ملامح الشخصية التراجيدية في حياة وشعر السياب

يبدأ عبداللطيف أطيمش ذكرياته مع السياب من أمسية شعرية جمعت الاثنين عام 1957 في دار المعلمين العالية في بغداد. ويبدو أن هذه اللحظة كانت مفصلية لأنها تؤرخ لبوادر خلاف السياب مع الشيوعيين والانضمام للاتجاه القومي. ولا يفوّت أطيمش هذه الفرصة ليؤكد أن السياب لم يلتزم بالفكر القومي، واختار أن يذهب بطريقه مثلما فعل كولن ولسون في أول كتبه وهو «اللامنتمي» ولذلك كان يساوي بين عبد الناصر وسيف الدولة. وقارن شجاعة عبدالناصر أثناء العدوان الثلاثي وشجاعة سيف الدولة في الصمود أمام أقوى إمبراطوريات الغرب الاستعماري في حينه وهي بلاط روما، كما فعل في أمسية دار المعلمين حين قرأ البيت التالي:
يا أمة تصنع الأقدار من دمها
لا تيأسي إن عبد الناصر القدر

بينما ذكر في الأصل سيف الدولة.. وأشار السياب إلى أن هذا جائز لأن الزعيمين مثال للشخصية التراجيدية. ثم يذكر أطيمش أن العلاقة بين لميعة عباس عمارة والسياب كانت ملتبسة، وربما تطور الإعجاب المتبادل بينهما إلى غرام عفيف في الخفاء، وقد ورد أن لميعة لم تقصر في رعايته كأم صغيرة، ووضعت كل طاقاتها في خدمته، وساعدته في بيع مجموعته «أزهار ذابلة» لتعويض ما أنفقه من نقود على طباعتها، وآزر لميعة بلند الحيدري، ولعب كلاهما دور خط دفاع أمامي عنه بوجه اليسار، ولا سيما البياتي. ويورد أطيمش أن نازك الملائكة تجاهلته بدورها، رغم أنها لا تنتمي لصفوف اليسار، وهكذا نجد أن السياب لم يكن مع القوميين ولا الشيوعيين، حتى أنه تقرر استبعاده من اتحاد الأدباء وهو مظلة لليسار، ومن جمعية الكتاب وهي مؤسسة للقوميين والإسلاميين.. وعاملته الدولة بالمثل، فقد فصل من عمله في ثانوية الرمادي عام 1949 إبان الحكومة الملكية، وفصله البعثيون عام 1963 بعد استلام السلطة رغم تأييده لهم وصداقته الروحية مع فيصل حبيب الخيزران أحد قادة البعث ومن أفراد الجيل الأول، وحينما سأله أطيمش، وهو على سرير الموت، من يتحمل وزر أوضاعنا المتدهورة، رد: الجميع. ولا أستثني أحدا، ثم يضيف: أنا شاعر حر وأختار حرية التفكير دون أحقاد، ولذلك يمثل السياب في حقيقة الأمر عاطفة وطنية وفنية، كما هو حال أنصار كولن ولسون وعلى رأسهم أنيس زكي حسن مترجم «اللامنتمي» وكوكبة من الروائيين الطليعيين أمثال تيسير سبول وأمين شنار وسليمان فياض، ولا ضرورة للتذكير أن كولن ولسون لم يحصل على أي اعتراف من رموز الفكر الوجودي كسارتر وكامو، ولا حتى دوبوفوار، التي تأرجحت بين رؤية شخصانية للداخل النفسي وانفعالات عكس – موضوعية لرهاب الخصاء (ما يسميه لاكان: الآخر غير المكتمل – وعي الابن بالأم). ومن سخرية القدر أن تنفر من السياب نازك الملائكة ولبيبة القيسي، وهي طالبة رائعة الجمال، وإن تتحابا بسبب هذا النفور حبا آثما – حسبما ينقل أطيمش عن لميعة.. وكان السياب قد هام بالاثنتين وكتب فيهما قصائد غزلية.

ومثلما كتبت له أقداره أن يكون ضحية لمن يحب كان أيضا ضحية لما يكره. فقد تكاتفت الذكريات الموجعة مع الواقع القاسي وحولته إلى نموذج لشخصية تراجيدية وهو موضوع المذكرات في فصل عنوانه «بداية المأساة». ويتابع فيه أطيمش آخر أيام السياب في المستشفى الأميري في الكويت، حيث حارب المرض بالإكثار من كتابة القصائد الحالمة والهادئة التي كشفت عن حالة تلبس سيكولوجي لا إرادي تشبه ما رأى اليوت في باسكال (والتعبير لأطيمش). بالإضافة إلى زهد متعمد بالحياة ناجم عن إيمان لا يتزعزع في أن الواقع صورة معرضة للفناء، لكن النفس مثال أو نموذج يفهم ذاته بشروطه هو وليس بشروط خارجة عن إرادته وتمنياته. وربما لهذا السبب تبدو القصائد الأخيرة التي كتبها عن أحبته – بالأخص زوجته إقبال في المستشفى، والتي نشرتها له جريدة «صوت الخليج» أشبه بترانيم في قداس. وهذا يؤكد أولوية الروح على المناظر والأماكن في شعريته، فالروح هي جزء من أسطورته الشخصية بينما المكان هو حاضن أو امتداد لها. وكلما شخصن المكان وأضفى عليه صفات محبوباته، تضاعفت قدرة الصور على الانتقال إلى تمثيلات وأخلاق. وهذا هو حال أهم التراجيديات الشعرية الخالدة منذ «إلياذة» هوميروس وحتى «كوميديا» دانتي. لكن التراجيديا الأخيرة التي لم يتسن للسياب أن يكتب عنها هي عدم استلام الحكومة لجثمانه، وطرد عائلته من البيت الذي منحته له إدارة الموانئ بعد وفاته بيوم واحد.
ومع ذلك كما يقول أطيمش، ربما وجد السياب في النهاية قبرا له في بلده، بينما رقد الجواهري والبياتي في دمشق، ونازك في مصر، وبلند الحيدري في لندن. وأضيف سركون بولص في برلين وحميد العقابي في الدنمارك وشكيب الجابري في السعودية. ثم يردف أن الحكومة رفعت للسياب تمثالا رماديا بهيئة دراماتيكية تشبه ممثلا في فرقة لشكسبير، وفيه يباعد ما بين يديه وينظر نحو الخليج وكأنه يكرر مقولة الشاعر دعبل الخزاعي:
إني رأيتك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زودتني زادي

في النهاية يمكن تسجيل الملاحظات التالية على الكتاب.
أولا أنه لا يقدم شهادة عن شاعر، لكن عن مرحلة واتجاه. ثانيا يدمج في شهادته آراء ومواقف أسماء مهمة مع أسماء مجهولين لهم علاقة قوية بظروف حياة السياب. ثالثا يتضمن الكتاب محورين أساسيين، الأول سرد ومعايشة لكنه محدود بمشهدين من حياة الشاعر. الأول في أمسية دار المعلمين العالية في بغداد، وتعقبه قطيعة طويلة حتى دخول الشاعر العناية المشددة في الكويت ووفاته. أما المحور الثاني فيتابع السياب، نقلا عن روايات مباشرة وموثقة منقولة عن آخرين من أبناء جيله. وفي كل الأحوال تغيب رحلات علاجه في باريس ولندن عن صفحات الكتاب، رغم أنها تعتبر مخاضا أوليا لما سيسميه النقد الثقافي لاحقا باسم ما بعد الكولونيالية. ولهذا التوجه أهميته في بلد مثل العراق، فهو منذ أول رصاصة أطلقها الفيصليون مع فجر الثورة العربية يخرج من استعمار ليدخل في غيره، ولا تزال الحداثة الشعرية في العراق مكانا مفضلا للتجاذبات، ويبدو لي الشعر الحديث في العراق أشبه بلوحة تحكّم في جهاز فائق التطور، فهو ضائع بين تراث دون هوية، ونظريات قومية ذات مضمون عرقي وأحيانا مذهبي. وقد امتدت هذه المؤثرات ووصلت إلى الحداثة السورية بنسخها المتعددة، كما تراها عند حسين حموي وسهيل إبراهيم وعمر صبري كتمتو (جزئيا) ومحمد عمران وبقية هذا الرعيل، وربما ضاعف من قوة تبادل المؤثرات تشابك المسارين العراقي والسوري في لبنان من جهة، وبسبب حركة التفريغ والنزوح التي شهدتها فصائل المقاومة الفلسطينية وشعراء الحداثة الطليعية المتأثرين بالنموذج الروسي.
وبودي الإشارة إلى أن الحداثة في بلاد الشام ووادي الرافدين هي طقوسية ولها إيقاع مأساوي، في حين أن حداثة وادي النيل دراماتيكية وسردية، وتدل على تناحر بين المكونات، وربما هو تناحر حضاري نتيجة لتداخل الثقافة المملوكية مع المذهب الفاطمي.

«بدر شاكر السياب في أيامه الأخيرة: ذكريات شخصية» دار جداول. بيروت .111 ص. 2015

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية