هل نلوم الزلزال أم مباني «سيستم يوك»؟

حجم الخط
3

عام 1999 وعقب زلزال أزميت المدمر في تركيا، كان الرئيس الحالي أردوغان في معسكر المعارضة، وخرج بتصريح يتحدث فيه عن أن (الزلزال لا يقتل، بل المباني هي التي تقتل)، في إشارة للأبنية غير المطابقة لمواصفات المناطق المعرضة للزلازل. تدور الأيام، ليقول الرجل نفسه لإحدى السيدات الناجيات من الزلزال «إنه القضاء والقدر» ويتحدث مطولا للإعلام عن قوة وهول الزلزال، قبل أن يقر لاحقا بضعف الاستجابة الأولية للحكومة ويتحدث بصراحة عن المباني المخالفة للمواصفات.
لقد كان التركيز على تضخيم قوة الزلزال وعدد القنابل الذرية التي توازيه، وما إلى ذلك من الحديث عن القضاء والقدر، محاولة لتبرير القصور الحكومي في معالجة آثاره من جانبين، الأول هو الاستعدادات المحدودة، وتأخر وصول فرق الإغاثة للمحافظات المنكوبة جنوبا، التي بدا أنها لم تنل النصيب الكافي من التجهيز والإمكانيات مقارنة بإسطنبول، أما العامل الثاني وهو الأهم، فضعف الرقابة الحكومية والبلدية على البناء، والمقاولين، وانتهاج سياسة حكومية تعرف «بالإعفاءات الإنشائية» تعفي أصحاب الأبنية من تحقيق شهادات وشروط السلامة «اكواد البناء» مقابل دفع رسوم مالية! بلغ عدد المباني في محافظات الجنوب التركي التي أعفيت من شروط السلامة 75 ألف مبنى، ويسري هذا القانون منذ الستينيات، أي أن حكومات أحزاب المعارضة الحالية والسلطة تتحمل قدرا متساويا من المسؤولية عن هذه السياسة، رغم أن القوانين تم تشديدها منذ 1999 بعد زلزال أزميت المدمر.

وضعت أسس هندسة البناء لمواجهة الزلازل، إلا أن ضعف الإدارة وسوء التدبير هو ما يقود للتهلكة وليس الزلازل والقدر، الفساد زلزال صامت

لقد كانت المباني المغشوشة أو المبنية وفق مواصفات غير مطابقة لشروط السلامة هي المتسبب الرئيسي في أعداد الضحايا المؤلفة، وليس قوة الزلزال، ويكفي النظر للأحياء المتأثرة بالزلزال في إنطاكيا ومرعش لنرى بناء منهارا وإلى جانبه مباشرة بناء لم يتأثر بالزلزال، لأن هذا مبني ضمن المعايير وذاك لا، صحيح أن المباني التي لم تنهر تصدعت وتشققت، لكن المباني المتصدعة لم تقتل ساكنيها، المباني والعمارات التي انهارت فقط هي التي قتلت ساكنيها، ولو نظرنا لإنطاكيا مثلا من الأعلى، لوجدنا أن نسبة المباني الصامدة أكثر بشكل جلي من تلك المهدمة، أي أن الزلزال لم يدمر المدينة بالكامل بل المباني الضعيفة فيها، وطبعا في حالات مثل بلدة نورداغ قرب مرعش نسبة الدمار والتصدعات فيها عالية جدا، كون نسبة مبانيها المغشوشة من مقاولين فاسدين عالية، كما أنها قريبة جدا من مركز الزلزال. في حالات كثيرة دفع أصحاب الأبنية رشاوى في إنطاكيا لموظفين في البلدية «التابعة للمعارضة في السنوات الأخيرة» من أجل تأجيل تنفيذ قرارات هدم صدرت بحق مجمع في منطقة المزرلك في إنطاكيا، وبعدها بشهور انهار المجمع وقتل ساكنيه في الزلزال، وفي حالات أخرى دفعت رشاوى من أجل بناء طوابق إضافية لا تتحملها الأساسات. وهكذا بدأت تداعيات قضية البناء تتفاعل، وباتت محور النقاشات في تركيا، حاول الكثير من المقاولين الهرب واعتقل العشرات منهم، أعيد بث عشرات التصريحات لمسؤولين وعلماء جيولوجيا أتراك يحذرون من خطر قانون الإعفاءات الإنشائية، منها كلمة لنائب في حزب الشعوب الديمقراطي يقول فيه عام 2018 في جلسة للبرلمان التركي «عندما تنهار تلك المباني في زلزال، سيفقد الآلاف من مواطنينا حياتهم»، وخرج اليوم وزير العدل التركي ليعترف أيضا، ولو بعد فوات الأوان، بدور البناء الفاسد في زيادة الضحايا، واعلن قائلا: «سنحاسب الذين أهملوا في معايير البناء وتسببوا في زيادة أعداد ضحايا الزلازل ويخضع الآن 255 مقاولاً للتحقيق». علماء وخبراء دوليون تحدثوا في تحقيقات لصحف غربية كـ»التايمز» و»بي بي سي» عن هذه القضية، ونقلوا عن بيان صدر قبل أسابيع من الزلزال من اتحاد المهندسين والمعماريين في تركيا حذروا فيه من أن «تركيا فشلت بالتحضير للاحتياجات المطلوبة قبل الهزة، وأن المشرفين على البناء تعاملوا مع المعايير على أنها مجرد ورق»، ويقصد هنا بالمعايير الجديدة تلك التي أقرت بعد زلزال عام 1999في تركيا، والتي يعتبرها البروفيسور ديفيد ألكسندر الخبير في التخطيط وإدارة الطوارئ في يونيفرسيتي كوليدج لندن: أنها كانت كفيلة بحماية الأرواح من الزلزال، ويقول: «كانت أقصى شدة لهذا الزلزال عنيفة ولكنها ليست كافية بالضرورة لهدم مبانٍ جيدة التشييد». وتابع: «في معظم الأماكن، كان مستوى الاهتزاز أقل من الحد الأقصى، لذلك يمكننا استنتاج أن جميع تلك المباني التي انهارت ويُقدر عددها بالآلاف لم تتماش مع أي كود بناء معقول خاص بالزلزال». ويشرح خبير ياباني عمل في تركيا لسنوات معنى التقيد بـ»اكواد البناء»، ويقول موريواكي يوشينوري رئيس مكتب تركيا لشركة الإعمار اليابانية «هازاما أندو كوربوريشن»، إن «معايير الهندسة التركية لمقاومة الزلازل هي المعايير اليابانية نفسها، ولكن هناك مشكلة في تطبيقها، ويضيف أن الحكومات التركية الحالية والسابقة، استحدثت برنامجا لمنح عفو للشركات والأفراد الذين ينتهكون أكواد البناء طالما أنهم يدفعون غرامة». ويذكر المعماري الياباني أن «عمليات التفقد من قبل السلطات قبل وبعد أن تبدأ أعمال التشييد متساهلة، وأن المهندسين غير الخبراء يمكنهم أن يصبحوا مؤهلين لأن يكونوا خبراء تصميم وتشييد». وأكد أن «أكواد البناء» وإجراءات أخرى قد عدلت في تركيا بعد زلزال عام 1999، ولكن الأضرار هذه المرة كانت بالقدر نفسه. لقد طوع الإنسان بالعلم والمعرفة الطبيعة، وأوجد حلولا لمواجهة ما يهدد حياته من الأمراض والكوارث الطبيعية، فاخترعت الأدوية واللقاحات ووضعت اسس هندسة البناء لمواجهة الزلازل، وهكذا فإن ضعف الادارة وسوء التدبير هو ما يقود للتهلكة وليس الزلازل والقدر، ان الفساد زلزال صامت.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ” ان الفساد زلزال صامت. ” إهـ
    والسؤال المهم : من هو المسؤول ؟
    وإن كانت الحكومة , فهل سينجح أردوغان بالإنتخابات ؟
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    ياأخ عصام قرأت مقالك أوّل يوم نشره في الصباح؛ وقرأته الآن…أنت كاتب لمّاح.وبعد زلزال تركيا وامتداده إلى سوريا.
    قرأت بعض الكتب العلميّة؛ خاصّة لديّ حبّ عميق للفيزياء.ليس أغلب بل جميع العلماء مقتنعون أنّ الزلزال ليس له علاج ولا دواء الآن.فلا نبالغ بتقصير فلان وعلان.حتى لو اتخذت الحكومات قرارات عمليّة بوضع فرق متكاملة في كلّ مدينة لمواجهة الزلازل؛ لن يجدي ذلك لأنّ الفرق نفسها ربّما ستتعرض للزلزال؛ كبقيّة المدينة المتزلزلة.ومن طريف ما قرأت أنّ مدينة نينوى العراقيّة كانت تتعرض للزلازل كثيرًا في القرن السابع عشر الميلاديّ ؛ فاجتمع وجهاء المدينة يومذاك للبحث عن حلّ…فتوصّلوا إلى أنّ إسكان بعض العوائل المباركة من ذريّة الصالحين والأولياء هكذا في المدينة سيخفف منها…وقيل: خف وقع الزلازل فيها.ولا أدري حقيقة هذه الحكاية.إنما الذي أطمئن إليه أن العلم سيجد حلًا؛ فما نزل من داء إلا وله دواء.متى؟ هذا هو الأمل.خصوصًا وقد صار الاهتمام بالزلازل مؤخرًا؛ ثقافة عالميّة التناول.

  3. يقول سليم:

    المباني التي شيدتها شركة “توكي” وغيرها التابعة للحكومة لم تتأثر بالزلزال

إشترك في قائمتنا البريدية