هل تغيرت قواعد اللعبة في حرب التحرير الفلسطينية منذ الهجوم الإيراني؟

يجري الكفاح الوطني الفلسطيني من أجل إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة بكل مقوماتها داخل ساحة وطنية وإقليمية لكل منها شروطها، وبيئة دولية تخضع حاليا لسباق مكشوف على النفوذ، والعمل على إعادة صياغة قواعد التعامل بين القوى الرئيسية، ومنها القوى النووية، في نظام عالمي جديد. وسواء أردنا أم لم نرد، فإن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، لا يتعلق فقط بمعادلة القوة بين الطرفين، المقاومة والمحتل، لكنه يتعلق أيضا بتوازنات إقليمية وعالمية. ونظرا لأن الحرب ليست حالة، وإنما هي عملية تتفاعل فيها كل عوامل القوة، فإن منحنى تفاعلات الحرب في غزة يعكس صورة التغيرات التي أحدثها الهجوم الإيراني الجوي والصاروخي، الذي صنفه أحد الخبراء الإسرائيليين (ديفيد وينبرغ في صحيفة جيروساليم بوست في 20 أبريل) على أنه أكبر هجوم في تاريخ العالم، يقع في ليلة واحدة بهذه الكمية من الطائرات المسيرة والصواريخ. هذا الهجوم كان الاختبار الثاني الذي أكد فشل استراتيجية الردع الإسرائيلية، بعد الاختبار الأول في عملية طوفان الأقصى.

لا تخشى الدولة التي تملك قوة الردع ردود فعل الطرف الآخر، ولا تحسب له أي حساب، أما أن تحسب إسرائيل رد فعل الطرف الآخر، وتعمل على تجنبه، فإنه يعني تسليما بفقدان القدرة على الردع

ومع أن إسرائيل تحاول الإمساك بزمام المبادرة، من أجل إعادة تثبيت نظام الردع السابق، فإننا نلاحظ أنها لم تحقق شيئا من ذلك، بل إن التطورات على ساحة العمليات في غزة والجبهات العسكرية والسياسية الأخرى، بما فيها مفاوضات تبادل الأسرى والمحتجزين، لا تسير في الاتجاه الذي تريده إسرائيل. وقد رفعت قوات حماس وحزب الله سقف عملياتها العسكرية، كما عادت كتائب حزب الله العراقية إلى جبهة المواجهة بعد انقطاع منذ فبراير الماضي، ومن المرجح في هذا السياق، أن يرتفع سقف ضربات أنصار الله في اليمن، خصوصا ضرب «إيلات» وتحويلها إلى مدينة أشباح، مثلها مثل مدينة «المطلة» في الشمال، التي أجهزت عليها صواريخ حزب الله. وعلى التوازي، فإن بنية الحرب والسياسة الإسرائيلية تعاني من تشققات حادة، بعد انفجار ما يمكن أن يصبح موجة استقالات عسكرية، بدأت باستقالة مدير المخابرات العسكرية الجنرال أهارون هاليفا، جنبا إلى جنب مع اتساع نطاق تبادل الاتهامات بين رئيس الوزراء ووزراء الدفاع والأمن القومي والمالية وأعضاء حكومة الحرب، وتصاعد الاحتجاجات الشعبية.

ما هي أهم التطورات الأخيرة ودلالاتها؟

*الملاحظة الأولى، التي لا تخطئها العين، فيما يتعلق بتغير قواعد اللعبة العسكرية والسياسية بعد الهجوم الإيراني، هي أن الرد الإسرائيلي كان محدودا، خشية التصعيد. بمعنى آخر فإن إسرائيل وهي ترد كانت تريد إبلاغ الإيرانيين رسالة بتجنب التصعيد، وإقفال حلقة الفعل ورد الفعل داخل تلك الدائرة المغلقة وكفى. طبيعة الرد تنطوي على قدر كبير من إدراك خطورة التصعيد، على عكس ما كانت تتصرف إسرائيل قبل فشل استراتيجية الردع. ففي نظام الردع لا تخشى الدولة التي تملك قوة الردع ردود فعل الطرف الآخر، ولا تحسب له أي حساب. هذا هو مضمون استراتيجية الردع. أما أن تحسب إسرائيل رد فعل الطرف الآخر، وتعمل على تجنبه، فإنه يعني تسليما بفقدان القدرة على الردع. وحتى تصبح الصورة أكثر وضوحا، فإنه لولا حائط الدفاع الجوي والصاروخي، الذي أقامته الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين والعرب ليلة 13/14 من الشهر الحالي، لكانت نسبة تصل إلى 50 في المئة من طائرات الدرونز والصواريخ، التي خرجت من القواعد الإيرانية، وواصلت سيرها في اتجاه إسرائيل قد اخترقت مجالها الجوي، وأصابت أهدافها. هذا يعني تأكيد أن الردع العسكري الإسرائيلي يتوقف على قوة الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، وليس على قدراتها العسكرية المستقلة. ونظرا لأن الولايات المتحدة أبلغت إسرائيل صراحة أنها لن تشارك في ضربة ضد إيران، فإن إسرائيل أدركت أن ردها يجب أن يكون محدودا وشكليا. ونحن لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت واشنطن قد أبلغت طهران بموقفها هذا مسبقا، عن طريق الوسيط السويسري، أو العماني، لكن هذا يظل احتمالا واردا، في إطار محاولتها عدم إحراق كل مراكبها مع إيران، وأيضا للمحافظة على مصالح حلفائها في الخليج مثل السعودية والإمارات، وأمن قواتها في الشرق الأوسط، خصوصا في العراق وسوريا والبحرين والسعودية والإمارات والأردن.
*الملاحظة الثانية في شأن التطورات ذات الدلالة، التي تشير إلى تغير قواعد اللعبة بعد ضربتي حماس وإيران، هي أن الهجوم الإيراني، منح المقاومة الفلسطينية في غزة قوة معنوية هائلة، تقلل من تأثير ما فقدته من قوة مادية. ونحن نرى ذلك بالعين المجردة، في انتشار عمليات المقاومة داخل القطاع من عين حانون في الشمال إلى رفح في الجنوب مرورا بالوسط والشرق والغرب، وارتفاع المستوى النوعي لتلك العمليات. وترد إسرائيل بضربات وحشية تعكس حالة هياج يائسة. وتؤكد قيادات مخابراتية وأمنية إسرائيلية وأمريكية، حسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الاثنين، أن حماس ما تزال متمركزة في قطاع غزة، ولديها آلاف المقاتلين الذين ينفذون عمليات يوميا، إضافة إلى آلاف آخرين تم تسجيلهم كمتطوعين جدد، يتم تدريبهم حاليا للانضمام إلى قوتها القتالية. التقرير أوضح بما لا يدع مجالا للشك أن قيادة حماس العسكرية قوية ولديها وسائط القتال اللازمة، وأن شبكة الأنفاق ما تزال تعمل بكفاءة بالغة، وهو ما يفسر ارتفاع مستوى النشاط العسكري للمقاومة في غزة، ويؤكد أن حماس باقية كقوة رئيسية هناك حتى بعد انتهاء الحرب. ويؤكد ذلك ما قاله مئير بن شبات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي سابقا (إسرائيل هايوم- 20 من الشهر الحالي) أن إسرائيل فشلت حتى الآن في تحقيق الأهداف الثلاثة الرئيسية للحرب التي بدأتها قبل أكثر من 6 أشهر، وهي استعادة المحتجزين، وإنهاء السلطة الإدارية لحماس، وتفكيك قوتها العسكرية. وفي هذا السياق نذكر أن بن شبات قال في بداية الحرب، إن هدفها يجب أن يكون اجتثاث حماس تماما إداريا وعسكريا وقتل قياداتها، لكنه كما يبدو تراجع عما قاله، ويكتفي الآن بطلب القليل منه. هذا الاعتراف بفشل إسرائيل في تحقيق أهداف الحرب يأتي أيضا من أكثر من جانب في إسرائيل، سواء من السياسيين ومنهم يائير لبيد زعيم المعارضة في الكنيست، ومن العسكريين ومنهم الجنرال أيزنكوت رئيس الأركان الأسبق، الذي يشارك حاليا في وزارة الحرب الإسرائيلية. كذلك فإن التقييم الإسرائيلي للموقف الحالي في غزة لا ينكر عجز إسرائيل عن تشكيل إدارة بديلة، وأنها لا تستطيع إقناع أي طرف، بمن في ذلك بعض القيادات القبلية، بقبول التعاون معها في إدارة القطاع.
*الملاحظة الثالثة، التي تدل على فشل استراتيجية الردع الإسرائيلية وتغيير قواعد اللعبة تتمثل في انتشار المقاومة إلى مواقع كثيرة داخل الضفة الغربية منذ عملية طوفان الأقصى، وفي هذا السياق فقد تصاعدت حدة المواجهات في مدن الضفة، وأصبح للمقاومة فيها زمام المبادرة، مثلما حدث في عملية مدينة النبي إلياس في قلقيلية. وتسير الأمور أخيرا في اتجاه إقامة تحالفات عسكرية وسياسية محلية للمقاومة على الأرض، تضم عناصر من فصائل مختلفة تتفق فيما بينها على تنسيق عملياتها. وتشير عملية «النبي إلياس»، التي أعلنت حركة حماس مسؤوليتها عنها، إلى مستوى مرتفع من التنسيق الميداني. كذلك فإن عودة حركة «فتح» لممارسة التعبئة السياسية في الضفة، والعمل على تنظيم حركات احتجاج مدنية مثل إضراب طولكرم، تفتح مجالا واسعا لممارسة الوحدة الوطنية الفلسطينية على أرض الكفاح الفعلي، بعيدا عن التشرذم الملحوظ في الأوساط القيادية.
*الملاحظة الرابعة في شأن تغيير قواعد اللعبة العسكرية والسياسية في إدارة حرب التحرير الفلسطينية تتعلق بتفعيل مبدأ وحدة الجبهات. وقد استنتجت سيماء شاين مديرة برنامج إيران في معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب (INSS)، في ورقة أصدرها المعهد يوم 18 من الشهر الحالي، عن تقييم الهجوم الإيراني والموقف في غزة والضفة الغربية، أن الحرب في غزة قدمت للإيرانيين والمقاومة الفلسطينية فرصة لتحقيق مبدأ «وحدة الجبهات» في المواجهة مع إسرائيل. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك حدوث تحول نوعي ملحوظ في طبيعة عمليات حزب الله في شمال إسرائيل خلال الأسبوع الأخير، أسفر عن زيادة الخسائر البشرية والعسكرية الإسرائيلية وتحويل «المطلة» إلى مدينة أشباح. وهو وضع يكاد ينطبق أيضا على «إيلات» في أقصى الجنوب بصواريخ أنصار الله في اليمن. هذه التطورات تجسد نجاح انتقال مبدأ وحدة الجبهات في الحرب ضد إسرائيل إلى مستويات أعلى من العمليات العسكرية المنتقاة، ذات القوة النيرانية الأعلى، التي تتم بالتنسيق عن قرب. إننا نرى أن الحرب التي بدأتها إسرائيل على غزة تتحول تدريجيا إلى حرب تحرير فلسطينية متكاملة الأركان، يحميها تحالف إقليمي حقيقي داخل محور المقاومة.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية