هل تلاشى الموقف التاريخي الفرنسي من قضايا العرب؟

منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وتقاسم بريطانيا وفرنسا للشرق الأوسط، ومنذ بداية النكبة الفلسطينية، كال الغرب الاستعماري القضايا العربية بمكيالين، ولم ينصف في علاقاته مع البلدان العربية، احترام إرادة الشعوب من دون انحياز، ومثلت المؤسسات الدولية كعصبة الأمم، ومن ثم الأمم المتحدة، أدوات للضغط والهيمنة تتماشى طرقها مع النهج الاستعماري السائد في هذه الفترة، حيث وجدت لندن وباريس في عام 1956 من إسرائيل حليفا لهما، لغزو مصر بعد تأميم قناة السويس. في الوقت الذي رأى الغرب الاستعماري في دعم علاقاته مع الدولة العبرية، الوسيلة لدرء خطر المد الوطني لهذه الشعوب المناضلة من أجل الاستقلال، لحين عودة الجنرال ديغول إلى السلطة في فرنسا، الذي وضع حداً للتعاون بين البلدين في مجال الردع النووي، ومن ثم فرض حظر على الأسلحة عليها في حرب الأيام الستة عام 1967.
من هنا لم يتوقف الجنرال ديغول عن إظهار الرغبة في إعادة التوازن الذي فرضه قيام دولة إسرائيل، وضياع حقوق الشعب الفلسطيني، حيث ألمح في كتابه «مذكرات الأمل» إلى أن المبرر لوجود إسرائيل، وجب ان يؤخذ بعين الاعتبار وجود جيرانها العرب الباقين جنبها وحولها إلى الأبد.
لا شك في أن سياسة الجنرال ديغول الخارجية، اُريد منها أن تصبح جزءاً من سياسة فرنسا الخارجية الخاصة بالبلدان العربية، حيث حقق تطبيق مبدأ تقرير المصير للشعب الجزائري، الذي دعا إليه في خطابه في 16 سبتمبر 1959، تغيرا في الأوساط السياسية والفكرية العربية الداعية إلى استقلالية القرار العربي، وحق الشعوب العربية في تقرير مصيرها. ومن هذا المنطلق تأخذ سياسة ديغول، في ما يتعلق بدعم تحرر الشعوب في تقرير مصيرها، معناها الكامل، في الحوار الدائم مع كل القوى التي تطالب بالرغبة نفسها في الاستقلال، وبعبارة أخرى، رفض الانحياز لإسرائيل وفرض التوازن في المنطقة، ما أعطى هيبة للموقف الفرنسي آنذاك، حيث لمس الزعيم الراحل جمال عبد الناصر من «صداقة الجنرال ديغول علاقة يُمكن الاعتماد عليها» للخروج من سباق التحالفات الاستراتيجية في المنطقة، وسباق التسلح، واستغلال الاتحاد السوفييتي لثورة الشعوب العربية الداعية إلى إنهاء الاستعمار من قبل، واستراتيجيات القطبين السوفييتي والأمريكي في دعمهما للحروب العربية الإسرائيلية.

منذ تقاسم بريطانيا وفرنسا للشرق الأوسط، وبداية النكبة الفلسطينية، كال الغرب الاستعماري القضايا العربية بمكيالين، ولم يحترم إرادة الشعوب من دون انحياز

وبمرور الزمن وبتعدد التغيرات الأيديولوجية للأحزاب السياسية وازدياد قدرة الإعلام الغربي في ترجيح كفة إسرائيل في المجتمعات الغربية، ونتيجة لتصاعد المد الإسلامي المتطرف بعد غزو العراق، وولادة تنظيم الدولة في المجتمعات الأوروبية، ناهيك عن الموقف الإيراني وتصاعد قدرته النووية والعسكرية، التي تمثلها أذرع طهران في لبنان والعراق، التي اعتبرها الكثيرون، التهديد المباشر لمصالح الغرب وحليفته إسرائيل في المنطقة، ما ساعد على خلخلة الموقف الفرنسي الثابت والتاريخي، الذي سار عليه ديغول وبومبيدو وجاك شيراك، من القضية الفلسطينية، مما ساعد في انقسام بوصلة الأحزاب الفرنسية في رؤيتها للصراع العربي ـ الإسرائيلي في الشرق الأوسط، وتجزئها بين الدعم المطلق للضحايا والأسرى المدنيين الإسرائيليين الناتج من هجوم منظمة حماس الأخير على المستوطنات الإسرائيلية، و التغاضي عن حجم المأساة التي يتعرض لها الآلاف من الضحايا المدنيين في غزة نتيجة للقصف الإسرائيلي، وما بين الأحزاب اليسارية الفرنسية من الذين يرون في حجم الدمار وأعداد قتلى الحرب الكبيرة على غزة، على أنها جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين العزل. وهنا لا بد من الإشارة إلى انقسام الموقف السياسي هو، بمثابة تحصيل حاصل لعدة عوامل وثوابت تربط السياسة الفرنسية التي تمثلها الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة، يضاف إليها اتساع نشاط الأجهزة الإعلامية المستقلة، التي تخرج عن سيطرة الخط السياسي للدولة، نظرا لاختلاف موقف بعض القنوات الإخبارية المتنفذة، عن الموقف الفرنسي الثابت من الشرق الأوسط الذي يضمنه الدستور، ناهيك عن تطور ظاهرة الإسلام فوبيا في المجتمع الفرنسي، التي تلقى الدعم الكبير من أحزاب اليمين المتطرف المعروفة برفضها للوجود المتصاعد للمهاجرين، حيث تعدت هذه الظاهرة لتشمل مسؤولي الأحزاب اليمينية التي تدعي الديغولية. وهذا ما اعتبره العديد من متتبعي السياسة الفرنسية، تغيرا واضحا لهذه الأحزاب اليمينية نتيجة لفشلها في الوصول للسلطة بعد رحيل الرئيس الفرنسي جاك شيراك وانقيادها في النهاية لموجة العداء للإسلام والعرب، استعدادا للمشاركة في الانتخابات السياسية المقبلة، بعد التغيرات التي طرأت على الرأي العام الفرنسي نتيجة للعمليات الإرهابية التي وقعت في باريس والمدن الفرنسية.
وما بين الضغوط التي تمارسها الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا في حملتها لدعم حكومة اليمين المتطرف التي يقودها بنيامين نتنياهو والكيل بمكيالين، ينبغي ان يستمر صوت قصر الإليزيه في دعم موقف فرنسا التاريخي الثابت من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتمثل بحل الدولتين. والذي هو أحد ركائز الدبلوماسية الفرنسية التاريخية الثابتة في علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي، كونه المسار الواقعي الوحيد لضمان حقوق جميع دول المنطقة ودون استثناء. لان الثوابت التي تحملها هذه السياسة لا تختلف باختلاف توجهات ساكني قصر الإليزيه.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية