك النصوص مليئة بملاحظات مثل: ماذا يعني هذا؟ كيف يتم التفكير في المستقبل؟وانطلاقا من ذلك بدأ التفكير في السير نحو عقلنة الحضارة الأوروبية.
جريدة دي تسايت::ولكن رغم ذلك تبدو بعض المقولات الرسمية والمنطقية لمفكري القرون الوسطى اليوم غير عقلانية، أذكرمنها على سبيل المثال لا الحصر الدليل الشهير عن وجود الله للمفكر ‘انسيلم فون كانتربوري’ الذي يرى :’أن الله كامل والكمال هو الوجود إذن فإن الله موجود’.
يوهانس فرايد: لقد سبق أن دحض هذا التصور معاصر له ! فأنا أفضل أن أستدل بمثال آخر ل ‘كانتربوري’ وهو: ‘الإيمان الذي يُسهم في التبرير العقلاني’. إن مثل هذا الفكر يقود إلى الجدل حول ما يسمى بـ’القربان المقدس’ الذي كان يُقدم لأول مرة في العصور الوسطى المتأخرة قبل أن يظهر مرة أخرى في فترة ما قبل الإصلاح. لقد اصطدم عالم الدين الفرنسي ‘بيرونجي فون تور’ في القرن الحادي عشر وهو عالم كبير في زمنه بهذا النقاش الحاد فقال: نعم، كيف ذلك؟ وهنا يتكون لدينا شخص علماني. وماذا الآن؟ هل سيُقبل هذا العلماني من المؤمنين المسيحيين أم سيتم التخلص منه! إن مثل هذه الأسئلة لم يكن ممكنا طرحها إلا بعد أن درس العلماء لمدة قرن ‘أرسطو.’
لقد خضع كل شيء منذ العصور الوسطى المتوسطة للتفكير المنطقي فصارت الاستدلالات تحتاج إلى تتبع قواعد معروفة وقابلة للتحقق منها وانطلاقا من هذا صار كل بيان مفهوما للآخرين وممكنا نقده. ربما كانت ظروف معيشة معظم الناس في العصور الوسطى بدائية ولكن من الناحية الفكرية يُمكن القول بأن الفكر السائد في ذلك العصركان متقدما جدا.
جريدة دي تسايت: ذات مرة قال الكاتب ‘أُمبرتو إيكو’ إن العصور الوسطى تُقدم نموذجا تقريبيا لـ’عصرنا’ الحالي فالعالم سواء انذاك أو اليوم يستمد استمراريته من توقعات النهاية ورؤى سقوط العالم الرهيبة وتيارات الإلحاد الواسعة.
يوهانس فرايد: إنني أسميه ‘الفكر الأخروي’ وكما ذكر ‘أمبرتو إيكو’ فقد لعب هذا الفكر في الواقع خلال العصور الوسطى دورا محوريا وهو بذلك يشبه ‘الفكر المنطقي’ الذي تعود جذوره إلى ‘الكلاسيكية القديمة’ و’فكر الأبوكاليبس’ (كشف الحجاب) المستمد من التقاليد السامية القديمة.
لقد استوعبت المسيحية هذا الفكر وطورته كثيرا وبالتالي صار ‘الأبوكاليبس’ في العصور الوسطى النمط السائد لعالم التصورات والرؤى حيث يعيش الناس في انتظار يوم القيامة، كما أن جميع أشكال الحياة على الأرض آنذاك كانت موجهة لعودة الإنسان المُخَلَّص وإلى نهاية العالم والبداية الأخرى. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا التفكير مازال يعيش في عمق العصر الحديث حيث نجد أن ‘مارتن لوثر’ قد نهل من ‘فكر الأبوكاليبس’ وتوقع حدوث يوم القيامة في زمن غير محدد، كما أن مثل هذه الأفكار تظهر أيضا عند التيار العلماني أيضا وأذكر هنا كمثال على ذلك عالم الفيزياء الشهير ‘إسحاق نيوتن’ الذي قام إلى جانب أبحاثه الفيزيائية بكتابة مؤلفات عدة عن ‘علم الأخرويات’، لقد اعتقد هو أيضا بأن المسيح سيعود في نهاية العالم ولكن العالم القديم لن يزول كما سبق وأعلن ذلك ‘مارتن لوثر’ إلا أنه سيتم إعادة خلقه وتحسينه ويمكن للمرء متابعة هذا التوجه إلى غاية ‘كارل ماركس’ الذي أتى بفضل نظريته المادية للتاريخ وفكرته ‘الشيوعية’ بالحالة النهائية حيث تحدث عن الجنة فوق الأرض وبذلك دخلت بذلك الثورة العالمية كبديل عن يوم القيامة فانقلب الفكر الديني ‘الأخروي’ إلى نظرة ذات طابع علماني مادي وعلمي للعالم.
جريدة دي تسايت: لقد ذكرت ‘العقلانية’ و’التفكير في العالم الاخر’، ألا يُناقض هذان التوجهان بعضهما البعض؟
يوهانس فرايد: لا، لاأظن ذلك، بل على العكس لأن الفكر العقلاني كما كان في العصور الوسطى هو منحدر في الأصل من ‘الأبوكاليبس’ وكما جاء في الكتب المقدسة فإن ألف سنة مما نعد تساوي عند الله يوما واحدا، فاعتقد الناس أن العمر الافتراضي للعالم هو ستة ألاف سنة بالضبط وإلى غاية يوم القيامة سنصل إلى اليوم السابع وهو يوم الأحد الأبدي وقد كان السؤال الملح: أين يجد المرء نفسه في هذا السير التاريخي المقدس؟ كم من الوقت مر حتى الان؟ متى تكون نهاية العالم؟ وقد حاول مرارا وتكرارا علماء العصورالوسطى حساب هذا التاريخ فتنبأ أحدهم أنه سيكون سنة 1789، عام الثورة الفرنسية! إذن لم تكن الحاجة إلى تلك المعرفة مُشجعة للرياضيات فقط ولكنها كانت مشجعة لعلم ‘التنجيم’ أيضا والذي كان يُقصد به علم ‘الفلك’ولعل هذه العلوم هي التي برزت بجلاء في العصور الوسطى.
إلا أن معرفة علامات الأزمنة ونهاية العالم لا يمكن قراءتها من السماء فقط فقد بدأ المرء يقرأ العالم مثل كتاب مسطور وأخذ يفكك رموزه من أجل التأكد من الرسالات السماوية التي تشير إلى أن ‘نهاية العالم’ وشيكة، وهكذا نشأ العلم الحديث الذي يقوم على الملاحظة والمنطق. إن الإيمان بالعالم الآخر والمنطق يُشكلان سياقا ممتدا إلى يومنا الحالي.
جريدة دي تسايت: طيب، إذا نظرنا اليوم وجدنا أن أناسا كثيرين انبهروا بالعصور الوسطى أيجوز لنا القول بأنها كانت أكثر جاذبية من العالم الحديث؟.
يوهانس فرايد: هذا صحيح، تبدو العصور الوسطى كأنها عالم سحر وخرافة فقد كانت هذه العصور مُؤثرة من خلال أعمال قوية تفوق طاقة البشر كما أن لها مصدرا من بعض الأساطير الخاطئة التي ظهر تأثيرها بجلاء لاحقا في الروايات المكتوبة، هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد أيقظت العصور الوسطى حب السفر والتجوال في نفوس كثير من الناس رغم أنه عصر غابر.
جريدة دي تسايت: إذن فالسؤال المطروح هنا هو هل لهذا التصور علاقة مع الواقع التاريخي؟
يوهانس فرايد: لا، أوعلى الأقل ليس كثيرا، حيث يمكن تشبيه هذه العلاقة بالحياة الحقيقية للفارس فهذه الحياة معروفة للنزر القليل من الناس، لقد كان هناك ميل إلى الوحشية إذ ارتدى القليل من المحاربين دروعا واقية للجسم فكان بتر أجزاء من الجسم دائما حاضرا كما حدث مع
‘ G’tz von berlichingen الذي فقد يده ولذلك شكل هذا الأمر سببا من بين أخرى جعلت العديد من النبلاء ليس بمقدورهم مواصلة ممارسة مهنة أجدادهم، وهناك أمثلة لا حصر لها من القرن الرابع عشر للفقر الحقيقي في العائلات النبيلة. لقد كان الإنفاق على الخيول والأسلحة والدروع هائلا جدا لدرجة صارت معه في بعض الأحيان رسوم الفلاحين التي يدفعونها للأسر النبيلة غير كافية.
جريدة دي تسايت: لقد تأسست هنا في ‘هايدلبرغ’ المدينة التي تعيش وتعمل فيها أول جامعة ‘ألمانية’ وذلك في العصور الوسطى المتأخرة. هل يمكن أن تتخيل كيف تتصور طالبا من القرن الخامس عشر …؟
يوهانس فرايد: إذا كنت تدرس وأنت ‘ابن النبلاء’ فقد تعتبر الأمر جيدا ولكن معظم طلاب تلك الفترة كان لزاما عليهم الكفاح من أجل البقاءعلى قيد الحياة ولنأخذ على سبيل المثال ‘طوماس بلاتر’ الذي وُلد حوالى سنة ألف وخمسمائة فهو صبي قروي من ‘ويلز’، كان إلى حدود سن العاشرة لا يزال يرعى الماعز وقد ذكر هذا في سيرته الذاتية ثم رافق بعد ذلك ابن عمه الذي تم إرساله إلى المدارس الثانوية كمتعلم وبقدمين حافيين وبأسمال انتقل الاثنان من مدينة جامعية إلى مدينة جامعية أخرى فذهبا إلى ‘لايبزيغ’ و’برسلاو’ و’كركاو’ وخلال هذه الرحلة كان واجبا على ‘توماس بلاتر’ سرقة الطعام له ولابن عمه معا وأكثر من ذلك فالمثير للدهشة كون ‘توماس بلاتر’ تعلم خلال هذه السنوات اللاتينية واليونانية والعبرية! حيث أهل نفسه في وقت لاحق ليكون معلماً لهذه اللغات في ‘بازل’ و’ستراسبورغ’ وأسس دارا للنشر وناضل إلى جانب ‘زفينجليس’ من أجل الإصلاح وبهذا الاعتبار فهؤلاء لم يصلوا إلى درجة الأطفال النبلاء الذين درسوا في جامعات الأغنياء فقط بل تخطوهم. وعموما يمكن القول بأن الضعف المادي الذي كان سائدا في العصور الوسطى فتح الباب على مصراعيه أمام تطور الحضارة الأوروبية لأن الحاجة أم الاختراع سواء من الناحية الفنية أو الاجتماعية.
جريدة دي تسايت: ألا ترى أن هذا يتناقض مع طرحين شائعين حول العصور الوسطى مفادهما أنه في تلك العصور منعت كل نهضة اجتماعية وعرقل كل تقدم فكري؟.
يوهانس فرايد: هذه الفكرة في الواقع غير صحيحة رغم أنه كانت هناك بالطبع حواجز فئوية. لقد انتهى عصر’النبلاء’ منذ القرن الثاني عشر وأصبحت العودة إليه ببساطة غير ممكنة. ومن ناحية أخرى فقد أتاحت المدن فرصا أكثرفأكثر لجمع ثروة كبيرة وتمكن البعض بفضل إنجازاته الفكرية في ذلك الوقت من الحصول على نوع خاص من الهيبة فصنع نجاحاته من الكنيسة أو من خلال العمل في المجتمع الحضري كمدرس وكمثال جيد على هذا الصنف أذكر الفيلسوف واللاهوتي ‘بيتر آبيلارد’ سليل عائلة الفارس الصغيرة، فقد كتب في مذكراته أنه انتقل إلى جامعة باريس بحثا عن المجد والمال! وهو ليس استثناء.لقد اعتُبرت المعرفة والتعليم والمهارة في كثير من الأماكن خلال العصور الوسطى والمتأخرة أكثر أهمية من الانتماء العائلي أو المهني. وقد برز ذلك بوضوح في إيطاليا خلال القرنين الثالث والرابع عشر في قضية ‘المرتزقة’، إذ عرف هذا الميدان في تلك السنوات تنظيما حقيقيا حيث نجح هؤلاء في التفوق على الرجال الذين كانوا تحت إمرتهم! ومن تم قد يحدث أن يُصبح زعيم المرتزقة الذي يسمى ‘condottieri’ أميرا لمدينة أو فارسا، وقد كان لمرتزقة ‘ميلان’ المسماة ‘sforza’ سوابق من هذا النوع ومن جدير الإشارة هنا أن المسيحيين أول من أسس البنوك الأوروبية الكبرى إذ كنت لا تجد ملكا في العصور الوسطى دون مصرفيين.
جريدة دي تسايت: يحملنا تنظيم السلطة في العصور الوسطى في المقابل إلى عالم غريب إنها سياسة تستند كليا إلى الولاء الشخصي والنزاهة دون الاعتماد على الدولة الحديثة وهذه المقاربة من الصعب تخيلها في وقتنا الحاضر، أليس كذلك؟.
يوهانس فرايد: لقد تغير التنظيم السياسي إلى حد كبير خلال السنوات الألف الأولى من العصورالوسطى، ففي العصور الوسطى المبكرة كان ‘القوط’ يلعبون دورا هاما في السياسة وفي وقت لاحق انتقلت السلطة والسيطرة إلى الأسر الحاكمة ثم انتقلت مرة أخرى في العصور الوسطى المتأخرة إلى ما كان يسمى ب ‘المدن الحرة’، وقد كان معظم الناس نادرا ما يسافرون أولا يسافرون أبدا فلا يخرجون من قريتهم حيث كان الولاء السياسي لسيدهم أي ذلك الرجل القادم من الطبقة العليا أي من عائلة النبلاء المنحدرة من الملك.
لقد كان الولاء خاضعا لنوع من الهرمية فصار لزاما الانتظار إلى غاية أواخر العصور الوسطى لظهور المملكة المركزية في فرنسا فظهرمعها مفهوم ‘الأمة’. وتطور في هذا الإطار في إنجلترا في نفس الوقت رمز التاج الذي أصبح مثالا لمؤسسة ُمجردة من جهاز الدولة التي تعمل في غياب الملك، ومن المعروف أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي حافظ الملاك والسلطات المحلية فيهاعلى وزنهم السياسي.
جريدة دي تسايت: نحن نتحدث عن زمن يعود بنا إلى خمسمائة وألف وخمسمائة سنة إلى الوراء أي أن قاعدة المصادر تضيق في بعض الأحيان إذن ماذا يمكننا أن نعرف عن العصور الوسطى؟ هل كان كل شيء في النهاية في تلك العصورمجرد تكهنات؟
يوهانس فرايد: لا، ليس الأمر كذلك ولكن مصادر العصور الوسطى تتطلب درجة عالية من النقد إلا أن مجال التأويل يبقى في الغالب كبيرا وقد أدى ذلك بالفعل إلى مناقشات ساخنة حول علم الأجناس بين عالم الإيثنولوجيا ‘هانز دوير بيتر’ وعالم الاجتماع ‘نوربرت إلياس’ حول كتابه ‘حول تطور الحضارة ‘ ، فقد حاول ‘نوربرت إلياس’ في كتابه هذا إثبات أنه كان في العصور الوسطى نهج متساهل مع قضايا الجنس أكثر مما هو عليه اليوم وقد مثل لذلك بالآثار المصورة لحمامات القرون الوسطى إذ أظهرت الصورالرجال والنساء عراة معا في أحواض الاستحمام وقد كنا على معرفة بمثل هذه الصور خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر إذ تظهر الأحواض الفتيات شبه عاريات في خدمة الضيوف وقد ذكر هنا ‘هانز دوير’ أن ‘نوربرت إلياس’ لم يكن على صواب في هذا الأمر فذلك المكان ليس حماما ولكنه ملهى ليلي! ومع ذلك يظل من الصعب تحديد من منهما على حق ومن منهما على باطل.
جريدة دي تسايت: هل يمكن القول بـأن للعصور الوسطى سمعة سيئة ومزيفة… ؟
يوهانس فرايد: أعتقد أن الحقائق في العصور الوسطى ليست مزيفة بدرجة أكبر مما كانت عليه في الحقب الأخرى. ولكن هناك في الواقع سلسلة من الحقائق المزيفة وهي مذهلة بالفعل ويبقى أكثرها تأثيرا وأبرزها على الإطلاق ‘هبة قسطنطين’، ففي وثيقة تم تحريرها في فرنسا حوالى سنة ثمانمائة وثلاثين تم التطرق فيها إلى العلاقة بين العنف العلماني والديني، لقد زعمت هذه الوثيقة بأن ‘قسطنطين الأكبر’ أول إمبراطور روماني والذي أصبح مسيحيا فيمابعد سلّم غرب الإمبراطورية إلى سلطة الكنيسة في شخص البابا ‘سيلفستر’ وبالتالي جعل البعض من هذا التصرف هبة من الإمبراطورية الرومانية إلى السلطة البابوية.
جريدة دي تسايت: ألا يمكن أن نعتبرها مزيفة الغرض من وراءها الجشع المحض؟
يوهانس فرايد: بالطبع! لم يكن الوازع من جميع الوثائق المزيفة سياسيا أو دينيا بل كانت هناك خدع حقيرة جدا وبالتالي يمكن القول بأن معظم الوثائق كانت على الأرجح وثائق مزيفة لأنه ينقصها السند والملكية القانونية.
جريدة دي تسايت: كيف كان الناس في العصور الوسطى يتعاملون مع مسألة الأصالة؟
يوهانس فرايد: لم تكن الأدلة المكتوبة تُصدق بسهولة والسبب في ذلك راجع إلى كون المجتمع في القرون الوسطى كان يتميز بالشفوية فقد كان معظم الناس حتى نهاية العصور الوسطى غير قادرين على القراءة والكتابة لذلك وجب توفير دليل عن طريق الشهود وتأدية اليمين وظل الأمر كذلك إلى غاية القرن الحادي عشر تاريخ بداية ظهور الدليل المكتوب تدريجيا.
و في حالة عدم وجود أي شهود فإن حل النزاعات كان يأخذ منحى اخر إذ يتم الإلتجاء إلى الحكم الإلهي وهو عبارة عن مبارزة قضائية وعادة ما يدخلها مقاتلون محترفون.
كانت المعركة لا تدور حول صحة الوثيقة ولكن حول ‘الحقيقة’. والفكرة هي أن الله سيجعل الحقيقة في نهاية المطاف تنتصر. إن المعركة في المقام الأول وسيلة للترضية: من يفوز يحصل على الحق وقد كان نهاية النزاع حاسمة أكثر من صحة الوثيقة.
جريدة دي تسايت: كيف تُدرك اليوم باعتبارك مؤرخا ما هو حقيقي وأصلي؟
يوهانس فرايد: بالنسبة للوثائق هناك ما يسمى بالعناصر الرسومية والأختام ومنها ماهو من الذهب أو الرصاص. إن المشكلة الحقيقية للبحوث التاريخية لا تكمن في المقام الأول في كثرة التزويرولكن في ظاهرة أخرى أوسع بكثير وهي كثرة النصوص التي نعتمد عليها مع غياب تقديم المصادر السردية التي انمحت من الذاكرة ذلك أن الناس يتذكرون بشكل غير صحيح.
لقد أظهرت الدراسات النفسية الحديثة أن ما يصل إلى أربعين في المائة مما نتذكره وكيف نتذكره هو خاطئ إذ يقوم الأشخاص بخلط تسلسل الأحداث أو تذكر شخصيات لم تكن هناك أصلا! وكمثال على ذلك من المرجح أن يكون القديس ‘بنديكت فون نورسيا’ مجرد شخصية خيالية مثالية، هذه الشخصية التي كان سبب ظهورها سلطة صانعها البابا القديس ‘غريغوريوس الكبير’ الذي ألبسها صفاته الخاصة فنُظر إليها لعقود على أنها شخصية حقيقية ونتذكرها الآن كشخصية تاريخية. إن كشف مثل هذه ااتصورات الخاطئة أمرصعب للغاية. هذه مشكلة كبيرة لدراسة التاريخ ككل إنها مشكلة كبيرة بالنسبة للنصوص التاريخية عامة ولكنها في نفس الوقت فرصة لتسليط الضوء على قضية مهمة ألا وهي أن النصوص التاريخية أكثر بكثير من مجرد معلومات واقعية حول حدث معين.
تُقدم لنا النصوص لدينا المتوفرة لنا لمحة عن طريقة تفكير الناس وأحاسيسهم وحول الثروة اللغوية المتوفرة لديهم وكذا معلومات عن الاختراعات وكل ما كان ممكنا التفكير فيه آنذاك وهو مهم فقد تنبأ الفيلسوف والعالم ‘روجر بَكون’ فيما يتعلق بالقرن الثالث عشرتنبأ بظهور الطائرات والغواصات في المستقبل ولم يكن هذا التوقع متداولا ولا رائجا بالطبع في المجتمع وقد تبين من خلال كتابات ‘روجر بكون’ أن هذه الاختراعات وُجدت بالفعل في عالم المُمكن والمُتصور وبذلك يجوز القول بأنه تكونت لديه رؤية مسبقة عن القرن العشرين!
جريدة دي تسايت: لنفترض أنه لم يكن قادرا على السفر بخياله في المستقبل: كيف يمكن لشخص من القرون الوسطى مثل ‘روجر باكون’ أن يرى عالمنا اليوم؟
يوهانس فرايد: لا شك أنه سوف يجن! بمجرد سماعه الضجيج وكتل من الناس والحديث المتواصل والآلات والسيارات والتراموي وسوف تخيفه التقنية الحديثة الشوارع والبيوت الكبيرة الضخمة المصنوعة من الحجر وسوف يتساءل من أين أتوا بالمال لصنع ذلك؟. كما أن طريقتنا في ممارسة الأعمال التجارية سوف تبدو بالنسبة له غريبة وبالتأكيد سيثيره تطور الطب الحديث أيضا، ذلك أن الإنسان يُمزّقُه الطبيب ثم يعيدُه مرة أخرى على قيد الحياة وبصحة جيدة. ولكن من المؤكد أنه إذا كان لديك رجل ولد في ذلك الوقت ولكن في نفس الان صغير السن ومرنا فيمكن أن تُفسرله كل شيء و سينمو بسهولة في عالمنا. إن شبابا مثل ‘روجر باكون’ و’آبيلارد’ من شأنهم وبمقدورهم فعل ذلك.
جريدة دي تسايت: هل لأنهم كانوا ظواهر استثنائية؟
يوهانس فرايد: لا،هذا ليس السبب الوحيد. إن الاستعداد لاختراق مجالات جديدة كان من مميزات العالم الروحي للعصور الوسطى المتقدمة والمتأخرة. هل فكرتَ في الصعوبات الهائلة التي تصادفها عملية نقل المفردات الأجنبية مثل مصطلح ‘misercordia ‘ إلى اللغة العامية الألمانية أي إلى لغة لا زالت جد ‘همجية’ بدون حمولة فلسفية ودون نظام للقيّم. إن هذا يتطلب نضالا لقرون طويلة إلى غاية الوصول للترجمة الصحيحة والمناسبة ومعها لفهم واحدة من أروع الإبداعات للبشرية: ‘الرحمة’! إن هذا النضال الدؤوب لفهم المصطلحات غير مفهومة وأفكار جديدة هو الذي شكل بالنسبة لي سحر العصور الوسطى.

أجرى هذا الحوار’كريستيان ستاس’
رابط الصفحة :
http://www.zeit.de/zeit-geschichte/2010/01/Interview-Fried

يوهانس فرايد المؤرخ
الألماني المشهور

ترجمة وتقديم:مؤنس مفتاح*
مترجم وباحث*
[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية