نساء الغراند كانيون

حجم الخط
0

لم يكن لدى ‘ك’ الحماس نفسه الذي كان ينتابه في زياراته السابقة الى الغراند كانيون. كان ‘ك’ مصاباً بالقلق والاكتئاب لما آلت اليه حياته في السنوات الاخيرة. لقد شعر بأن قوى الشباب ونيرانه المتأججة التي كانت تدفعه نحو المغامرة في اكتشاف الامكنة الجديدة والبعيدة أخذت تغادره شيئاً فشيئاً، لذا حاول استجماع كل ما لديه من قوة جسدية وذهنية ونفسية ليحقق رغبته الاخيرة في زيارة وداع للوادي، لم يكن يريد الذهاب مع احد خوفاً من افساد رحلته، كان ‘ك’ يرغب بشدة لو أن امراة تمتلك الرغبة نفسها في زيارة المكان وبقوة تقارب قوته ترافقه في رحلته ، لكنه لم يرشح أي واحدة من النساء اللواتي يعرفهن ليعرض عليها وجهة نظره لانه يخشى ان يقع في ورطة او يبتلي بعلاقة غرامية تطيح بمعنوياته وتتركه نهبا لمشاعر الحنين والفقدان كما حدث مع الأُخريات.
قدم ‘ك’ الى أمريكا من العراق قبل عشر سنوات وهو في منتصف الثلاثين من عمره، لقد كتب ونشر القصص القصيرة في بلده ثم ضاقت به السبل فهرب من وطنه ووصل لاجئاً سياسياً الى هنا. شعر ‘ك’ بالاندهاش والاثارة المتواصلة عقب وصوله الى اميركا مثل شخص حكم عليه بالسجن المؤبد ثم نقل من المكان دفعة واحدة واطلق سراحه في بلد غربي. بدا همه الوحيد اللقاء بمزيد من النساء، لا يهم متزوجات أم غير متزوجات، ولاحت هذه اللقاءات العاطفية تمنحه الآمال في نسيان ماضيه المليء بالخسارات والقهر والعذاب، ولكن بعد انحسار أمواج طاقاته الحسية وفتور عواطفه ونضوب تلك الهبات الجميلة اصبح ‘ك’ محاصراً من جهتين؛ من قبل حاضره الذي أخذ يدير له ظهر المجن وماضيه الذي شرعت حممه تندفع بتعاقب ليس من السهولة الهروب منه لتمتع ‘ك’ بذاكرة مدهشة، فكان يمضي حياته اليومية مذهولاً لا يعرف ما الذي يقع له بين يوم واخر.
بعد سنوات قليلة من العمل الرتيب في احد مصانع البلاستيك في أريزونا قام في مغامرته الاولى في زيارة الوادي ثم تتابعت زياراته.
كان الحنين الى بلده الاصلي يمزقه في بعض الاحيان فيلتجىء الى الخمرة والتدخين والقراءة محاولاً النسيان، وعلى الرغم من انه اصبح مواطناً امريكياً الا انه لم يشعر في يوم من الايام بالانتماء الى امريكا ، كذلك لم يشعر بالانتماء الى موطنه الاصلي عندما كان يعيش هناك. ثمة غربة وجودية عميقة تمد بجذورها في ارض طفولته البعيدة لا تدعه العيش بسلام في كل المدن التي اجبرته الحياة على الاقامة فيها.
في العراق كان ‘ك’ يتخيل بأن ليس ثمة علاج لهذه الغربة الا السفر والنساء البعيدات فوضع نصب عينيه هدفاً واحداً هو مغادرة الوطن. والان بعد المرارات القاسية والمتلاحقة التي يتكيدها بشكل دوري في البلد الجديد يشعر بأن ليس ثمة علاج لمرارات الغربة الا العودة الى بلده الاصلي والنساء البعيدات. نساء بلده.
بقي ‘ك’ لسبع سنوات حزيناً وغير مصدق ما حصل له، لقد حاول ان يسدل ستاراً كثيفاً من النسيان على كل ما جرى والا لأصبح مجنوناً لكارثية ما وقع له. بعد هذه المدة الطويلة من حياة الوحدة والاستغراق في شرب الخمرة والدخان ومحاولة النسيان شعر ‘ك’ ان عليه العودة الى بلده الاصلي العراق بأسرع وقت ممكن بعيداً عن هذه الذكربات الموجعة والكدح اليومي في العمل واستنزاف موهبة الكتابة بتفاصيل الحياة الامريكية التي لا تحصى. رغب في زيارة الوادي للمرة الاخيرة مودعاً اطياف النساء الجميلات والذكريات المؤلمة، وعلى الخصوص ودّ لو يزور ثلاثة امكنة؛ الحدائق الهندية حيث التقي لورا واختها التوأم، أجمة الاشجار كثيفة الخضرة الى جوار نهر كولارادو حيث مارس الحب مع جسيكا والبقعة المكسوة برمال كالذهب المجاورة للجرف الصخري الذي رمت نفسها منه جولي في النهر.
بدأ ‘ك’ النزول الى الوادي من حافته الجنوبية مشياً على قدميه في الخامسة صباحاً. انه يرتدي سروالاً قصيراً ازرق اللون وقميصاً ابيض خفيفاً ويضع حقيبة صغيرة على ظهره تحوي على قنينتي ماء وفاكهة وشوكلاته. كان الجو بارداً جداً على الرغم من انه اليوم الاخير من شهر مايس. أخذ جسده يرتجف، كان وحيداً ينقل خطواته في الدرب الترابي الضيق. متطلعا الى جدران الوادي الشاهقة، وفي كل زياراته كانت تبهره ضخامة الوادي وطبقات صخوره الهائلة.
في نظر ‘ك’ لقد كان الغراند كانيون على الدوام وما زال كائناً ابدياً يتمتع بالخلود واللا زمان بينما يتعرض الوجود البشري للفناء والتغيير الدائم، فكر ‘ك’ بان الحياة الانسانية مستهدفة من قبل الزمان بشكل كارثي، قبل ولادة أي انسان فإنّ الحياة موجودة تجري من دونه ثم يولد ليغدو رضيعاً ويمسي طفلاً ثم يصبح مراهقاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم يموت ليفنى ويعود الى التراب ثانية وستواصل الحياة جريانها من دونه. احلام الانسان ورغباته وطموحاته ونجاحاته واخفاقاته ومغامراته وخيباته وانتصاراته كلها في صيرورة دائمة ومستهدفة من قبل الزمان، لكن الوادي باق على حاله تقريباً منذ ملايين السنوات، ثمة صخور بارتفاع امتار عديدة ومن الضخامة بحيث يزيد وزنها على مئات من البشر.
لقد زار ‘ ك’ الوادي اربع مرات من قبل، وفي الثلاث زيارات حدثت اشياء تتسم بالغرابة الكبيرة التي يصعب عليه هو نفسه تصديقها، في زيارته الاولى والثانية تعرف على لورا وتوأمها أيمي، وفي الثالثة التقى جسيكا التي ماتت بلدغة افعى، وفي الرابعة التقى امرأة اخرى بالمصادفة تماماً. كان يحمل معه اكياس برتقال وتفاح واشياء عديدة وهو يسير بين غرف نزل bright angel المتناثرة الى جوار الغراند كانيون باحثا عن غرفته التي حجزها قبل ايام. لقد انهكه التعب بسبب حمله للاشياء مسافة بعيدة عن المكان الذي اوقف فيه سيارته، وبينما هو يحمل الاكياس تارة ويضعها على الارض ليرتاح تارة اخرى تمزق احدها وتدحرج البرتقال، وفيما هو يخطو ليلم ما وقع رأى فتاة تنحني وهي تجمع بضع برتقالات وتقدمها له، ومنذ تلك اللحظة انسابت خيوط العلاقة بينهما. لقد اوصلت الاشياء معه الى غرفته، وتردد في دعوتها الى الداخل، قال في نفسه دعني اكسر الفعل الآلي الذي كنت اقوم به طيلة حياتي- اينما حانت الفرصة في دعوة امراة الى مكانه فانه لا يبخل في ذلك- لذا قال في هذه المرة دعني اشكرها واقدم لها بضع برتقالات او تفاحات بدون ان ادعوها الى الداخل او ابدي عواطفي الحسية تجاهها وبالفعل قام بذلك وحينما غادرت المكان شعر بالندم لكونه لم يعرض عليها الدخول قائلاً لنفسه انك لن تلتقيها ثانية ابداً، ما الذي يضيرك لو جربت وعرضت عليها العشاء سوية او الدخول، وحتى لو رفضت فهل يؤذيك رفضها؟
لقد عرف ‘ك’ فيما بعد بان الفتاة تعمل في محل صغير يبيع الهدايا على حافة الوادي بينما هو يبحث عن بطاريات للمصباح اليدوي الذي جهزه حيطة من ان يدركه الليل وهو يتسلق في اليوم التالي. سألها بعد أن حياها ان كانت تعمل هنا فأجابت نعم منذ السنة الماضية وان اسمها جولي. كانت فتاة كبيرة الجسد، وعلى الرغم من ضخامتها تشيع في ملامحها انوثة وافرة من النوع الذي ينال اعجاب ‘ ك’ في الحال. لقد عاملته بلطف واهتمام. كانت كندية الاصل الا انها تعيش في امريكا منذ تسع سنوات تقريباً. اتفقا على اللقاء في العاشرة ليلاً بعد انتهاء نوبة عملها، وقاما في نزهة بين اشجار الصنوبر على مقربة من حافة الوادي، ثم تناولا اللحم المشوي والخبز المحمّص في احد المطاعم.، بعدها جلسا فوق السياج المنخفض الذي يفصل بين الممشى وحافة الوادي الشاهقة. أخذا يتطلعان الى بطن الغراند كانيون المظلم، بدا الاخير مثل كائن اسطوري، وشيئاً فشيئاً فتحت جولي قلبها الى ‘ك’، اخبرته بانها لم تكن سعيدة في حياتها وانها مدمنة على الكحول ولم تكن حياتها تسير وفقا لما ترغب. ‘ما المشكلة؟’ سألها ‘ك’، فقالت بانها تحتاج الى وقت لتخبره بكل شيء، لكن ليس الان. لقد تزوجت وطلقت مرتين دون ان تنجب أطفالاً، قدمت الى الوادي في زيارة العام الماضي بعد ان سأمت حياة المدن الكبيرة والشرب في الحانات، ووجدت فرصة عمل في محل الهدايا. ادرك ‘ك’ عليه ان لا يصدر أي حكم عاجل على سلوكها أيّاً كان السبب بل يتقبلها كما هي، مدركاً ان على الشخص ان يمنح المزيد من الثقة والاحترام للاخر لكي يشعر بالالفة ويعبر بحرية عما يختلج في قلبه. قالت بأن لديها استراحة بعد يومين ولو انتظر لنزلت معه الى الوادي واستمتعا ببعض الوقت ثم الصعود وامضاء الليل في غرفته.. فوافق. اخذا يتجولان بين اشجار الصنوبر، كان ذلك في شهر مايس وثمة لسعة خفيفة من البرد والسماء زرقاء وبدا القمر بحجم أكبر من المعتاد وقريباً جداً منهما. لقد ودعها في تلك الليلة وتابع التفكير فيها لبعض الوقت حتى استغرق في النوم.
في الليلة الثانية قالت جولي خلال تناول العشاء: ‘احياناً أمرُ بأوقات من الفرح اشعر فيها بأنني أسعد امراة في العالم، الا انها لا تدوم طويلاً، فبعد انقضاء ساعة او ساعتين تتلاشى تلك الاوقات تاركة اياي فريسة ضجر مخيف. ليس ثمة دواء للحزن ولا مستشفى للاستشفاء منه ويتبادر الى ذهني احياناً ان من الافضل لو يغادر الشخص هذه الحياة سريعاً، كم أود لو ينتهي كل شيء في احد الايام؟’.
في يوم استراحتها شرعا بالنزول في السابعة صباحاً من يوم الاثنين على الدرب الترابي الضيق للوادي بعد أن تزودا بالماء وبعض الطعام. كانا يلتقيان بين الحين والاخر اناساً اما في طريق الصعود او النزول، ويتبادلان التحيات معهم بحماس، فرادى او جماعات، نساء ورجالاً، أولاداً وصبايا. كان كل شخص يبدو ودوداً ومسالماً في ذلك اليوم.. وكان نسيم الوادي رائعاً وسماء نهاية مايس لا تشوبها غيمة بلونها الازرق المائل الى اللون البنفسجي. اشجار الصنوبر المتناثرة على الدرب بخضرة متوهجة. بدت جولي بمزاج رائق ومعنويات عالية وهي تتحدث عن ذكرياتها في مدينة ‘تورنتو’، تطلعتْ الى الطريق جيداً، لم يكن هناك احد غيرهما، قالت له انزل يديك الى جنبك. اود ان اهديك شيئا للذكرى، اخرجت من حقيبتها سلسلة فضية ثبت في وسطها الحرف الاول من اسمها J – والبسته اياها وهي تهمس بأذنه ‘أحبك’، أحس ‘ك’ كأنه كلب مريض أدخل المستشفى، شكرها معلقاً لا احب السلاسل والتذكارات، احب الحياة كما هي الان. بعد ساعتين من النزول تقريباَ وصلا الى نهر كولارادو حيث التقيا على الدرب الرملي المجاور للجرف الصخري رجلاَ وزوجته ربما في السبعين من عمرهما، تبادل الجميع كلمات التعارف، كان الزوجان قد نزلا من حافة الوادي الجنوبية الى المزرعة الشبحية في القاع ثم واصلا الصعود الى الحافة الشمالية ثم عادا، استغرق الطريق ثلاثة ايام من التسلق والنزول. كان الجرف الصخري على ارتفاع ربما 50 او 70 مترا عن المياه، وبالرغم من المسافة البعيدة كان صخب الامواج وهديرها يتناهى الى الاعلى. ، وبينما هم يجلسون ويتناولون بعض الطعام، تطلع ‘ك’ الى عيني جولي البنيتين المعبرتين على نحو يوشك ان يكون ساحراً ثم نقل نظراته الى جيدها الاتلع، بدا وجهها شاحباً جدا كالموت، فاستفسر منها ان كان ثمة شيء يزعجها فردت لا شيء. اخذت تنظر اليه في صمت موحش بينما هو يجيب عن اسئلة الزوجين وهما يسألانه عن لغته الانجليزية ان كان قد تعلمها في العراق او بعد وصوله الى امريكا، ‘هل انت على ما يرام؟’ سألها ثانية، ردت جولي ‘اشعر بإختناق فظيع’، نهضت من مكانها واخذت تتطلع الى المياه للحظات ثم فجأة صرخت ياهههههههههههههههههه وقذفت نفسها من الجرف الشاهق الى المياه. نهض ‘ك’ متيبساً في مكانه من الرعب وهو يتطلع الى جسدها الذي بقي منبسطاً بيدين ورجلين منفرجتين كأنه يطير في الهواء لبعض الوقت قبل ان يرتطم بالماء ويُجرف لبضعة امتار ثم يختفي. جلس ‘ك’ على الرمال واخذ ينتحب ويبكي بمرارة وهلع بينما الزوجان الطيبان يمسكان بيديه ويحاولان تهدئته.. مر اخرون بالمكان واستفسروا عن سبب بكائه فاخبرهم الزوجان بما حدث فاتصل احدهم بتلفونه المحمول فجاءت مروحية ونقلته مع الزوجين الى اعلى الغراند كانيون.
لم يشعر ‘ك’ في الايام الاولى من انتحار جولي ان كان ما حدث واقعاً ام كابوساً، لقد اعتقل من قبل الشرطة واختلطت عليه الامور والاوقات ولم يحس بتسلسل النهارات والليالي الا بعد مرور اسبوعين. مرض في خريف تلك السنة وكان عليه ان يخضع لمعالجة نفسية ليتأكدوا من سلامته العقلية. لقد كان على حافة الجنون، واخبره احد المحققين فيما بعد بأن لا يقلق كثيراً وان الفتاة قد قامت بمحاولات انتحار فاشلة في السابق حسب ما دون في سجلها الشخصي. وبعد مرور ثلاثة اشهر افرج عنه حينما شهد الزوجان امام القاضي بأن ‘ك’ لم يكن سبباً في انتحار الفتاة.
في زيارته الاخيرة هذه لم يتمتع الوادي بذلك السحر الغريب الذي الفه ‘ك’ في زياراته السابقه، لكن الانطباع الاقوى الذي أوحى به هو انه اشبه بجبل مجوف ضخم ومقلوب كان قد تسلقه ‘ك’ في بداية عشريانته حينما كان جندياً في العسكرية في شمال العراق. ان الامتداد الهائل والانخفاض التدريجي والسكون الذي ينتشر في اجزاء الوادي ذكّره بجبل ‘سكران’ في محافظة اربيل، جبل سكران مقلوباً. وبينما هو يجلس على صخرة ويرقب شروق الشمس من وراء حافة الوادي ادرك بان الشمس هي ذاتها التي تشرق هنا وفي العراق وفي أيّ من المدن التي زارها أو اقام فيها وانه مهما رحل او أو تغرّب فسيجد الشمس ذاتها والقمر ذاته، وحينما وصل الحدائق الهندية Indian gardens لم تكن مثلما كانت في السابق واحة لإستراحة المتسلقين تتدفق بين صخورها العيون والينابيع بمياهها الرقراقة وتتطاير بين اشجارها الداكنة الخضرة الطيور والفراشات الملونة، بدت هذه المرة خربة وموحشة، جلس على المصطبة نفسها التي التقى لورا قربها قبل سبع سنوات، تخيل ابتسامتها المحببة وقميصها الابيض وذراعيها الابيضين الموشومين.. واصغى الى نبضات قلبه المترع بالصدمة، قال في نفسه اذن هكذا اصبح التألق العتيق بعيد المنال. كان ‘ك’ يعرف أن الامل في تكرار تلك الاوقات الممتعة أمراً اعظم مشقة لذا واصل نزوله الوادي حتى اجمات الاشجار الكثيفة حيث مارس الحب مع جسيكا، تذكر ملامح وجهها الطفولي بحنين مفعم باللوعة ثم نهض ليواصل مسيره الى مكان رغبته الاخيرة.
جلس على صخرة امام نهر كلارادو في المكان ذاته الذي رمت جولي نفسها منه، الرمال تتلامع كالذهب في الطريق الممتد أمامه، الماء يندفع بقوة هائلة اسفل الجسر، الامواج تصدر صخباً عالياً وهي تصطدم باالصخور الضخمة المرمية في عرض النهر، ليس ثمة حياة في النهر، لا طيور ولا اسماك تتلامع علي سطح المياه، ولا فتيان يسبحون.. كل شيء يتسم بالموات والهجران. بقي زخم حزن الوهلة الاولى على حاله على الرغم من محاولة ‘ك’ اقصاء ذكرى المنتحرة عن ذهنه. كانت ذكرى جولي مدفونة في اعماق ‘ ك’، وها هو شبحها الشرس يعاود الظهور في المكان. تملكت ‘ك’ موجة من الشعور بالاثم تجاه موتها، واحس في اعماق نفسه بالانسحاق والضعف ازاء غيابها. تذكر بشرتها الذهبية وفخذيها البديعين بينما هي تخطو امامه بحذاء الرياضة وهي تدس قنينة الماء خلفها بين سروالها القصير واسفل ظهرها. لقد اكتوى ‘ك’ بكثير من العذابات والالام، عذابات تكفي لسنوات طويلة، سنوات من القهر والاحزان وخيبات الامل عرفها جيداً، وعلى امتداد حياته لم يدرك سر حدوث اوقات المتع، بدا قانون البهجة بلا ضابط او انه يخضع لتأثير المصادفات المحضة.
فكّر لو انه رمى نفسه من هذا الجرف الصخري الى النهر كما فعلت جولي فإنّ الامر لا يستغرق اكثر من خمس دقائق وينتهي كل شيء. بدا النهر موحشاً مثل سديم ينبسط في احد الكوابيس. الخوف والقلق أخذا يتخللان جسده المرتجف وهو يقف مراقباً المياه البعيدة في عمق النهر، انداحت صور انهار بلده امام ناظريه، انهار مسالمة ومفعمة بالحياة، تذكر: نهر العشار، شط العرب، زوارق النزهات، السفن الكبيرة، الصبيان وهم يجلسون ويصيدون الاسماك بصنارتهم او يسبحون فرحين قرب الشاطئ في وقدة الشمس، تذكر الطالبات الجميلات ببشراتهن الحنطية وشعرهن الاسود وهن يقفن على عبّارة النهر في طريقهن الى جامعة البصرة، لقد ادرك بأنه كمن كان لديه كنز لم يعرف قيمته بسبب جهله او غشاوة من العماوة تحيط بعينه. تخيّل اخواته الطيبات، اصدقاءه الكتّاب، حبيبات المراهقة، تخيل نهري دجلة والفرات، تخيّل الاهوار والجبال السامقة في شمال الوطن ثم شعر انه من الجبن لو قذف نفسه في النهر، فعل يتسم بالخذلان وليس بالبطولة، الشجاعة هي ان يواصل الحياة محتفلاً بما تقدمه له، مسرات كانت ام احزاناً، نجاحات ام خيبات أمل.
لقد رأى ‘ك’ الكثير من الاشخاص يتهاوون امامه، او التقى اشخاصاً بسيقان أو ايدي مبتورة، ومع ذلك كانوا يواصلون حياتهم بلا تذمر بينما هو بجسد مكتمل تقريباً وله القدرة على المشي او التسلق طوال اليوم لكنه يشعر بعدم الرضا عن الحياة. فكر ‘ك’ بأن المشكلات والالام هي جزء من جوهر الوجود ولا حياة حقيقية بدون معاناة او عذاب. ان البحث عن السعادة الدائمة هو نوع من الوهم في هذه الحياة الارضية. حدّث ‘ك’ نفسه بأن ثمة أموراً عليه انجازها قبل أن يتوارى عن هذا العالم. نهض ورش وجهه وصدره بماء القنينة التي يحملها ثم عبر الجسر الضيق الذي يجثم على النهر مواصلاً خطوه صاعدا رغم التعب نحو الطبقات العليا للغراند كانيون. كان سنا شمس ما بعد الظهيرة يتدفق غامراً الاشجار المتناثرة حول مواطئ الاقدام، تخلل الجزء الاخير من رحلته ضرب من الهدوء الصوفي وامسى يعرف ان رؤية اكثر شمولاً بوسعها ان تضم شطري حياته هنا وهناك، وما بدا حجراً صلباً لاح قلباً شفافاً ينبض بعيداً عن بذور الخطيئة.

*كاتب عراقي مقيم في امريكا
[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية