من أيام حصار المقاطعة إلى جامعة كولومبيا: الجموع وتصوّراتها

حجم الخط
0

يوم أطبقت قوات الاحتلال الإسرائيلي الحصار على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مقر المقاطعة برام الله أواخر شهر مارس 2002 أحدث هذا الصلف، وقد جاء في أوج «الانتفاضة الثانية» أثره في الجموع العربية. فكان «ربيعها الأوّل» مطلع هذه الألفية، ولو لأيام معدودة ارتسمت فيها لوحة جماهيرية شبابية جيّاشة مندّدة بالانقلاب الإسرائيلي الشامل على عملية السلام مع الفلسطينيين، وساخطة بوجه إعادة إسرائيل احتلال المناطق التي سبق أن سلّمت إدارتها للسلطة الفلسطينية في مراحل تطبيق اتفاقية الحكم الذاتي المرحلية، قبل انسداد هذا المسار عند الوصول إلى مفاوضات الوضع النهائي.
لا يستفاد من ذلك أن الجموع التي نزلت إلى الشوارع في المدن العربية الكبرى يومها كانت مؤيدة لاتفاق أوسلو أو مقتنعة بواقعية التسوية من أساسها، لكن صرخة أبو عمار المحاصر واجتماع كلمة الفلسطينيين في المواجهة من كتائب شهداء الأقصى الفتحاوية إلى «حماس» و«الجهاد» كل هذا فعل فعله، وكذلك ساهمت الفضائيات العربية، وقد كانت في ذلك الوقت حديثة العهد. كانت هذه آخر مرة يتظاهر فيها العرب بقوة من أجل فلسطين. مضى على ذلك 22 عاماً.
ساهم الإنجاز الذي حققه «حزب الله» بتحرير الجنوب اللبناني في مايو 2000، وانسحاب إسرائيل منه دون قيد أو شرط، بجرعة من التفاؤل فلسطينية، وعند جمهور واسع من العرب، بقابلية أن يتحول التحرير من حدث لبناني إلى منظار استئنافي، بزخم، للصراع مع إسرائيل، وبالذات على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة. تزامن التفاؤل بقابلية أن يتحول التحرير إلى عدوى مع التشاؤم من المفاوضات. أشهر قليلة فصلت بين تحرير الجنوب وبين انسداد عملية السلام بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية.
بالنتيجة: الانتفاضة الثانية هُزِمَت. وأبو عمار نفسه انقلب عليه فريقه، فصار الحصار مطلقاً وعازلاً، وتلاه «التقصير القسري» لحياة أبو عمار. بعض هؤلاء المنقلبين أسمعوا الأمريكيين كلاماً معسولاً. بأنهم، وبخلاف «الختيار» ما كانوا سيترددون في القبول بما عرضه بيل كلينتون وإيهود باراك عليهم في كامب ديفيد في يوليو 2000. فاتهم، أو فات الأمريكيون – لو أنهم فعلاً أخذوهم على محمل الجد آنذاك -، أن هؤلاء ليسوا بقادرين لا على قبول ما كان أبو عمار يجرؤ على تقديمه من تنازلات، ولا على رفض ما كان ليرفضه. فاقد الشيء لا يعطيه.
هزيمة الانتفاضة الثانية كان لها أثران أساسيان.
على الصعيد الفلسطيني: تزكية السردية التي تتبناها الفصائل الإسلامية. الرفض الأيديولوجي لاستمرار الدولة الصهيونية والكفاح المسلّح ضدها، في مقابل القابلية البراغماتية لمبدأ الهدنة، المحددة بأجل. قوبل ذلك، بفهم من أرييل شارون لعمق المأزق الفلسطيني، فكان مضيه إلى الانسحاب الأحادي من القطاع، ما أفضى عملياً إلى فصله، وهو تحت سلطة حماس، عن مناطق الضفة.
على الصعيد العربي: انكفاء الشارع لسنوات، إلى حين انفجار انتفاضات الربيع العربي، بدءاً من تونس أواخر العام 2010. فالحراك ضد الحرب على العراق تركزت كثافته في مدن الغرب وليس في العالمين العربي والإسلامي. أما انتفاضات الربيع العربي فجمعت بين وحدة الشعار، على اختلاف المجتمعات والأنظمة المطالب بإسقاطها، وبين عدم طرح أي شعار جدي متعلق بما يجمع بين العرب ككل، بما في ذلك مسألة فلسطين. ثمة ما يقترب من ربع قرن من الانقطاع الشعبي العام عن هذه المسألة، وأكثر من عقد على تقويض الموجة الأولى من انتفاضات الربيع العربي. والموجة الثانية أواخر (السودان، الجزائر، العراق، لبنان). بين الاستشراس الاستبدادي وتصدّع المجتمعات، وما بين تكالب المستعمرين وازدياد نفوذ الدول غير العربية في الإقليم على حساب تلك العربية، وبين اتساع الفجوة بين البلدان العربية الغنية وتلك الفقيرة أكثر من أي وقت مضى، أمضى العرب من هذا القرن ربعه الأول على هذه الحال، يشطح فيهم الأمل ثم يمرّغهم الأمل نفسه في أسوأ دركات الخيبة.

ثمة خير أساسي في الحراك الحالي ضد الحرب، كما نشهده في جامعات من الولايات المتحدة: الضغط على الإدارة الأمريكية، بعد أشهر من جمع هذه الأخيرة بين الاختلاف في التصور مع حكومة نتنياهو وبين معاونة هذه الحكومة على سكان غزة

مع عمليات «حماس» و«الجهاد» في 7 أكتوبر لوحظ في الشارع العربي الإجمالي طفرة أوفوريا، حماسة سريعة للقضية التي انقطع عنها هذا الشارع لعقدين. لكن أغلب الناس لم تكن ميالة إلى سردية «تحريرها بدأ» وإنما إلى شيء من قبيل «اليوم خمر وغداً أمر» عند سعدها بالهجمات، وعند انصاتها السمع في الأسابيع الأولى لأبي عبيدة، يتحدّث باسم حماس. باستثناء الحالة الأردنية، لم تنزل الجماهير العربية إلى الشارع على نحو استثنائي في المئتي يوم الماضية. هنا وهناك انتفاضات «الحرية» هُزمت. هنا وهناك سردية «التحرير الشعبي» عالقة في النسيان منذ عقود. الإسلام السياسي مرّ من هنا وهناك. ضعفت جميع قنوات التعبئة، وقد سبقها إلى الضمور الرأي العام.
وما يصح على العرب يصح كذلك الأمر على البلدان الأكبر في العالم الإسلامي. مرة جديدة، لم يظهر أن «الجامعة الإسلامية» (البان إيسلاميزم) قوة تعبوية عاصفة، حتى في عالم معولم، يزداد اتصالا وسرعة في نقل الصورة والشعور، ويزداد أناسه انطواء وتسليماً بعبث الأقدار. ربما شعرت مقاهي ستاربكس ومطاعم الوجبات السريعة المعولمة لأمركة الذوق، كماكدونالد، أن المقاطعة الاستهلاكية العربية والإسلامية قد اتسعت رقعتها، بما يشبه التحريم الجمعي، إنما إسرائيل نفسها والتي تشهد تردياً في علاقاتها مع عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، ولم يحصل لها مثل هذا في العالم الإسلامي. استثناء معتبر مثلته تظاهرات مسلمي الهند المؤيدة لفلسطين في الأسابيع الأولى من الحرب. فهذه متصلة بتحول الحرب الحالية إلى موضوع هندي داخلي أيضاً، مع مضي حكومة نارندره مودي اليمينية الدينية في دعم إسرائيل.
في المقابل، منذ الأيام الأولى للحرب في الخريف الماضي ظهر أن «التحريك النشطائي» المناهض لإسرائيل حيوي في عدد من مدن الولايات المتحدة الأمريكية وفي عدد من الحواضر الأوروبية. وهنا يختلط اعتباران.
الأول: عملاني وممتاز. وهو أنه ثمة جمهور يرفض أن تموّل الحروب والمجازر من الضرائب التي يسددها المواطنون.
الثاني: مؤدلج وواقع في ورطة. فهو يتصل برواج تصور تماثليّ لقضية الفلسطينيين. حيناً مع قضايا السكان الأصليين، لا سيما في أمريكا، وحيناً مع سائر الشعوب التي تحررت من استعمار ومن تفرقة عنصرية، كما في جنوب أفريقيا.
هذا التصور المؤدلج لا يستقيم. المماثلة بنموذج السكان الأصليين في أمريكا الشمالية تبعث على التشاؤم. ففي هذه الأصقاع، نجح المستوطنون البيض في إفناء أغلب الأصليين، وحصر الناجين منهم في «محميات» في حين استطاع الفلسطينيون بعد ثلاثة أرباع قرن على النكبة من الاقتراب من التساوي العددي مع اليهود، بكافة أطيافهم، على أرض فلسطين الانتدابية.
لكن نسبتهم العددية لا تقارن في المقابل مع الغلبة العددية الساحقة للمسلمين، عرباً وأمازيغ، في «الجزائر الفرنسية» والغلبة العددية الساحقة للسود و«الملونين» في جنوب أفريقيا بوجه الأفريكانرز البيض.
من التعسف المماثلة بين مسألة فلسطين وبين نموذجين، أحدهما أفنى فيه البيضُ السكان الأصليين، والثاني احتفظ الأصليون فيه بالغلبة العددية الساحقة بعد قرن ونصف على الاستعمار. المسألة الفلسطينية مسألة متعلقة بمواجهة استعمار استيطاني نعم. إنما يلزم «تمييز كونية» الاستعمار الاستيطاني، أي التمييز بين نمط منه وبين نمط آخر لها آلية اشتغل مختلفة للغاية. الأدلجة الحاصلة اليوم لا تسمح بذلك.
في الوقت نفسه عدم رؤية شيء إلا هذه الأدلجة غلط.
فالأمور غير متروكة في حركة الواقع للأدلجات، المتداعي منها والمتماسك.
ثمة خير أساسي في الحراك الحالي ضد الحرب، كما نشهده في جامعات من الولايات المتحدة: الضغط على الإدارة الأمريكية، بعد أشهر من جمع هذه الأخيرة بين الاختلاف في التصور مع حكومة نتنياهو وبين معاونة هذه الحكومة على سكان غزة.
في المقابل، ثمة محاولة صهيونية لإظهار الحراك الحالي على أنه بمثابة رد على من اعتبر بين اليهود بأن إسرائيل لم تعد مكانا آمنا لهم وأن الدياسبورا عادت أكثر أمناً. مواجهة هذه المحاولة تفترض مغادرة المكرر من شعارات. اختزال المسألة اليهودية في أنها تعني «الرجل الأبيض» فقط لا يسمح بذلك.
يحصل كل هذا على مشارف منازلة رئاسية أمريكية بين رئيس «عاقل» دخل معه الكوكب في حربين خطيرتين، بين أوكرانيا والشرق الأوسط، وبين رئيس «سابق» مجنون، احتل أنصاره مبنى الكابيتول عندما أذيع نبأ خسارته، إنما العالم في سنيه الصاخبة كان… أكثر أمناً. الحراك الجامعي الأمريكي الحالي يزيد من هَرَم جو بايدن في هذا السباق. لكنه بعد من جملة أبعاد. البعد الآخر أن شباباً يتظاهر ضد حرب ذات منحى إبادي، جلّ من قتل فيه من مواليد هذا القرن، وأن هذا التظاهر يحدث في عقر دار الإمبراطورية الأمريكية التي يتنافس على الرئاسة فيها أواخر العام 2024 شخصان ولدا قبل انطلاقة الحرب الباردة. لا ينفع القول هنا أن هؤلاء الشباب أفكارهم أكثر هرماً من ترامب وبايدن، أياً كانت السمة الاختزالية لما يُطرح من شعارات. ومن بين هذه «من البحر إلى النهر». المفارقة أن الليكود هو الآخر مصرّ على هذا التصور لإسرائيل، على أنها تمتد هي الأخرى «من البحر إلى النهر».

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية