السياسة العربية لفرنسا أمام مبادئها

«سياسة فرنسا العربية»، عبارة يعرف أبناء جيلنا كم رافقت مصنفات ومقالات، ليس فقط المتخصصة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي يمكن اعتبارها منطلقا لها على أساس التوجهات البراغماتية للجنرال دي غول في سياسته الدولية. هل لأن ذلك الزمن ولّى وولّت معه أفكار ومناهج لم تعد صالحة للاستعمال في تحقيق المسارات الدبلوماسية؟

زمن الدبلوماسية ليس زمن الرأي العام، ولا يوجد رأي عام مستقل تماما عن النسق الإعلامي الذي قلما يجعل من التوازن بوصلة له

مساءلة السياسة العربية لفرنسا عمل شاق، ومن بين الأسباب أن العمل بمبادئ التعايش السلمي وعدم الانحياز والحياد، بل الحياد الإيجابي أصبحت في خبر كان. حينها، كان العالم قد انتهى من خوض حربين عالميتين، وفترة ما بعد الاستعمار كان لها منظرون سعوا إلى حمل هموم الشعوب، غير منشغلين بركوب مخاطر الاستهلاك المحلي. في ذلك الزمن، لم تكن تسمع عن «صراع الحضارات» ولا عن «شرق أوسط جديد».. وهذا لا يعني أن الصراعات لم تكن قائمة، لكن البحث عن المخارج التوفيقية كان أمرا دؤوبا. أيامها، كانت مصطلحات تطرح في الكتب والمناهج، وكانت تبث على الهواء في مسعى لتثبيت طابعها الإجرائي.
في أيامنا، تزج المصطلحات في أتون المزايدات، التي يعرف الجميع مسبقا أن المأزق مآلها. هل نتصور الجنرال دي غول معقبا على الوضع القائم في الشرق الأوسط بالطريقة التي نشهدها حالياً؟ هل نتوقع الدبلوماسية الفرنسية في ولايتيه وفي ولاية جاك شيراك تترك الحبل على الغارب، كما أجبرتنا عليه عودتنا التدريجية والمكبلة إلى الانحياز الإمبريالي؟ أكيد لا. إدانة سقوط مدنيين من كل حدب وصوب كنت ستجدها في خطاب دي غول وشيراك بكل تأكيد، ولو فعلا لأبلوا البلاء الحسن، لكن تفعيل مخطط السلام وفق حل الدولتين ومراعاة تغطية إعلامية تغوص في حيثيات صراع قائم على احتلال ومصادرة أراض منذ أزيد من نصف قرن، كما ذكرته منذ قليل إعلامية عبر أثير «بي بي سي وورلد» وأنا أكتب هذه السطور – وهو كلام بالكاد تسمعه في الإعلام الفرنسي – لأرسى قواعد مقاربة تعطي حقها المشروع للإدانات والاستنكارات، لكن كجزئية من صورة يجب أن تكون كاملة، تتساءل ما الذي أوصلنا إلى هذه الحال؟ أكيد أن هذا التشخيص المبتور، ما كان ليرضي رجل المقاومة في لندن. في هذا الزمان، كانت الدبلوماسية الفرنسية قد نحت جرأة شق عصا التوجه الإمبريالي ومغادرة حلف الشمال الأطلسي لمزيد من الاستقلال. أيامها، وسنوات بعدها، كنا نردد في مدارسنا «الدبلوماسية الفرنسية: عظمة واستقلال وطني». لكن هذا الاستقلال لم يتحقق. بقدر ما تقدمنا في التاريخ، بقدر ما تقدمنا في إرساء مفهوم للغرب غلبه النمذجة والتنميط، فنكست أعلام النضالات الشرعية التي من المفروض أن تكون نضالات الجميع. ولو كانت تلك الروح النضالية طبعت دبلوماسيتنا فعلا لما وصلنا إلى هذه السلسلة المتفاقمة من الكوارث الإنسانية التي لم تعد تترك مجالا لتطاق، ليس الشرق كما خلقه الغرب، الشرق كما خلقه الشرق، لقد كرس إدوارد سعيد حياته كاملة لتوصيل هذه الرسالة، لكن الغرب المتطبع بعصر التنوير لم يضف إلى تنويره تنويرا كان سيجنبه افتتانا بالشرق محاصرا في الاهتمام الفكري دون غوص ومقاربة مستمرين في ثنايا واقعه السياسي.
يتوجه رئيسنا إلى المنطقة وخلافا لشريحة سائدة من الرأي العام هنا، لن أعيب عليه الذهاب الآن في ما وصفه البعض بالذهاب «المتأخر». زمن الدبلوماسية ليس زمن الرأي العام، ولا يوجد رأي عام مستقل تماما عن النسق الإعلامي الذي قلما يجعل من التوازن بوصلة له، ويجب هنا تثمين الاستراتيجية المتبعة في بريطانيا من قناتي «بي بي سي» و»سكاي نيوز» تحديدا اللتين اكتفتا بعرض ما يسميه الباحثون «أكسيولوجيا الأحداث» تاركة للمحللين التقييمات بأنواعها، أي بتفاوتاتها وتبايناتها ليعود الفصل للرأي المدعم بمعلومات. قال الكاتب الفرنسي أونوريه دو بالزاك «مشاعر الشعوب معتقداتها، لكن بدل أن تكون لدينا معتقدات، لدينا مصالح». وجذور المأساة هنا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية