«من الصعب» للمسرحي السوري بدر زكريا… حكاية العودة من الموت إلى الحياة

«ليس كالضوء ما يهزم العتمة.. ليس كالمسرح ما يهزم الموت. أن تمتلك الجرأة في اقتراف المسرح بينما قلبك يرقص من خوف اكتشاف جريمتك يعني الجنون بعينه، إنه اجتراح الحياة في سجون الموت وحيث يُصبح التنفس عطاء من القائد». (بدر زكريا)
«من الصعب» عمل مسرحي جديد للفنان السوري بدر زكريا، وهو أحد سجناء الرأي، وقد قضى في السجون السورية ما يقارب الثماني سنوات، وله العديد من التجارب المسرحية بمشاركة السجناء، فالمشاعر التي يعيشها سجين الرأي داخل السجن من خوف، وعدم أمان وخذلان وحتى أحلام يتمنى لو تتحقق، يعيشها ـ طبق الأصل ـ المواطن السوري خارج السجن. فلا أحد من السوريين يحس بالأمان أو يثق في أن دوره قد يكون قريباً جداً ويُسجن بتهم قد لا يعرف عنها شيئاً. ببساطة السوريون الذين لم يُسجنوا، في اعتقادي، لسبب وحيد هو المصادفة. وكل سوري مُتهم حتى يثبت العكس، وكل سوري يشعر بأنه مُطالب بتقديم براءة ذمة تجاه الدولة.

المستحيل

يكتب بدر ببساطة وعمق واختزال ودون أي تعابير عاطفية، كأنه لا يُطالب القراء بالتعاطف معه، ومع زملائه سجناء الرأي، يكتب عن فكرة يعيشها سجين الرأي (وكل سوري خارج السجن يسكنه الخوف، لأن الخوف هو السجن الكبير الذي نعيشه ونتنفسه، نحن السوريين، منذ عقود. يكتب بدر (فكرة أن نصنع حياة في ظل حكم بالإعدام والإقصاء نحن سجناء الرأي، خلقنا لأنفسنا حياة جديدة مليئة بالجمال والحب والإبداع). زكريا عاشق المسرح، الذي كتب مسرحيات عديدة قدمها في جبلة واللاذقية، ولعب دوراً في بعضها تحدى المُستحيل حين آمن مدعوماً بكل طاقة الحب بالمسرح، أنه يُمكن أن يُقدم مسرحيات في السجن، يقول: (نحن سجناء الرأي بحثنا عن أحلامنا في العالم السفلي بأسطورة تُشبه أسطورة العودة من الموت إلى الحياة). وبدأ المُستحيل يتحقق في السجن وتعاون بدر زكريا مع صديقه علي الكردي وهو كاتب وصحافي وسيناريست وحولوا رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم إلى مسرحية وتمكنا من إقناع بعض السجناء من المشاركة في المسرحية، التي نجحت نجاحاً باهراً، وأصبح الكلام عن المسرح يحتل جزءاً كبيراً من كلام السجناء، بدل الحديث الحزين والأشجان. وشهد بدر تحقق حلمه بعرض مسرحية «اللجنة» وساهم العرض المسرحي بتحويل الموت المعنوي البطيء للسجناء إلى حياة ممكنة.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ قدّم زكريا وزملاؤه سجناء الرأي المسرحيات التالية في عروض ناجحة وهي: «الدولاب» «الزيارة» للكاتب الإيطالي دينو بوتزاني، «الأوراق» عن نص للكاتب التركي عزيز نيسين، «النظارة» من كتابة سجين رأي المهندس محمد إبراهيم، «هيروسترات» و»المنزل الذي شيده جوناثان سويفت» للكاتب غريغوري غورين.

الخبز والمسرح

كان الخبز هو العجينة السحرية لتشكيل عدة المسرح يشرح بدر طريقة ابتكار العجينة السحرية: خبز مع كرتون البيض وقليل من الملح والسكر وورق الجرائد، يُنقع الخليط في الماء لأيام ثم يُغلى على النار لتتجانس المواد، ويشكلون منها ديكورات ضرورية للمسرح. هو المُستحيل فعلاً الذي يجسد أن الإيمان بالمسرح هو المُنقذ من الموت الروحي، ومن الزمن المُتخثر في السجن، من تجاوز أهوال طرق التعذيب المُروعة مثل الدولاب والصعق بالكهرباء والتحقير والتجويع إلخ. أدب السجون تحدث باستفاضة عن طرق التعذيب التي كان معظمها ينتهي بالموت أو إعاقات جسدية ونفسية، المسرحيات العظيمة لأهم كتاب المسرح التي قدمها سجناء الرأي في سجن صيدنايا، حدث أشبه بمسرح اللامعقول، أشبه أن تؤمن بأن النملة يُمكن بذكائها أن تهزم الفيل، وأن الفن الراقي ينقذ الروح من الموت المعنوي، ويُلطف ألم الانسلاخ الذي لا يُحتمل للأحبة، للأولاد والزوجة والأم والأصدقاء، للشارع والبحر والمقهى، للشروق والغروب. نخبة رائعة من سجناء الرأي انتصروا على القدر المحتوم بالفرح، فالإبداع الحقيقي الراقي فرح والفرح قوة، أن تتمكن أن تحقق حلمك في سجن صيدنايا وتبدع أروع المسرحيات هو انتصار.. يكتب بدر: (كان علينا اقتراف الفرح سراً، فالفرح تهمة خطيرة في السجن، فرحك يعني أنك تقاوم، عندها يا للويل من غضب السجان). لكن كل الطرافة أن عرض المسرحيات في سجن صيدنايا يتطلب أن يمتلك السجين بطاقة للدخول! وبطاقة الدخول هي قطعة من الورق يُكتب عليها عنوان المسرحية وتاريخ عرضها ثم تُمهر بختم مصنوع بعناية من الخشب وكما يقول بدر: (لمشاهدة عرض مسرحي كنا ندفع أكثر من ثمن بطاقة الدخول يا سادة، كنا ندفع أجسادنا لتستمر أرواحنا). أما الكتب القيمة فكان أغلبها متوفر من سجناء قدامى، أو في مكتبة السجن. موجع ومُخز ورائع في الوقت نفسه أن نتخيل أن أرقى المسرحيات وأروع كتاب المسرح وغيرهم كانت تُعرض تحت الأرض في أقبية السجون السورية، وكانت عدة المسرح العجينة السحرية (الخبز) إذ أن الخبز يصير في السجن غذاء للجسد والأهم للروح، بينما فوق سطح الأرض يُعرض النفاق والابتذال والتصفيق الإجباري والمقالات المنافقة.
أغلب السوريين يعرفون الكثير من ممثلي المسرح والسينما الذين حولوهم بقرار سياسي إلى نجوم هم متعاونين مع أجهزة المخابرات، يكتبون تقارير مؤذية عن زملائهم، وكيف ننسى طرد أكثر من مئتي ممثل وممثلة ومخرج ومخرجة من قبل رئيس الفنانين في بداية الثورة السورية.

ليس كمثله مَن يهزم الموت

الإيمان بالموهبة لا يختلف عن الشهادة في سبيل الحرية، لولا المسرحيات التي قدمها بدر زكريا وزملاؤه في سجن صيدنايا لذبلت أرواحهم وماتوا روحياً. هو الفن الراقي (المسرح) الفن الشافي من ذل العيش والقهر والظلم، هو الإيمان بأن الأحلام يُمكن أن تتحقق حتى في أقبية السجون ورغم التعذيب الوحشي، هو الإحساس بنشوة الانتصار على الجلاد بالفرح، الفرح الحقيقي بنشوة الإبداع، حيث يخرج المارد من قمقم الخوف ويحلق طائر الفينيق عالياً.
بدر زكريا سجن حين كان عمر إبنه الوحيد عشرين يوماً وسأنقل ما كتبه: (بدأت القصة في سيارة اللحمة أي سيارة نقل المساجين من تحويلي إلى فرع فلسطين (يا للعجب!) إلى سجن صيدنايا العسكري فرع 235. انقلب تفكيري في مستقبلي مع زوجتي وطفلي. بعد عام من موت مسرح سجن صيدنايا فتحت الأبواب على مصراعيها لكن ليس إلى الحرية بل إلى لجة العتمة والظلام. وكان بدر يرسل إلى زوجته الحبيبة كل المسرحيات كي تشعر بأنه لا يزال ينتمي إلى الحياة لكن للأسف احترقت كل تلك الأوراق. بدر زكريا.. عاشق المسرح المؤمن أنه ليس كالمسرح ما يهزم الموت، لست وحدك من تكتب نصاً عنوانه «من الصعب» الكثير الكثير من السوريين من الصعب جداً أن يكتبوا. لكن كما قلت: «لا مستحيل حين تكون إرادة الفعل أقوى من الخوف».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية