من قال إن كل الدّماء حمراء؟ فلتسألوا خوسيه أندريس!

حجم الخط
0

في الأوّل من الشهر الجاري، استهدفت سلسلة من الغارات الإسرائيلية المتلاحقة سبعة من عمال الإغاثة في قطاع غزّة ما تسبب بمقتلهم، على الرغم من أن سيارات قافلتهم كانت مرمزة، وفق الأصول الدولية المتعارف عليها، وأنها نسقت تحركاتها مع المسؤولين المعنيين لدى الجانب الإسرائيلي.
كان ممكناً أن ينضم هؤلاء الشّهداء الجدد إلى ما يتراوح بين 200 – 400 (بحسب تقديرات الوكالات الدولية) من عمال الإغاثة الفلسطينيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي، خلال الأشهر الستّة الماضية، بينما كانوا على رأس عملهم، بمن فيهم منتسبون إلى الأونروا – منظمة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – التي فقدت وحدها أكثر من 100 من موظفيها في هذه الحرب ويمضي العالم إلى شأنه. لكن ثمّة شيئاً مختلفاً حدث هذه المرّة.
فالضحايا السبع الجدد كانوا يعملون لدى منظمة المطبخ المركزي العالمي، وهي مجموعة تتولى تقديم الوجبات والمساعدات الغذائية في مناطق النزاع أسسها الشيف الشهير خوسيه أندريس.
وقد تبين أن ستة منهم – ثلاثة عمال وثلاثة من رجال الأمن – غير فلسطينيين، بل من حاملي جوازات سفر أمريكية وكندية وأسترالية وبولندية وبريطانية.
وكما دب قطبي عملاق استيقظ من حال سبات شتوي، استيقظ هذا العالم الأحمق، الذي ظل نائماً، بينما سفكت دماء خمسين ألفاً من الفلسطينيين لينفجر غضباً على دماء منسوبي المطبخ العالمي، بعدما تبين أن أغلبها أزرق، لا من النوع الأحمر، الذي اعتدنا على جريانه غزيراً في غزة. فتعالت الاستنكارات والإدانات الدّولية، وتصاعدت الضغوط على الحكومة الإسرائيلية من حلفائها، ما اضطر بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي للمسارعة قبل مرور 24 ساعة على الجريمة إلى إصدار بيان مصور وصف فيه الضربات المتتابعة التي وجهتها القوات الإسرائيلية لقافلتهم بأنها «حالة مأساوية، لكنّها تحدث في الحروب عندما يتأذى الأبرياء عن غير قصد»!
وفي اليوم التالي، أطلع الجيش الإسرائيلي الصحافيين على تحقيقاته في الحادث قبل أن يعلن في النهاية بإن الضربات كانت «انتهاكاً خطيراً» لإجراءات عملهم، وأنه سيتم فصل ضابطين من الخدمة نتيجة لذلك، وتعهدت (إسرائيل) لحكومات الدول التي أتى منها العمال غير الفلسطينيين الضحايا بتقديم تعويضات لعوائلهم.

نقطة تحوّل في موقف الإدارة الأمريكية من الحرب؟ فلنحلم!

أثارت «الدماء الزرقاء» لشهداء المطبخ العالمي احتجاجات وتقريعاً من الصحف، لكن اتساع دائرة النباح الدولي على (إسرائيل) بدأ مع انتقاد الإدارة الأمريكيّة – التي تموّل الحرب وتسلّح الجيش الإسرائيلي وتوفر له خدمات استراتيجية ولوجستية وغطاء دبلوماسياً دوليّاً – للضربات التي استهدفت فريق الإغاثة.
وبعد مكالمة طالت لأكثر من مئة دقيقة بين الرئيس جو بايدن ونتنياهو، قالت مصادر البيت الأبيض إن الرئيس أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي أن السياسة الأمريكية بشأن غزة ستكون مشروطة باتخاذ إسرائيل وعلى الفور «سلسلة من الخطوات المحددة والملموسة والقابلة للقياس لمعالجة الأضرار المدنية والمعاناة الإنسانية وسلامة عمال الإغاثة».
ولم تكد المكالمة تنتهي، إلا وبدأت حكومات غربيّة أخرى بما فيها بريطانيا – جدّة الدّولة العبرية الحنون – بنقد السلوك الإسرائيلي، ووصل الأمر ببعضها إلى التلويح بوقف شحن الأسلحة إلى تل أبيب.
وأعلنت (إسرائيل) بعد ساعات قليلة من المكالمة أنها ستسمح بدخول مزيد من الإمدادات إلى قطاع غزة، ووافقت على فتح خط دولي عبر الأردن لتمرير المساعدات، مع تفعيل معبر «كرم أبو سالم» المغلق منذ أشهر.
الإعلام الغربي وصف المكالمة الأثيرة بأنها نقطة تحول محتملة في نهج إدارة بايدن، واعترف جون كيربي، المتحدث باسم الإدارة الأمريكيّة في حديث تلفزيوني أن مقتل موظفي المطبخ العالمي كان سبباً مباشراً لمكالمة بايدن مع نتنياهو، مع أنهّ حاول التذكير أن (إحباط) الرئيس الأمريكي قد تزايد خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة «بسبب المخاطر التي يتعرض لها السكان المدنيون في غزة وعمال الإغاثة».
لكن الواقع الملموس أن الدماء الزرقاء للضحايا الذين عملوا لدى مطبخ أندريس المحبوب من قبل الإعلام الغربي قد فعلت بقلب واشنطن الرسمية وجوقتها عبر الكوكب ما عجزت عنه دماء خمسين ألفاً من الضحايا الفلسطينيين (بين شهداء وصلوا إلى المستشفيات ومفقودين تحت الأنقاض).
ومع ذلك، فإن كل هذه الفرقعات من قبل حلفاء (إسرائيل) الخلّص لم تغيّر من الأوضاع على الأرض، إذ لم يتضح بعد بالضبط كيف أو متى يمكن أن يتخذ الأمريكيون إجراءات عملية ضد الإسرائيليين وهم مصدر أكثر من ثلثي الأسلحة التي يستخدمها جيش (الدفاع) الإسرائيلي لإبادة الفلسطينيين ودرع الحماية الدبلوماسي للدولة العبرية التي لا يفل في حديدها قرارات مجلس أمن، أو أمم متحدة أو محاكم عدل دولية. فيما كان البريطانيون أكثر واقعية من الأمريكيين إذ تولى رئيس وزرائهم، ريشي سوناك، الإعراب عن صدمة المملكة المتحدة جميعها من (إراقة الّدماء)، لكن مع تجديد التأكيد على الاستمرار بدعم حق (إسرائيل) في الدّفاع عن نفسها، بما يشمل استمرار تدفق مبيعات الأسلحة والمعدات كالمعتاد، بل وأكثر عند الحاجة.
ولذلك، وحتى اشعار آخر، فإن حرب الإبادة بأشكالها: القتل والتجويع ونقص المياه والأمراض مستمرة كما هي، على قدم وساق، لا بل وسربت (إسرائيل) أنباء عن استلامها أربعين ألف خيمة من موردين عالميين تتسع كل منها لـ12 شخصاً وذلك تحضيراً لاجتياح رفح – جنوبي القطاع – حيث لجأ أكثر من مليون فلسطيني هرباً من أعمال القتل والتنكيل التي يقوم بها الإسرائيليون شمالاً.

لا قتل بالصدفة: ترسانة الأسلحة الذكية توجه الرسائل

قبل يوم واحد من استهداف عمال إغاثة المطبخ العالمي، استهدفت القوات الإسرائيلية مخيماً على أرض مستشفى في غزة فتسببت بإصابة سبعة صحافيين، بمن فيهم صحافي (فلسطيني) مستقل يتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي». الضربة اجتذبت، استثناء، بعض التغطية الدّولية – بحكم تأثير «بي بي سي» عالمياً، لكن لا شيء على الإطلاق على مستوى التغطية التي حظي بها الهجوم على عمال المطبخ العالمي من الأجانب.
ولا يمتلك المرء إلا أن يتساءل عن ردة الفعل العالمية (وهل سيتم ايقاظ العجوز الخرف بايدن من نومه) فيما لو تصادف أن كان هؤلاء الصحافيون بدورهم من ذوي الدّم الأزرق لا الأحمر.
لقد قُتل في الحرب الإسرائيلية على غزة حتى الآن أكثر من 200 صحافي فلسطيني، وتم استهداف بعضهم أثناء وجوده مع عائلته فقضوا معاً، ما جعل من العدوان الحالي ضد غزة (وجنوب لبنان) الفترة الأكثر دموية للصحافيين في أي صراع تابعته لجنة حماية الصحافيين خلال تاريخها كله على الإطلاق.
إسرائيل أعلنت دائماً أنها لا تستهدف الصحافيين عمداً، لكنها لم تتعهد بالحفاظ على سلامتهم في مناطق القتال، رغم أن عشرات المجموعات الصحافية الإقليمية والدولية تتهم الدولة العبرية أنها قتلت الصحافيين بشكل ممنهج ما يعد جرائم حرب. ورفعت عدة قضايا بهذا الخصوص لدى المحكمة الجنائية الدّولية، كما أدان تقرير للأمم المتحدة إسرائيل لقتلها صحافيين في جنوب لبنان كانوا خارج نطاق العمليات العسكرية ودون أي مبرر ما يشير إلى تعمد تصفيتهم.
تمتلك الدولة العبرية واحدة من أهم ترسانات الأسلحة الذكية في العالم، وهي على إطلاع عبر قنوات رسمية ومن خلال قواعد العمل الدولية على مواقع عمل الصحافيين وموظفي الإغاثة ومن في حكمهم.
ولذلك فإن افتراض أن كل هؤلاء الذين قضوا في ستة أشهر إلى الآن قد قتلوا بالخطأ سذاجة محضة. ومع ذلك، فإن لا أحداً يعبأ بهم، ولم يكلف بايدن نفسه حتى عناء مهاتفة صديقه نتنياهو من أجلهم، رغم أن بعضهم على الأقل يعمل لدى منظمات اعلام دولية مثل رويترز وغيرها. السرّ دائماً في لون الدّماء. فكل هؤلاء الشهداء المهنيين كانوا فلسطينيين وعرباً فحسب.

٭ إعلامية وكاتبة لبنانية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية