مؤلم جداً أن يكون ترتيب وطني سوريا يحتل المرتبة الأولى في العالم أنها الدولة الأكثر فقراً، ومؤلم أن تكون الهند التي عدد سكانها أكثر من مليار ونصف المليار القوة الاقتصادية الخامسة في العالم، والسبب يعود أن 72 في المئة من سكانها تحت عمر الثلاثين سنة ، وفي عالمنا العربي نسبة الشباب تتجاوز السبعين في المئة ، لكن كيف هو حال الشباب في العالم العربي؟
كيف تُهدر طاقة الشباب العربي؟ سؤال يحتاج لدراسة عميقة من علماء الاجتماع والأطباء النفسانيين. لكنني أحب أن أضيء على وضع الشباب (والشابات) في سوريا لأنني على إطلاع كبير بحالهم .
أولاً: انعدام شبه تام لدور المدارس (في التربية والتعليم) ، صفوف البكالوريا (الشهادة الثانوية) خالية من الطلاب معظمهم يلجأ إلى المعاهد الخاصة أو الدروس الخصوصية التي تكلف الملايين ، أصبحت مهنة الأساتذة الخصوصيين مُربحة جداً ولا يستطيع إلا الطلاب ميسورو الحال أخذ الدروس الخصوصية، أو طلاب يضطر أهلهم لبيع كل ما يُمكن بيعه من أثاث أو سجاد أو أخذ قروض مصرفية ليتمكنوا من دفع أجور الأساتذة الخصوصيين.
وزارة التعليم العالي
هذا الحال مستمر منذ سنوات ولم تبال وزارة التربية ولا وزارة التعليم العالي بتقديم حلول لهذا الوضع المُزري.
المشكلة الأخطر أن الطلاب خاصة طلاب الشهادة الثانوية لم يعد يهمهم سوى إحراز مجموع عالي يُمكنهم من إختيار دراستهم الجامعية، وفي جميع المواد نجد كُتيبات أعدها المدرسون الخصوصيون للأسئلة المُحتملة والتي تتكرر في الامتحانات ، أصبح الطالب بدل أن يُفكر في حل مسائل الفيزياء والرياضيات والكيمياء ، يحفظ تلك المسائل عن ظهر قلب، أي طاقته الفكرية تُهدر في الحفظ فالغاية هي المجموع العام .
وأصبح الدخول إلى جامعات الدولة يتطلب من الطالب مجموعاً عالياً جداً، وإن نقصت الطالب مجرد علامة فهو يُحرم من تحقيق حلمه بالدخول إلى كلية الطب أو الصيدلة أو الهندسة لا حل أمامه سوى القهر الذي سيترك ندبة قهر في روحه طوال حياته أو الالتحاق بجامعات خاصة تتكاثر كبذور البقلة في سوريا وأقساطها السنوية بالملايين ولا يتمكن إلا الطلاب الأثرياء من الالتحاق بتلك الجامعات التي يشك الكثيرون بمستواها العلمي . أي أصبح هناك تمييز طبقي بين الطلاب. والتعليم الجامعي لا يختلف عن التعليم في المدراس ( أي الدروس الخصوصية خاصة ) إذ يعتمد على الحفظ والأخذ بعين الإعتبار المحاضرات التي يُلقيها الأساتذة ، فلكل أستاذ طريقته وأولوياته .
كنت أسمع الطلاب – في كلية الطب مثلاً – يتحدثون عن محاضرات الأستاذ الفلاني في الجراحة العامة وعن محاضرات أستاذ آخر في الجراحة العامة وعن محاضرات أستاذ ثالث، عليهم الإلتزام تماماً بمحاضرات كل أستاذ وأن يجيبوا على الأسئلة بما يُرضي الأستاذ إياه، لم تعد مادة الجراحة العامة ( أخذتها كمثال ) مجال بحث حر للطالب ونادراً ما يلجأون إلى مراجع عالمية أو بحث علمي، تُصبح غاية الطالب الجامعي تحقيق أعلى علامة لدى كل أستاذ، هذا يؤدي إلى تعطيل التفكير البحثي العلمي لدى الطلاب. والحال ذاته في كل الإختصاصات الجامعية أي إرضاء الأستاذ وطريقته في التدريس وإعطاء المعلومات والتي تختلف من أستاذ إلى آخر، خاصة أن هناك منافسة بين الأساتذة كل منهم يُريد أن يثبت أنه الأفضل. لكن للأمانه ثمة طلابا يتمتعون بفكر حر ورغبة في البحث العلمي ويلجأون إلى مراجع خارج المنهاج الجامعي المُقرر ، هؤلاء بدل أن يُكرموا ويُقدروا وتفسح أمامهم كل سبل التشجيع والبحث العلمي تضيع جهودهم هباء أو يحلموا بالسفر إلى أمريكا أو دول أوروبية تُقدر تفوقهم وتميزهم .
ثانياً: إنعدام شبه تام للثقافة ، مثلاً مادة القومية تُدرس في كل الفروع الجامعية وهي مادة مُرسبة، بينما مثلاً في فرنسا (ودول متطورة ) تُدرس مادة الفلسفة طوال مدة الدراسة الجامعية – ومهما كان إختيار الطالب في دراسته الجامعية – لا يزال الطلاب في سوريا يدرسون في المدرسة والجامعات مادة القومية التي تكرر إلى ما لا نهاية ( وحدة – حرية – إشتراكية ) ولا توجد نشاطات ثقافية حقيقية في الجامعات السورية ، غالباً ما يُقدم أحد المحاضرين السياسيين، والقادم معظمهم من لبنان محاضرات سياسية عن خطر التطبيع مع العدو الصهيوني أو محاضرات من نوع: كيف نقول لا لأمريكا.
هذه المحاضرات في المراكز الثقافية وفروع إتحاد الكتاب العرب مثل محاضرة بعنوان (دور الأدب والإعلام في مواجهة الليبرالية الحديثة) أو محاضرة بعنوان (ثقافة الإذعان) أو محاضرة بعنوان ( دور الثقافة في تصويب مسار المجتمع المدني ).
وفي السنوات الأخيرة احتلت محاضرات ونشاطات المركز الثقافي لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الكثير من المحاضرات منفردة أو مشاركة مع نشاطات إتحاد الكتاب العرب مثل (ندوة فكرية أدبية تزامنا لرحيل الإمام الخميني قدس الله سره: منارة الثائرين ونبراس العارفين) أو محاضرة بعنوان (توهم معاني الألفاظ وأثره في الثقافة) ومحاضرة بعنوان (إسرائيل والعرب ما بين التطبيع والتطويع) . يُمكنني أن أذكر عشرات عناوين لمحاضرات في المراكز الثقافية السورية وفي فروع إتحاد الكتاب العرب لا تمت للثقافة بصلة، وهي بعيدة كلياً عن مأساة أكثر من 85 في المئة من الشعب السوري الذي يعيش فقرا مدقعا وإنعدام الكهرباء وشح الماء وإنعدام الرأي الحر الذي قد يؤدي بصاحبه إلى السجن بتهمة الجريمة الإلكترونية.
تشويه مفهوم الثقافة
وكان الحدث الهام هو إطلاق جائزة سليماني العالمية للأدب المقاوم عام 2023 في مجال الرواية والقصيدة العمودية والقصة القصيرة وسيناريو الفيلم القصير، وقد أعلن عن الجائزة جمعية أسفار للثقافة والفنون والإعلام. ثمة حالة انفصام حادة وخطيرة بين هذه المُحاضرات وحال الشعب السوري وظروفه بالغة القسوة، وأيضاً بين هذه المحاضرات السياسية والتي تُدرج تحت اسم محاضرات ثقافية وبين الثقافة كمفهوم ينير العقول ويفتح آفاق الفكر الحر والإبداع، وإلقاء محاضرات عن فلاسفة وأدباء مهمين، وفتح باب النقاش حول أعمال هؤلاء المبدعين سوريين أو عرباً أو أجانب.
وأظن أن كل المثقفين الذين شاركوا في مؤتمر كبير في القاهرة بمناسبة مرور مئة عام على وفاة قاسم أمين يذكرون كم كانت المحاضرات قيمة ورائعة وكم كان النقاش حراً وغنياً. أيضاً من شاركوا في مؤتمر مهم عن نيتشة في لبنان لا ينسون المحاضرات القيمة الإبداعية عن نيتشه. تشويه مفهوم الثقافة خطير جداً على جيل من المراهقين والشباب الذين يعيشون قحطاً ثقافياً مُرعباً، صحيح أن الأنترنيت يسمح لكثير من الشبان قراءة روايات رائعة ومقالات متنوعة في مواقع هي محظورة في سوريا لكنهم يتمكنون من إلغاء الحظر بطرق عديدة. أيضاً إنعدام السينما عدا الأفلام التي يوافق عليها النظام وهي لمخرجين يُعدون على أصابع اليد الواحدة. ربما من حسن حظ جيل الشباب هو قرصنة الأفلام العالمية إذ يتمكنون من حضورها في بيوتهم وبسعر زهيد. إن لم يكن للثقافة دور في جعل جيل الأطفال والمراهقين والشباب من طرح الأسئلة والفكر الحر والإبداع غير المشروط فهي ليست ثقافة بل تضليلاً. حال الشباب في سوريا وفي العالم العربي يشبه وضع العصي بين دواليب الإبداع والفكر الحر. هم – للأسف – في حالة عطالة أو يأس قاتل يدفع الآلاف منهم للهروب بأي طريقة وهم يعرفون مخاطر الهروب والتعامل مع مهربين لصوص والبعض يصل به اليأس إلى الإنتحار أو الإدمان .
حين يخسر الوطن طاقة شبابه فلا أمل بمستقبل مشرق وحياة كريمة وكرامة وحرية وإبداع.
الشباب ثروة كما يقول المطران الفيلسوف جورج خضر. وشباب سوريا وعالمنا العربي بحاجة للإنقاذ من أوهام ثقافية خُلبية تُحبطهم وتُضللهم ولا تشعر بمعاناتهم.
كاتبة سورية