غزّةَ الفاصلة على المسرح السياسي البريطاني

حجم الخط
0

لا أحد يمكنه أن ينوب عن أهل غزّة، الذين يتعرّضون إلى مذبحة علنيّة يشنها الجيش الإسرائيلي، تنقلها التلفزيونات، منذ أربعة أشهر ونيف، على الهواء مباشرة، وتتضاءل مع هول مشهد شلال الدّم المتدفق في القطاع كل محاولات التضامن المسموح بها في الشارع أو على وسائط التواصل الاجتماعي حتى لتكاد تنقلب سخريّة مرّة من عجز العاجزين عن صرف القتلة عن مهرجان القتل الطقوسيّ المأفون الذي يقترفون.
لكن الواقع أن هذه الحرب اكتسبت، ومنذ يومها الأول، صيغة أبعد ما تكون عن الصراع بمفهومه العسكري الكلاسيكي، وتوسع نطاقها ليشمل جبهات عديدة تبدأ من الحروب الموازية على جبهات الإقليم التي تشارك بها دول عظمى وتنخرط بها بعض جهات عربيّة انحازت إلى القاتل على حساب المقتول، ولا تنتهي عند حدود المظاهرات التي تلهب شوارع المدن والجامعات ومحطات القطارات في الغرب. بل وامتدت المواجهة عالمياً إلى ساحات المدارس، وشاشات الإعلام، وقاعات القضاء، وحكماً إلى العالم الافتراضي، حيث تجندت الشركات الكبرى التي تدير ثرثرة سكان الكوكب على الفضاء السيبراني بتوحش ملفت لحصار المضمون الذي يفهم منه أنّه مناصر للفلسطينيين أو مناهض للعدوانية الصهيونيّة.

من لندن هنا جبهة أخرى في حرب غزّة

لعل كثيرين تابعوا تورّط بريطانيا المبكّر في حرب إبادة غزّة، إذ كان رئيس الوزراء ريشي سوناك من أوائل زعماء العالم الذين حجوا إلى القدس المحتلة للتضامن مع الدولة العبريّة، ولحقه بكثافة غير معهودة وزراء ومسؤولون كبار، كان آخرهم ديفيد كاميرون، وزير الخارجيّة. وليس سراً أن لندن تشارك فعلياً في المجهود الحربي الإسرائيلي، سواء عبر تنظيم عمليات الإمداد العسكري المستدام للمعدات والأسلحة وقطع الغيار من الصناعات البريطانية عبر مطارات قواعدها في قبرص، وتوفير الدّعم الاستخباراتي المكثف للأجهزة الأمنية الإسرائيلية من خلال تجهيزاتها الأرضية، كما طائرات التجسس التي تجوب شرق المتوسط، ناهيك عن مشاركة مقاتلات جوية ومدمرات بحرية في قصف اليمن وربما غيرها.
على أن هذا التورط غير المستغرب في المذبحة من قبل الدّولة المؤسسة للكيان في بلادنا منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، انعكس بشكل لم تكن تتوقعه السلطات البريطانية على المزاج العام في المملكة، وأصبحت فلسطين وغزّتها بشكل متزايد موضوع أخذ ورد، في شوارع لندن والمدن الكبرى، كما في برلمان البلاد، وصحفها، وجامعاتها، ومدارسها، وحتى محطات القطار فيها، وتحوّل الموقف من حرب الإبادة إلى موضوع استقطاب حاد يقسم المجتمع بكل طبقاته ومكوناته بين مناصر للكيان أو مناهض لحربه العدوانية على الفلسطينيين.

المسرح السياسي البريطاني

هذا الاستقطاب، انتقل الآن إلى مرحلة الالتهاب على خشبة المسرح السياسي البريطاني، وفرضت المواقف من الحرب على غزّة نفسها على الجدل اليومي في ويسمنستر (مقر مجلس العموم البريطاني) و10 داونيينغ ستريت (مقر الحكومة) كما في مقرات الأحزاب المعارضة، فيما هيمنت الشؤون الغزيّة على نشرات الأخبار التلفزيونية، وعناوين الصحف الكبرى والصغرى، والمناقشات على أثير الفضاء السيبيري.
وللتدليل على ذلك يكفي المرء أن يتابع نشرات الأخبار والبرامج السياسية على أحد التلفزيونات البريطانية، أو يقرأ أيّاً من صحف لندن. إليكم مثلاً أحداث يوم واحد فقط هذا الأسبوع كنموذج لما جلبته حكومة بريطانيا على نفسها بسبب انخراطها الفاعل في حرب الإبادة:
في صباح اليوم اضطر رئيس الوزراء إلى الظهور على وسائل الإعلام لإدانة من أسماهم بـ»الغوغاء العدوانيين» الذين استهدفوا منزل النائب المؤيد لإسرائيل في حزب المحافظين الحاكم ووزير الدّفاع السابق، توبياس إلوود. وكان متظاهرون ضد الحرب على غزة قد تجمعوا خارج منزل إلوود مساء الإثنين الماضي لعدة ساعات وهم يلوحون بالأعلام الفلسطينية، وحمل بعضهم لافتات تصور وجه النائب، وقد كتبت على وجهه عبارة «متواطئ في الإبادة الجماعية».
وعند الظهر، قام نواب الحزب الوطني الإسكتلندي – الذي يهيمن على البرلمان المحلي في إقليم اسكتلندا – بطرح مشروع قرار جديد في مجلس العموم البريطاني للتصويت على دعوة لوقف فوري لإطلاق النار في غزة.
وبعد الظهر، أعلنت استطلاعات للرأي – بينما تتجه المملكة إلى انتخابات عامة ستعقد خلال أقل من عام – إلى أن تأييد حزب العمال المعارض بين الناخبين تراجع إلى أدنى مستوياته منذ ثمانية أشهر، حيث تواجه قيادة الحزب ذات التوجهات اليمينية بقيادة كير ستارمر عاصفة داخل الحزب وبين جمهوره بسبب موقفه المؤيد كليا للدولة العبرية، وامتناعه عن إدانة المذبحة في غزّة أو المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار هناك. وقد تسبب انقسام المواقف هذا إلى استقالات عديدة بين كوادر الحزب، لا سيما ممثلوه المنتخبون في عدة مجالس بلدية، مع تعالي دعوات بين جمهور الناخبين التقليديين للحزب لسحب التأييد منه في الانتخابات المقبلة. وحصل حزب العمال على تأييد 41 في المئة من المستطلعين، مقابل 29 في المئة لحزب المحافظين الحاكم، ما قلص الفجوة بينهما لأدنى مستوى لها منذ اضطرار رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون للاستقالة.
ومساء تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لإعلان على أحد مواقف الباصات العمومية شرقي لندن يقول إن التصويت لحزب العمال هو «تصويت للإبادة الجماعية». وظهرت على الملصق ورقة اقتراع عليها إشارة إلغاء إلى جانب عبارة «صوتوا للإبادة الجماعية، صوتوا لحزب العمال».
مساء أيضاً، ظهر إد بولز – وهو أحد الشخصيات القيادية في حزب العمال على شاشة التلفزيون – ليدافع عن غراهام جونز، وهو ثاني مرشح برلماني لحزب العمال تتخلى عنه قيادة الحزب في غضون 24 ساعة، بعد زميله أزهر علي، وذلك بعد توزيع حديث له في اجتماع عام دعا فيه إلى حبس المتطوعين البريطانيين في الجيش الإسرائيلي. ومن دفاع بولز عن جونز قال إنه يعرفه جيداً و»هو لم يكن معاديا لإسرائيل على الإطلاق، غراهام جونز ليس معادياً للسامية».
في هذا الوقت، قالت طبعة مبكرة من صحيفة بريطانية إن حزب العمال يعمل مع «البريد الملكي» لمحاولة وقف منشورات أرسلها للناخبين مكتب المرشح للانتخابات الفرعية أزهر علي بالبريد، بعدما قررت قيادة الحزب أن تصريحاً أدلى به بشأن الحرب على غزة معاد للسامية.
وقرب منتصف الليل، قالت وسائل الإعلام إن مرشحاً ثالثاً عن حزب العمال تعرّض للمساءلة من قبل قيادة الحزب، بسبب تصريحات مماثلة حول الحرب على غزة. وعلّق نايجل فاراج، وهو زعيم حزب يميني متطرف، على هذه الأنباء بزعمه أن «العداء (لإسرائيل) أمر متأصل في قلب حزب العمال، ولن يسهل استئصاله».

الصمت سيد الموقف في الشارع العربي

ومهما يكن من أمر الصور المتتابعة للاستقطاب في الغرب في عمومه حول حرب الإبادة – وبريطانيا مجرد مثال – فإن هذا، بشكل أو آخر، دليل عافية سياسية.
ولعله مما يؤلم في الوقت ذاته أن دماء الغزيين التي أصبحت قضية الساعة في بلاد بعيدة عن الشرق وموضع تباين على مستوى وطني، فشلت حتى الآن في تحريك أصحاب الشأن، بعدما اختار أغلب الشارع العربي الصمت المطبق، تأسيا بقياداته، أمام الدم المسفوك، كما لو كانت هذه الأمة قد فارقت الحياة. لك الله يا غزّة.

كاتبة لبنانية مقيمة في لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية