الشعر والمكان: «بويب» يتحدّى «النيل»

حجم الخط
0

قد يهون العمر إلا ساعة / وتهون الأرض إلا موضعَا. ما من شعر قرأت ووجدت فيه تلك القدرة على التأثير في النفس، وتلخيص العلاقة بين المكان والزمان وصولا إلى إحياء المشاعر الغامضة بينهما، كما هو الحال مع هذا البيت لأحمد شوقي الذي خلّد المكان «جبل التوباد» وترك الروح في مدار من القلق. عندما شرعت في التفكير بأسئلة العلاقة بين الشعر والمكان، وقفت حائرة بين أمرين، بين أن أتكلم عن حواسي الخاصة كشاعرة في علاقتها بالمكان وتأملاتها الذاتية في هذه العلاقة، ومفهوم المكان في علاقته بالزمان من النواحي النظرية، وهذا عالم ثرٌّ وواسع الأرجاء قارب أسئلته مفكرون ونقاد وعلماء، وهناك منهم من دمج المكان بالزمان، واستخرج الزمكان والزمكانية في المصطلح اللغوي، وفي المراجعات والأفكار والظواهر العلمية، إلا أن أكثر ما ظل يسحرني هو ذلك الميل الشاعري الظاهراتي الذي عبرنا إليه من بوابة غاستون باشلار في كتابه الرائع «جماليات المكان».
أخيرا وجدتني أحسم حيرتي لجهة الشاعرة فيّ، تاركة للأصدقاء النقاد وأصحاب الميل إلى التنظير في حقل علاقة الكتابة بالمكان، ومُيمِمة شطر التأمل، وجهة الأسئلة. هل هناك شيء في الوجود يقع خارج المكان؟ بداهة لا شيء، لا شيء أبدا.. فكيف يكون الحال مع الشعر في علاقته بالمكان، الشعر الذي هو خلاصة الشعور في علاقة الكائن بعالمه، وأكثف ما في حركة الكائن في علاقته بالوجود بصفته مكانا كليا؟ تأمل الأمر من هذه الزاوية يملي علينا أن ننظر إلى الشعر وهو يتخلَّق من أبعد ما تبلغه البصيرة من الآماد وأقصى ما تغامر فيه المشاعر، فالشعر يسكن أعمق المواضع في الوجود.. وهو يطلع بالتالي من روح المكان ليمكنه أن يكون بتلك الكثافة وذلك الشفاف وتلك القوة وذلك التأثير..
«بين المؤنث كمكان والمذكر كحركة خاطفة تعبر المكان يتولد الشعر». هذه الجملة التي كتبها مرة نوري الجراح في محاضرة له تحت عنوان «الهبة الشقية» تعبّر بكثافة عالية عما أفكر فيه الآن حول علاقة الشعر بالمكان. والكيفية التي يتولد فيها الشعر من علاقة استثنائية بالمكان.
من هنا أرى أن الإنصات إلى ما يقع في العالم من حدوث الإنصات إلى غوامض النفس وما يعتمل فيها، الإنصات إلى الذات بمثل هذا الإخلاص للوجود، مكانا ومضاء وتوقعات، إنما هو ما يصنع الشعر، الشعر المؤثر. من ثم لا شعر دون إنصات إلى حوادث الوجود، وجود ما هو في المكان، وقد لا نراه، ما نستدل به عبر الشعور على المكان الذي يحيا فجأة وعلى نحو بارع، على نحو خلاق، على نحو لا سابق له إلا في قصائدنا.

هنا عليّ أن أعترف، وقد يخالفني البعض، بأن أقل القصائد شأنا هي القصائد التي تسمّي أمكنة مشهورة، أمكنة مضاءة، أمكنة لها ثقلها التاريخي، من باب استدعائها أو تجسيدها، أو حتى من باب الاختباء وراءها لقول شيء آخر.. في كل هذه الحالات الشعر أسير قوة الأسماء، وأسير التواريخ والذاكرات، بينما «الشعر الخلاق هو الشعر الذي خرج من حطام الذاكرة» على حدّ تعبير نوري الجراح في نص آخر له تحت عنوان «الشعر والحدث». الشعر الذي يجسد ما سوف يبدو خلقا جديدا حتى عندما يكون استدعاء.. فلنتذكر هنا «جيكور» بدر شاكر السياب القرية الصغيرة المجهولة أو «بويب» النهر الصغير الذي لم يكن موجودا في أي تاريخ، أو معجم أو جدول قبل أن يكتب السياب قصيدته الرائعة «النهر والموت» ولنتذكر «السلمية» البلدة السورية الأخرى، لاسيما حلب ودمشق عندما كتب محمد الماغوط قصيدته عنها ليقول إنها «آخر دمعة ذرفها الرومان على مستعمراتهم الضائعة». أو «جميلةٌ عيون النساء في باب توما» وهو مكان في دمشق الشام. هنا الشعر يخلق المكان، يبني علاقة تبث في المكان روحا جديدةً. إنها روح الشعر العظيمة. بينما يلجأ شعراء آخرون إلى الاتكاء على الأمكنة المشهورة، الأمكنة الكبرى، الأمكنة ذات السطوة، ليمتلك شعرهم السطوة ويطل على القارئ من علٍ.. لنتذكر هنا القصائد التي أطلت بفخامة اللفظ والأسماء الكبرى، وبينها الأسماء المقدسة، كالقدس، وحيفا، ويافا، ودمشق، ومكة، وبيروت، وبابل، وصولا إلى لندن، وباريس، ونيويورك، إلخ.. من الأمكنة العليا المتسيدة.. حتى عندما يكون الشعر من موقع المناكف أو المواجه، أو المضاد. بيروت نزار قباني، قدس يوسف الخطيب، نيويورك أدونيس، وهكذا..
هنا مع هذه النماذج لا فضل للشعر في اقتحام الوجود وخلق الأمكنة، يشتغل الشعر وصّافا، أو لاعبا، أو رسام خرائط وعلامات.. وغالبا ما يتحدد مصير هذا الشعر وفقا لأولويات الزمان ومواضعاته وأفعاله بالأشياء فقد يكرّس الشعر وقد يمحوه.. وهكذا..
هنا، في هذه الصيغة، يحدّد الزمان مصير الشعر، وفي الصيغة الأولى يتفوق الشعر على الزمن. فالشعر في علاقته الجمالية الحرة مع الأمكنة المهمشة، البعيدة، المقصاة، المجهولة، الحميمة، والمستضعفة مرات.. هذه العلاقة تلعب دورا كبير الأثر في توليد شعر جديد وبناء علاقة بين الشاعر والمكان خلاقة ومبدعة. بين النص الذي أكتبه والنصوص التي أقرأها لشاعرات وشعراء أحب أعمالهم هناك خيط يربط بين كل هذا، إنه الزمان المشترك عندما يكون الشعر معاصرا والأمكنة المختلفة التي صدرت عنها القصائد.. وأقصد بالمكان هنا الجغرافيا الجغرافية والجغرافيا الإنسانية، حيث البيئة والمحيط. كأن تكون القصيدة مثلا لمحمود درويش المنفي في باريس الثمانينيات والتسعينيات التي كانت منفاه لعقد من الزمن، أو لأدونيس الذي يتجول في العالم انطلاقا من باريس، أو قاسم حدّاد ابن المحرق المقيم في البحرين لا يبارحها، إلا ليجد نفسه عائدا إليها، أو لنوري الجراح المقيم في لندن وهي منفاه الاختياري، أو لعباس بيضون الذي يقيم في بيروت ويتنقل بينها وبين صيدا.. أو لسركون بولص المنقطع عن العالم العربي وزمنه وحيثياته.

كتبت الشعر انطلاقا من علاقة مع الكتابة والقراءة والشعر والنقد والأدب عموما تطورت عبر الأمكنة.. كانت البحرين البيئة الأولى لي، وكانت في أواخر الثمانينيات بيئة مولعة بكل ما هو جديد في الأدب، بيئة بريئة في استقبالها كل ما هو ثوري وخلاق وله صلة بالقلب.. أتذكر ديوان قاسم حداد «قلب الحب».. قاسم لعب دورا مهما في تكريس تقاليد لكتابة وتذوق واستقبال واحتضان الشعر الجديد في البحرين. درست في البحرين، والقاهرة، وعشت في القاهرة والمنامة قبل أن أنتقل لأعيش في دبي.. ثلاث بيئات مختلفة وعلاقات متباينة ومتعددة الأوجه والاختلافات بين الكتابة والمكان، والكتابة والعالم، والشعراء والنصوص والقرّاء والكتابة.. ولّدت لديّ أسئل جديدة، لكن منذ منتصف التسعينيات وحتى اليوم تغيّرت علاقة الشعر بالمكان، أكان هذا المكان واقعيا أو مجازيا، حلميا أو أرضيا، وتغيّرت علاقة الشاعرات والشعراء بعوالمهم.. ظهرت الإنترنت وولدت أمكنة جديدة، أمكنة افتراضية.. اهتز المكان الواقعي، وولد العالم الافتراضي مذ دخل الشعر الإنترنت وقبلا مذ فتحت طاقة القدر الجديدة هذه، ولدت مجتمعات المواقع الشعرية والأدبية والمحادثات والوشوشات، والصداقات الكاسحة عبر الإنترنت، والشعر يتغيّر، والحواس تتغيّر، شيء جديد يولد، خبرات جديدة افتراضات جديدة، انفتحنا تدريجيا، لكن بسرعة مذهلة، مشوشة، تحمل على سوء الفهم والالتباسات، والأوهام والخرافات عبر الفانتازيات المختلفة التي تداهمنا.. صارت للشعر أمكنة جديدة.. الشعراء المكرسون، الشعراء الرصينون بمقاييس العمر والتجربة ربما ما زالوا غير قادرين على فهم ما جرى ويجري للشعراء الشبان عبر الإنترنت، وبالتالي ما سيجري للشعر في مستقبله، وفي أمكنته المفترضة غدا عبر شبكة العوالم الافتراضية. علينا أن ننصت إلى المستقبل، وعلينا أن نغامر جهة المستقبل.. علينا أن نخترق أمكنة المستقبل. هذا شأن الشعر والشعراء إنهم برومثويات تسرق النار من جهة إلى جهة لتضيء العالم. الشعراء لا يخافون وإلا فهم ليسوا موجودين، المغامرة والجرأة في اقتحام المجهول من خصال الشعراء.. والشاعرات طبعاً!
أعود إلى ذاتي لأتذكر أنني كتبت قصائدي سواء أكنت في البحرين أو في دبي أو في القاهرة، كتبت في أمكنة وأزمنة محدّدة، كنت خلالها منفتحة على العالم بصفته مكانا كليا.. فمن حيث جلست مرة في شرفة وكتبت مثلا قصيدتي (الضَّوءُ الـمُدَمّي) لم يكن في وسعي أن أفعل لولا أنني ذبت في الوجود بصفته مكانا كليا، لولا أن الحواس والمشاعر والرغبات الأولى التي انتابتني صارت أجنحة حملتني ونهضت بي من شرفتي الشخصية في ذلك المكان، من دبي المدينة على البحر، من مكان أوسع يسمونه الخليج ولا يتصور كثيرون أن فيه شيئا آخر غير النفط والتجارة به، لأعرج من تلك الشرفة الخليجية وأتوارى أنا وأشيائي في سر الوجود، على ميل منه.. ولتكون لي كلماتي التي بها رأيت العالم ورأيت نفسي في ذلك العالم: إنه المكان الحلمي.. لكن كل مكان حلمي كل مكانٍ غير مطروق قبلا لا بد أن يحمل شيئا من علامات وخصائص وصور ما رأيناه من عالم خبرناه.. هو عالمنا الواقعي.
«ألْمحكَ في الأمكنة العاشقةِ/وطنا غائبا/وفي لحظة البنفسجِ المشرّعةِ على دَهشةِ القرى». في قصيدتي، أعني في قصائد عديدة لي، ربما كل شعري حتى الآن، هناك ما يقع لي في المكان، وما يؤول إلى القصيدة كبنيان من الكلمات ومنظومة حواس ومخزن للصور وعمل الخيال. لا بد أن أتخيَّل هنا أن المكان في الشعر يصعب تمييزه، يصعب تخليصه مما يشتبك معه، لكونه خليطًا مما حدث ويحدث ويتوقع أن يحدث عبر الذاكرة والمخيلة والكلمات، إنه أرض المغامرة في المدى المتخيّل، وما المتخيّل فضاءٌ مكانٌ. ترى ما دور الأمكنة المختلفة في بناء خصوصية النص الشعري؟ لاأعتقد أن هناك جوابا نهائيا لسؤالي هذا لأن الشعر ينفتح على الأسئلة أكثر من الأجوبة، فكل جواب وصول وكل وصول يعني النهاية.

شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية