مناوبة لا مشاركة والضحك مستمر!

مثل كل المواليد، تخرج الثورات إلى الحياة باكية، إلا الثورة المصرية خرجت ضاحكة. لكن المواليد الطبيعيين يكبرون فيكفون عن البكاء والضحك، وكان من المفترض أن تكف الثورة المصرية عن الضحك، لكنها لم تفعل حتى الآن، ما يؤكد أنها لم تمت لكنها، كذلك، لم تغادر إلا لحظة الميلاد.
كانت الإبتسامة سمة لافتات الإعتصامات في الميادين المصرية بينما كان النظام متجهمًا يضرب ويصرخ قبل أن يتماوت وينزل بعضه ستارة النهاية على بعضه لتبدأ حلقة جديدة من جهامة السلطة وضحك الجماهير!
في وسط الضحك العام ولد بعض محترفي الضحك، أشهرهم بالطبع باسم يوسف الذي بدأ بوضع أفلامه القصيرة على قناة ‘يوتيوب’ ثم تلقفته القنوات التليفزيونية ليصبح معها نجمًا عالميًا، ثم رمته.
وإلى جانب باسم اختار أحدهم ـ لا يعلن عن نفسه حتى الآن ـ أن يتخفى وراء عروس اسمها ‘أبلة فاهيتا’ يقدم من خلالها رؤيته الكارتونية الساخرة التي حازت شهرة جعلت من ‘أبلة فاهيتا’ نجمة إعلان تقصدها الشركات التجارية.
ولأن شعارات الثورة المصرية، وأية ثورة في الحقيقة، لا تخلو من مطالبة بالخبز، فقد كان الطبخ أحد المكونات الرئيسية للثورة المضادة. ولم تكن سوزان مبارك من الغفلة بحيث تطالب الثوار بأكل الجاتوه بدلاً من الخبز المفقود، لكننها تركت المهمة لأطراف الطبقات الملتحقة بالنظام كي تعلن ضجرها من الثورة التي قطعت زادهم. خرجت الممثلة عفاف شعيب على التلفزيون تشكو من الاحتجاجات التي عطلت مطاعم الكباب ‘ابن أخويا، عنده سنتين بيقول لي نفسي في ريشة يا عمتي’!
غياب ‘الريَش’، إذًا، كان مشكلة عفاف شعيب التي استخدمها باسم يوسف في واحد من أوائل فيديوهاته. اهتمت عفاف باحتياجاتها هي واحتياجات ابن شقيقها المفطوم على الريش (أضلاع الضأن المشوية) بينما خاض فنانون آخرون في أعراض الثوار والثائرات واتهموهم بالعمالة لأمريكا التي تمولهم بوجبات كنتاكي يلتهمونها فيصيبهم هياج الهتاف في النهار والهياج الجنسي في خيام الاعتصام بالليل. ولم تنجح تلك الدعاية إلا في دعم مبيعات المطاعم الأمريكية، بينما يعرف من يمتلك قليلاً من الذوق على طرف لسانه أن تلك الوجبات المعادية للحواس لا يمكن أن تسبب هياجًا من أي نوع.
ومن المأكول إلى المشروب، خرج ملحن اسمه عمرو مصطفى على التلفزيون يهدي شرف الثورة لمشروب البيبسي، وحسب الموسيقي ‘العالمي’ ـ هكذا يصف نفسه ـ فإن إعلان البيبسي يتضمن إشارات تهييج غير خفية على أحد، وإلا ما معنى ‘عبر مين قدك’؟ ما دخل مشروب بالتعبير؟ وما معنى أن الشركة من 125 سنة؟ هذا لعب بالأرقام مقصود به 25 من شهر 1 أي تاريخ الهوجة المصرية!
بعد أن تجاوزت الثورة بداياتها المطبخية، لم تتوقف اتهامات التخابر والعمالة، بل ظلت صليبًا تحمله الثورة، وتهمة يُرمى بها كل من حلموا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن السلطة عادة ثقيلة الدم ولا تعرف الإبتسام فإنها تعرف تمامًا قوة الضحك وقدرته على تقويض الأساطير، لهذا كانت مطاردة الضحك الهدف الأول للسلطة، وكان باسم يوسف في مقدمة الضاحكين المستهدفين بالقصف، وطبقًا لطبيعة المرحلة التي نشط فيها باسم يوسف، وطبقًا لطبيعته الجسمانية التي لا تنبيء عن رجل أكول، لم تكن اتهامات التخابر بسبب وجبة برغر أو كوب بيبسي، بل لأنه مسيحي، وعندما اتضح أنه غير مسيحي كانت تهمته عينيه الخضراوين المختلفتين عن عيون المصريين!
على كل حال، اختفى باسم يوسف كما هو معروف بعد 30 يونيو، وبدأت ‘أبلة فاهيتا’ التركيز في بناء مستواها المهني كسيدة إعلانات وقدمت مؤخرًا إعلانًا لشركة فودافون للإتصالات بمناسبة رأس السنة بعنوان ‘شريحة المرحـــــوم’ وهو باختصار مبادرة من الشركة لإعادة تفعيل الخطوط القديمة المنسية.
لكن الإعلان أصبح قضية سياسية تتناولها برامج التوك شو، لأن معتوها آخر اعتبره رسالة مشفرة موجهة للإرهابيين، ومرة أخرى صار المطعم حاضرًا!
يتحدث الإعلان عن صدور رومي (ديك الحبش) محشية وعن طاقم أسنان تجمد من البرد الذي لم تعرفه مصر من أيام ديليسبس ثم تتطرق أبلة فاهيتا إلى رسالة الإعلان الأصلية وهي البحث عن الشريحة القديمة التي تركها المرحوم، وتطلب من محدثتها التفتيش في البالطو البيج، وفتق بطانته وعضعضة ياقته بحثًا عن شريحة الهاتف. وحسب المؤامرة المفترضة فإن الديوك المحشية هي قنابل رأس السنة، وطاقم الأسنان المجمد هو تجميد أموال الإخوان، ودليسبس هو الاسم الذي نطق به عبدالناصر كشيفرة في خطاب تأميم القناة، والبيج هو لون اللباس العسكري وفتق البطانة وعضعضة الياقة هو إرهاق الجيش وتمزيقه.
هذا التفسير الكاريكاتيري لكاريكاتير أبلة فاهيتا يتهم صاحب الشركة بالضلوع في المؤامرات الإخوانية، ورغم أن صاحب التفسير بلا حيثية، فقد استقبلته العديد من القنوات وإن بسخرية منه، لكن السخرية لا تنفي وجود رغبة ما في جهة ما تريد شيوع هذا التفسير.
رجل الأعمال المتهم بتفخيخ الإعلان اليوم كان من النجوم الزاهرة في عصر مبارك، وشرع في بناء أبراج تجارية في مواجهة القلعة (أهم وأكبر أثر إسلامي في القاهرة) وكانت هذه الجريمة المعمارية من كبريات جرائم الفساد في سنوات مبارك الأخيرة، وكانت ميدانًا للنضال أدخل فيه المناضلون اليونسكو طرفًا حتى الحصول على تعهد صعب ببعض التعديلات المعمارية للتقليل من الأخطار البصرية والإنشائية على الآثار.
وأما القصة الجديدة فتؤكد أن الثورة لم تتجاوز ضحكة الميلاد، وأن كل ما تغير هو العلاقة بين طرفي السلطة اللذين قامت الثورة ضدهما، من التعاون إلى مناوبات الاستحواذ الكامل.
والشعب يضحك حتى لو تصور الذين لا يضحكون أنه لا يملك إلا الريموت كنترول، كما قالت الحكيمة فاهيتا في لقاء أجراه معها باسم يوسف!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول eng.Gamal Abdel Nasser:

    ثورتنا لم تمت ولكنها لم تغادر -بعد- إلا لحظة الميلاد ..
    صك هذا التعبير يحتاج عمق ثقافتك وقوة وطنيتك وإيمانك بالثوره وحتمية إستمرارها وانتصارها في النهايه …
    هنيئا لنا بهذا التعبير الجميل الموحي بالأمل والبهجه.

إشترك في قائمتنا البريدية