«نكتة» فنان كوميدي وفيلم «باربي» وإثارة مفتعلة لـ«معركة القيم» في لبنان: محاولة إلهاء أو تقييد للحريات

رلى موفّق
حجم الخط
0

تتوالى الأزمات في لبنان بعناوين سياسية واقتصادية ومعيشية ومالية. تتفاقم حالات الفساد والإفلات من العقاب ويضيق الناس ذرعاً بما وصلت إليه أوضاعهم. يشهدون كيف أن مسار العدالة قد تمَّ تعطيله في جريمة تفجير مرفأ بيروت، الذي دمَّر نصف المدينة وقتل المئات وجرح الآلاف. وأغلب الظن أن ثالث أكبر انفجار غير نووي بعد هيروشيما وناغازاكي تحوَّل إلى ذكرى في 4 آب/أغسطس من كل سنة. الأمر ذاته يتكرَّر مع «سرقة العصر» لأموال المودعين. تصدر مذكرات توقيف خارجية بحق حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة بتهم فساد مالي وإثراء غير مشروع وتبييض أموال ووجّه القضاء اللبناني إليه تهماً مماثلة، وبينما كان يُفترض أن يحضر يوم 30 آب/أغسطس إلى قصر العدل في بيروت للمثول أمام الهيئة الاتهامية وسط تسريبات بأن القضاء اللبناني سوف يُصدر مذكرة توقيف بحقه، ينتهي النهار القضائي بأن يرفع محامي سلامة دعوى مخاصمة الدولة – مخاصمة قضاة الهيئة الاتهامية، الذين عليهم عندها أن يرفعوا يدهم عن الملف ويتنحّوا. هو التكتيك نفسه الذي استخدمه المتهمون من وزراء في جريمة المرفأ، عبر مخاصمة الدولة كوسيلة للهروب من مواجهة المسؤولية ومعرفة الحقيقة وإحقاق العدالة.
لم تهتزّ ضمائر السلطة الحاكمة، فالمسرحية التي شهدتها خشبة قصر العدل كانت معدّة بإتقان وحرفية من قِبَل سلامة بالتضامن والتكافل مع طبقة سياسية حمى مصالحها وكان شريكاً لها وحمته وستبقى تحميه بكل ما أُوتيت من قوة لأن سقوطه يعني سقوطها.
ولكن المشهد اللبناني بدا سوريالياً، إذ قبل يوم واحد، كانت السلطات على اختلافها من سياسية ودينية وقضائية وأمنية منشغلة في «اسكتشات هزلية» لفنان كوميدي مغمور اسمه نور حجار تمَّ نبشها من «اليوتيوب» واستحضارها لإشغال الرأي العام، وتحريك العصبيات، بحيث تُظهر يوماً بعد يوم حجم تمرُّسها في قضايا أشبه بذر الرماد في العيون. قضايا في عمقها تُشكِّل عملية إلهاء مُحكمة للبنانيين عن القضايا الأساسية التي تمسُّ بعيشهم ومتطلبات حياتهم الكريمة والذين يُفترض أن يثوروا على حكامهم الذين يُمعنون في إذلالهم وإفقارهم.

النكات الممنوع

حجار وهو كوميدي شاب، لا يزال في بداياته الفنية، وليس معروفاً على نطاق واسع في الأوساط الشعبية ولا يُدرج في خانة الأشخاص المؤثرين في المجتمع القادر على إحداث ثورة بعروضه المسرحية أو الكلمات التي ينطق بها، إلى درجة أن تنقلب الدنيا في لبنان. في إحدى عروضه الموجودة على منصة X (تويتر سابقاً) عكس حجار بشكل فكاهي هزلي الواقع المرير الذي يعيشه عناصر الجيش اللبناني، حيث أجازت المؤسسة العسكرية، كما المؤسسة الأمنية، بسبب الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي وهزالة الرواتب بأن يعمل أفرادها في مجالات أخرى في أيام عطلهم، علَّ هذا الإجراء يُخفِّف من معاناة العسكريين، ويحدّ من حالات الفرار التي كانت بدأت تُسجَّل في عداد تلك المؤسسات. من المجالات التي يعمل بها العسكريون هي «الديلفري» – توزيع الطلبات. وهناك شركة تحظى بشهرة واسعة تُدعى (Toters) – «توترز» تستوعب الكثير من الشبان الذين يستخدمون الدراجات النارية لإيصال الطلبات إلى الزبائن من بينهم عسكريون. قال حجار في نكتة: «ملاحظين أنَّ كل (Toters) جيش؟ كل جيش برو (BRO) بتقلّو عطيني 5 بيعملّك 5 بوش آب (Push up) عم تتخايل تقصف إسرائيل، بس كلّ الجيش بـ«توترز»؟! بتلاقي 30 موتوسيكل لـ«توترز» على الحدود، صاروخ واحد بِطَـرْطِش الدِني «هاني ماسترد». «Honey Mustard» ليس العرض على منصة X جديداً، إنما هناك مَن عملَ على نشره على مواقع التواصل الاجتماعي ليصبح حديث الساعة. كانت النتيجة أن تمَّ استدعاء حجار في 26 آب/أغسطس إلى الشرطة العسكرية التي احتجزته لإحدى عشرة ساعة، وأُطلق سراحه مساء اليوم نفسه دون أن يُغلق الملف.
ما هي إلا أيام قليلة حتى وجد نفسه في مأزق جديد، إذ انتشر مقطع قديم آخر لحجار يروي فيه حواراً مع والدته التي أرادت مواساة شقيقتها بوفاة زوجها بالطلب من الشيخ المُقرئ في العزاء «شيء حلو من القرآن». قامت قيامة أحد المشايخ السُّنة الذي تقدّم ببلاغ ضد حجار الذي ينتمي بدوره إلى الطائفة ذاتها. وقدمّت دار الفتوى كذلك دعوى ثانية ضده، بحجة «إثارة النعرات الطائفية، والمسّ بالشعائر الدينية، وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة، وازدراء الأديان». وعلى خلفية البلاغين، أصدر المدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، قراراً بتوقيفه. فتمَّ ذلك يوم التاسع والعشرين من آب/أغسطس، وهو يغادر الشرطة العسكرية التي كانت استدعته ثانية لتوقيع سند إقامة مُنهية التحقيق معه.
أُحضر إلى قصر العدل مخفور اليدين وبقي محتجزاً لساعات رهن التحقيق. تجمّعت مجموعة من النشطاء وبينهم بعض النواب أمام قصر العدل في وقفة احتجاجية عنوانها «الدفاع عن الحريات» مطالبين بإخلاء سبيل حجار، وعدم التعرّض لحرية الرأي والتعبير، ومن الشعارات التي رفعوها: «الحرية لنور، لا للسلطات الدينية، لا للسلطات الأمنية». قيل إن القاضي عويدات أُحرج بدعوى دار الفتوى، خصوصاً أن الأرض مهيئة للتحريك عندما يتعلق الأمر بالمسّ بالدين، فكان أن أمر بتوقيف حجار، لكن الشاب الكوميدي والمدعي العام التمييزي هما أبناء منطقة واحدة، ما جعل الحرج مضاعفاً. وإذ دفعت المحامية ديالا شحادة في التحقيق بأن «الفيديو» مجتزأ، قالت إنه قديم، كونه يعود لعامَي 2018 – 2019 ما يعني أن هذه الأفعال قد مرَّ عليها الزمن، وما من صلاحية لتحريك الحق العام. في آخر النهار، أُخلي سبيل حجار، على أن يُصدر بيان اعتذار لتهدئة النفوس. وهو ما حصل في اليوم التالي، حيث أكد ثوابته لجهة احترام جميع المعتقدات الدينية، ولم يقصد أي إساءة للقرآن أو جرح المشاعر الدينية للمؤمنين. لكن البيان أظهر حجم الخوف الذي ينتابه، كاشفاً أنه تعرَّض للتهديد بالقتل ما دفعه وأفراد أسرته للجوء إلى مكان يحتمي فيه، متوجهاً إلى المراجع الدينية العليا بالقول إنه يخالها لا تقبل بحملة التهديدات التي تعرَّض لها مع أسرته، ذلك أن التسامح هو واحدة من القيم الجوهرية لدين الإسلام، راجياً من تلك المراجع تذكير المؤمنين من المسلمين بهذه القيمة الجوهرية.

«باربي» تنتظر لثقافة الحياة

سبق قضية نور حجار، انشغال البلاد بتحرّك وزير الثقافة محمد المرتضى لمنع عرض فيلم «باربي» في صالات السينما بحجة أنه يُروِّج للشذوذ والتحوُّل الجنسي ويتعارض مع القيم الأخلاقية والإيمانية. توالت الإدانات لوزير الثقافة على موقفه الذي وصفه كثيرون بـ«الظلاميّ» وأنه لا يُشبه لبنان الحرية. وقالت مجموعة من المثقفين في بيان: «فيما تتعرّض حياة اللبنانيّين للخطر بسبب السلاح والتفلّت من العقاب، وتتعرّض معيشتهم لانخفاض مريع بسبب النهب والسرقة، فإنّ عقولهم تتعرّض، هي الأخرى، لهجمة لا تقلّ خطراً وفتكاً». وكتب النائب نديم الجميل عبر منصة X «يريدون منع عرض فيلم «باربي» ويعرضون أفلام قتل وجهاد لأطفال. ثقافتنا ثقافة الحياة، ثقافتهم ثقافة الموت والإرهاب، ثقافة «حزب الله» أخطر من سلاحه. وإذا مُنع عرض الفيلم في صالات السينما، فسنعرضه في الساحات العامة في لبناننا وليمنعوه في دويلتهم. لكم دويلتكم، لنا لبناننا».
خسر المرتضى معركة منع فيلم «باربي» بعدما أجاز الأمن العام عرضه في دور السينما، لكن ما بدا لافتاً أنَّ هناك محاولة مبرمجة للتحريض ضد المثلية باعتبارها انحرافاً أخلاقياً، وكان لافتاً الهجوم الذي شنّه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله خلال مجلس عاشورائي في تموز/يوليو الماضي على «المثلية المُصدَّرة إلى المجتمع اللبنانيّ من الولايات المتحدة وأوروبا» معتبراً أنها «معركة تتطلّب توحيد جهود الجميع، أي العائلات المسيحية والإسلامية، لمواجهة هذا الخطر المستورد من الغرب». يتجاهل نصر الله أن هذا الموضوع يُثير في الغرب نفسه، ولا سيما في الولايات المتحدة، انقساماً مجتمعياً. وحين يُثار في توقيت واحد في العراق ولدى الحوثيين في اليمن ومن قبله في لبنان، تتكاثر علامات الاستفهام حوله وتتحوّل الأهداف إلى سياسية بامتياز.
هذه المسألة كانت ولا تزال تُثير الجدل في مختلف المجتمعات، لكن استدراجها في لبنان إلى الواجهة يضعه مراقبون ليس فقط في سياق محاولات استحضار قضايا لإلهاء اللبنانيين عن الأزمات الخانقة، بل في محاولة خلق واستثارة جماعات متشددة. ففي خضم تسعير الجدل حول هذا الموضوع الذي تتلاقى المراجع الدينية على مختلف انتماءاتها على رفضه، قامت مجموعة مسيحية تُطلق على نفسها اسم «جنود الرب» بمهاجمة مقهى في منطقة الأشرفية يُعدُّ صديقاً للمثليين يستضيف عرضاً كوميدياً لمجتمع ميم – عين. وبرزت إلى الواجهة مجموعة تُطلق على نفسها اسم «جنود الفيحاء» تحت عنوان حماية الأخلاق العامة، كبديل عن دور الدولة وأجهزتها الأمنية في حماية المواطنين وتطبيق القانون.

بين الحرية وحماية النظام العام

في رأي أستاذ القانون وعلم الاجتماع الدكتور أنطوان مسرّة أن «لبنان اليوم هو مختبر لحالة عدم وجود دولة، وهو في حالة فقدان السيادة، وفي هكذا وضع، لا تستقيم إدارة شؤون الناس ولا أية حرية. يوجد قضاة ذوو نزاهة عالية ولكن القضاء يُستغل في إصدار أحكام تعسفية، أو تُفتح ملفات ويتحوّل القانون إلى أداة تبرير وملاحقات. وعندما لا توجد دولة مالكة السيادة، يتحوّل القضاء إلى مستوعب يرمي فيه أهل الحكم كل قضايا التعسف وتُفتح ملفات غبّ الطلب. ما يجري راهناً هو عملية إلهاء وتلاعب باللبنانيين وتشويه لمفهوم حماية النظام العام. هذه القضية بحاجة إلى توضيح وتعمّق سواء في لبنان أو المنطقة العربية كي لا يحصل استغلال لها. ويجوز أن تكون حماية النظام العام مرتبطة بالعقليات والذهنيات والوضع الاجتماعي، حيث هناك سلوكيات وممارسات لا تقبل بعض الممارسات. ولكن لا بدَّ من التمييز بقوة بين حرية النقد الديني التي هي مطلقة وحماية النظام العام، وهناك اجتهادات دستورية ومفاهيم ومقاييس واضحة لكيفية فهم النظام العام وعدم البقاء في حالة من الفوضى».
ويرى مسرّة أن «السلطة الرسمية في أغلب الأحيان لا تُميِّز بين الاثنين. فعلى سبيل المثال، إذا كانت هناك مسرحية تحتوي على بعض السخرية أو النقد تجاه الدين، يمكن للسلطة أن تمنعها لأسباب متعلقة بالنظام العام حتى لا تحدث اضطرابات، لكن عليها أولاً الإقرار بشكل مطلق بحرية التعبير. هذا التمييز غالباً ما يكون غائباً عن القرارات التي تُتخذ، فيتم الخلط بين الاثنين».
ما يلفت إليه مسرة هو أن «هناك تراجعاً لمفهوم سلطة الدولة (Authority) وأكثرية المجتمعات الديمقراطية أصبح من المستحيل حكمها، لأن الناس أصبحوا فرديين أو فردانيين، وليس لديهم احترام للسلطة العامة. هذا مسار مرشح للتصعيد، مع انتشار الفردية أو الفردانية. ونحن قادمون على مجتمعات تستعمل الأديان كـ»أيديولوجيات» بشكل أكثر، بحيث ستصبح الجماعات أقوى في ظل ضعف الدولة. وستكون الحريات في خطر كبير لا مثيل له في تاريخ البشرية إذا لم يتم تدارك الأمر من خلال إعادة تصحيح المفهوم العلمي للنظام العام والسلطة العامة والقيم الاجتماعية بعيداً عن التلاعب الحاصل في عقول الناس والاستغلال السياسي والأيديولوجي الحاصل بفعل التراجع الثقافي».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية