من المساحات إلى الفضاءات الرقمية والأدبية

عالمنا، نتأمل فيه، وبقدر ما تتسع لحظات التأمل بقدر ما ندرك كيف تغيرت الأبعاد، وبالتالي زوايا التحليل التي ولدتها خلفية تحول بها الكثير من المساحات التي اعتدنا قطعها عرضا وطولا جسديا، إلى فضاءات افتراضية حل فيها التجوال الإلكتروني محل ذرع المسافات الجغرافية.
فلئن أصبح من البديهيات فصل عالم ما قبل وباء كورونا، عن العالم ما بعده، ربما تكون درجة البديهية أقل، إذا نظرنا إلى واجهة التفاعلات الجديدة التي يفرزها حتما ذلك الانتقال.
فكأننا دخلنا «مرحلة انتقالية» يحكمها تصور للمساحة والفضاء غير مسبوق، قل عنها إن شئت مرحلة انتقال المساحات إلى الفضاءات، تناغما للاستعمال التضخمي لكلمة «فضاءات» منذ بدء الألفية الثالثة، الذي يعكس دخول العولمة والمجال الرقمي في قلب ممارساتنا. لقد تم دخول الفضاءات على حساب المساحات، طالما فرض دخول الجغرافية الرقمية نفسه على حساب الجغرافية البشرية. الجغرافية البشرية، تلك الكلمة التي عهدناها في كتب التاريخ المدرسية، نستدل بها على حركات المجتمعات، وطرق استغلالها للمساحات، في رصد مستمر لتنقلات تخطط توجهات ترسم خريطة مشاريعنا، وعلاقاتنا الاجتماعية وتبادلاتنا الاقتصادية، وأنماط تعاطينا للزاد الفكري. لكن لا يتم جمع هذه العوامل التي تصلح كتعريف لتطوير الشخصية، بوصفها فردا وكائنا اجتماعيا، من دون ربطها بالمرجع الجديد الذي يفرضه تصور جديد للأبعاد. فالمجال ثلاثي الأبعاد الذي كنا نتصوره ابتكارا من الخيال العلمي منفصلا تماما عن مراجعنا المكانية والزمانية المعتادة، أصبح نسيجا من أنسجة تجربتنا للحياة، صار يختلط فيه الواقعي بالافتراصي.
تتصادف كتابتي لهذه السطور مع قراءتي لرواية شهيرة صاحبها واحد من ألمع كتّاب الأدب العربي المعاصر، وأكثرهم جمعا بين الواقع وخيال سنسميه خيال الرؤى، هو إدوار الخراط. فكأن رواية «رامة والتنين» استشرفت بتضافر نسيجها القصصي المتأرجح بين الواقعي والخيالي تلك الروحات والغدوات المرشحة من الآن فصاعدا لنقلنا أكثر فأكثر بين عالمي المدينة الصاخب، وعالم الخيال المسكون، كالدار المسكونة، كم أحب القراءة عن هذه السيارة التي « وقفت أمام إشارة المرور والساحة الصغيرة»، كم يذكرني بالقلب النابض لحياة المدينة «أمين الشرطة بخوذته البلاستيك الشفافة وثيابه الداكنة المحبوكة بين السيارات يدور برأسه ببطء وتعال»، أتخيل نفسي وقتها «على الرصيف بجوار عمود النور العالي» لكن ما أسرع أن تقتحم زمن الرواية، زمن السرد الحاضر، رؤى تعرب عن احتياج واضح لتأثيث فضاء اللاواقع في زمن لم يكن فيه الواقع الافتراضي قد سد مسد هذه المنطقة المفتوحة بشساعتها على سائر أنماط الإبداع. فما أن يشرع بطلا القصة رامة وميخائيل في الجلوس جلسة المحبين، حتى يستسلم إطار الجلسة الواقعي أمام قوة الخيال، الذي يغذيه مخزون ثقافي واضح: « وما أن جلست على البسطة العلوية الرخامية الفسيحة، حتى وثبت من جديد وهي تضحك وتهتف، فقد كان الرخام باردا جدا، ولسعتهما برودته وحلقت فوقهما فرسان الرؤيا الأربعة من الحجر الأبيض، الذي يبدو في أنوار الليل متآكلا قليلا». «فرسان الرؤيا»، المعروفون حسب رواية الكتاب المقدس التراثية، بإعلانهم نهاية العالم.
أما المدينة الفسيحة الواسعة التي استقبلناها بصخبها واستقبلتنا هي الأخرى كذلك، فقد انتهى بها المطاف أيضا الى هذا الانتقال من واقع غارق في الزمن المعهود إلى زمن الخرافة غير المؤقت: « لم يكن في المدينة الفسيحة عسكري واحد، وكانت بهيجة منيرة خاوية مفتوحة الذراعين واسعة الصدر كأنما هي لهما وحدهما: إيثيل وجريفيث، بنت السلطان والشاطر حسن، في أرض الحكايات الخرافية لا يعرفان أنه على مفارق الطريق أمنا الغولة». وأنت بين « البنايات العريضة حائلة اللون التي، تتشبث بها أنوار الإعلانات التي تغمض وتفتح عيونها الكهربائية في تتابع آلي، فتكشف عن رثاثة تتسلل إلى أطراف جلالها القديم»، تتساءل كيف لك أن تقضي على هذه «الرثاثة»، بالكتابة سيجيب الكاتب، بالقراءة سيرد القارئ، بأي تحليق مثمر في فضاء تفسح له مساحة المدينة المهجورة أكثر من أي وقت مضى في زمن الوباء لفائدة إبداع بقي لك أن تجد له أرضية.

٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية