نجاح سلام: سفيرة الغناء بين بيروت والقاهرة والعواصم العربية

كغيرها من الأصوات الشابة الصغيرة والمواهب الغنائية الفذة، بدأت المطربة نجاح سلام أولى خطواتها الفنية من المدرسة، حيث شاركت في الحفلات السنوية التي أقيمت في المناسبات القومية والوطنية في بيروت. وربما ساهمت هذه البداية بشكل مُباشر في اهتمامها بالأغاني الوطنية وارتباطها بالهم القومي، حيث لم يكن تركيزها فقط على ما يخص لبنان وحدها، بل أنها وعت مُبكراً قيمة الانتماء العربي، ولُحمة الشعوب الشقيقة ودور الأغنية والموسيقى وسائر الفنون في دعم العلاقات العربية ـ العربية وتقويتها ليُصبح الوطن العربي كله بنياناً واحداً مُتكاملاً .
تلك هي الثقافة التي تأثرت بها نجاح سلام ابنة الأديب والمُلحن محيي الدين سلام، الرجل المُستنير الذي اتبع منهجاً علمياً قويماً في تدريب ابنته على الطرب والغناء، ورعايتها رعاية خاصة تليق بمستقبل مُطربة كبيرة كان يرى في عيونها ألق الموهبة، وهي لا تزال طفله في عمر الزهور.
لقد تحين الأب الفنان اللحظة المُناسبة وسافر بابنته الشابة إلى القاهرة بعد أن نضج صوتها وتبلورت ملامحه الفنية والإبداعية، واكتسبت الحنجرة الذهبية خبرات الأداء والتطريب. حدث ذلك في عام 1948، في تزامن تاريخي مع اندلاع حرب فلسطين، وطغيان الشعور الوطني العام المُناصر للقضية، وتأييد حركة الكفاح العربي ضد قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المُحتلة. تلك كانت البداية التي انطلقت إبانها مسيرة الفنانة نجاح سلام بمساعدة أساطين الفن والغناء آنذاك، أم كلثوم وزكريا أحمد وفريد الأطرش وأسمهان، فقد لعب هؤلاء الكبار دوراً رئيسايً في تقديم المطربة الشابة إلى الساحة الغنائية. ولعذوبة صوتها وخصوصيته، كان يسيراً عليها الاستفادة من نصائحهم، بالابتعاد عن تقليد الأصوات السائدة في وقتها أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، والاهتمام بأن تكون لها شخصية فريدة في الأداء والتأثير. وبالفعل لم تكن المطربة ذات القُدرات الفنية العالية صدى لأصوات أخرى وإنما حرصت على التفرد واعتنت بالأغنية الوطنية على وجه التحديد لتكون إشارة لوطنيتها وثقافتها وإيمانها بحق الشعوب العربية في الحرية والاستقلال، إذ غنت في عام 1956 أغنيتها الشهيرة «يا أغلى اسم في الوجود يا مصر» تنديداً بالعدوان الثلاثي على مصر وإثباتاً لتضامنها مع الشعب المصري في حربه الضروس مع الدول العُظمى الثلاثة، بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وقد شعر الرئيس جمال عبد الناصر الصدق في أداء نجاح سلام للأغنية، وعمق شعورها الوطني والقومي فمنحها الجنسية المصرية، لتُعامل كأي فنانة مصرية لها كامل الحقوق وعليها الواجبات كافة.
وظلت نجاح وفيه لبلدها الثاني مصر، وغنت أغنيتها الأخرى في عام 1978 «أنا النيل مقبرة الغزاة» بعد خلاف رياض السنباطي مع أم كلثوم المُرشحة الأولى للأغنية، ونجحت الأغنية نجاحاً باهراً فتعاظم رصيدها من الحُب والتقدير لدى الجماهير المصرية، وتوطدت بفضلها العلاقة بين القاهرة وبيروت على المستويات الرسمية دبلوماسياً وسياسياً.
كانت الأغنيات الأولى «حول يا غنام» و«يا جارحة قلبي» لنجاح سلام في مصر بمثابة جواز مرور إلى قلوب الجماهير في أنحاء الوطن العربي، فقد استحسنوا اللكنة اللبنانية في صوتها ومساحات الشجن الواضحة والمؤثرة أداءً وإحساساً. وعلى المستوى الرومانسي تركت نجاح سلام أثراً كبيراً بأغنياتها الشهيرة «عايز جواباتك» و«برهوم حاكيني» ونماذج أخرى اختلفت تمام الاختلاف من حيث الكلمات والأداء والتلحين، ولأسباب جماهيرية بحتة استعانت بها السينما المصرية لتُشارك في العديد من الأفلام مع نجوم كبار، ومن بين ما شاركت فيه فيلم «ابن ذوات» مع إسماعيل ياسين وكيتي و«سر الهاربة» مع سُعاد حسني وشُكري سرحان وكمال الشناوي و«دستة مناديل» مع كارم محمود، بالإضافة إلى ثلاثة أفلام أخرى هي «السعد وعد» و«مرحباً أيها الحُب» و»لسانك حصانك».
لكن رغم نجاح كل الأفلام التي شاركت فيها المُطربة الكبيرة لم تحظ بفرصة البطولة المُطلقة كغيرها من المُطربات مثل، صباح ووردة وفايزة أحمد، فكلهن وافدات على مصر وتم الترحيب بهن كممثلات ونجمات وبطلات لأفلام كُبرى، إلا نجاح سلام حصرها المنتجون والمخرجون في الدور الثاني واكتفوا بما أضافته للأفلام من أغنيات أدت إلى نجاحها وساهمت بشكل كبير في مُضاعفة الإيرادات. وأغلب الظن أن نجاح نفسها لم يكن لديها طموح البطولة المُطلقة ولم تسع إليها بأي حال، ولو أنها اهتمت بالجانب التمثيلي، وأعطت للسينما وقتاً كافياً، لصارت بطلة من بطلات الصف الأول كممثلة، لكنها لم تكن راغبة في ذلك.
لقد رحلت المُطربة العربية صاحبة الصوت الشجي عن عمر ناهز التسعين عاماً تاركة مسيرة حافلة بالنجاح، وسيرة عطرة عنوانها الوطنية والانتماء العربي.

كمال القاضي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية