مفاجأة مزدوجة

للمرة الأولى صنعنا مفاجأة للجنة جائزة نوبل للأدب هذا العام بالكف عن طرح اسم أدونيس في بورصة التكهنات!
لم نعلن حيثيات التخلي، وتركنا اللجنة حائرة لا تعرف هل فعلنا ذلك يأسًا من زيارة ثانية للجائزة العجوز، أم تخليًا عن مرشحنا أم لأن من يصلى نار الحرب الحامية لا يفكر بالأدب؟
على أية حال، هي محض مفاجأة واحدة، بينما تفاجئنا اللجنة كل عام بفوز كاتب لم نتوقعه، وبالأحرى كاتب لا نعرفه. وبعد أن نرسم علامات الدهشة نتسابق للبحث عن نص ولو صغير يعرفنا بالمتوج المجهول، ثم نعبر الأمر دون أن نشعر بأن لدينا مشكلة ثقافية تتعلق بعشوائية الترجمة وقصورها، على الرغم من كثرة دور النشر وتعدد مؤسسات الترجمة العربية.
لو راجعنا أسماء الفائزين في العشرين سنة الماضية فلن نجد بينهم أكثر من أربعة أو خمسة كتاب قرأناهم بالعربية قبل فوزهم بنوبل؛ غونترغراس، هارولد بنتر، دوريس ليسنغ، لوكليزيو، وماريو بارغاس يوسا، وربما يورهان باموق، وغير هؤلاء كنا نفاجأ باسم الفائز، وأحيانًا نتسرع في الامتعاض: من هذه النمساوية يلينيك، أو من هذا الصيني مويان؟!
ولكننا نكتشف غالبًا أن نوبل لا تمزح، وأنها تستحق مكانتها العالية بين الجوائز الأدبية لأنها لم تصنع تلك المكانة بالعراقة أو بضخامة قيمتها المالية فحسب، بل بسبب تحريها العدالة. تخطىء أحيانًا وأحيانًا تميل ـ ومن منا لا يخطىء ومن لا يصيبه الهوى؟! ـ لكنها لا تختار من الرائج ولا تمشي وراء ذوق القراء الذين يجتمعون على الضلال غالبًا.
في العام الماضي، عندما فاز مويان، كانت دهشة العرب كبيرة، لكن القلة التي تقرأ بلغات أخرى كانت تعرف الرجل جيدًا، وتعرف أن اختياره جاء أكثر توفيقًا من اختيار المنشق جاو كينغيجيان عام 2000، لأن مويان الذي اختار البقاء في بلاده استطاع أن يصنع أدبًا عظيمًا يواجه القمع والفساد بفنية الموهبة الفذة.
هذا العام فاجأتنا الجائزة مجددًا باختيار القاصة الكندية أليس مونرو، وربما يكون زكريا تامر وسعيد الكفراوي أسعد عربيين بهذا الفوز، فقد سكبا حياتيهما في القصة القصيرة، الفن الرهيف الذي ضيعته ثقافتنا مع الشعر وأنصفته لجنة نوبل أخيرًا، بعض أن ضيعت مرشحنا العربي الجدير يوسف إدريس.
في تكهنات ما قبل الفوز كانت الأنظار تتجه بقوة نحو هاروكي موراكامي المترجم عربيًا بإفراط، بينما ورد اسم مونرو، الموصوفة بـ ‘تشيخوف كندا’ على استحياء لكنها فازت، لتضاف إلى قائمة طويلة من الفائزين المجهولين عربيًا.
ليس لمنرو في العربية سوى مجموعة قصصية واحدة صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، ومن يعرف أجر الترجمة في هذه الهيئة الحكومية يعرف أن هذه المصادفة الحسنة لم تأت إلا بسبب الولع الخاص للدكتور أحمد الشيمي مترجم المجموعة.
وسواء كانت الترجمة شبه مجانية، كما في هيئات النشر الحكومية أو شبه مدفوعة كما في دور النشر الخاصة أو مأجورة جيدًا كما في مؤسسات ومشروعات الترجمة الغنية؛ فمعرفتنا بالفكر والإبداع العالميين تتوقف على مصادفات اختيار المترجم الفرد ومدى قدرته الشخصية على الإحاطة بما يصدر في هذه اللغة الأجنبية أو تلك، ولذلك تسقط أسماء مهمة في الإبداع وتسقط موضوعات في الفكر، أو تتحول بعض الأسماء إلى موضة، لأن دور النشر تحب ما جربت رواجه من قبل ولا تريد المغامرة بطرح الجديد باستمرار.
وليس من اللائق بثقافة تبتغي الحياة أن تعلق اتصالها بثقافات العالم على المصادفات.
وإذا افترضنا أن التنسيق بين مؤسسات الترجمة العربية مستحيل ـ وهو ليس كذلك ـ فيكفي أن تتواضع مؤسسات الترجمة وتحدد مجال اهتماماتها في أحد حقول المعرفة، بحيث يمكنها الإحاطة جيدًا بأهم الأعمال المطلوبة ترجمتها في إطار تخصصها، لكن مؤسسات الترجمة العربية تفتح قوسًا واسعًا من الروايات الأكثر مبيعًا إلى الفلسفة، مرورًا بالشعر والخيال العلمي.
وسواء تعلقت هذه السياسة باتساع الطموح أو عشوائية الرؤية والتوجه، فإننا في النهاية لا نستطيع الاطمئنان إلى أن ما نترجمه هو أهم ما يجب أن نقرأه في هذا الحقل المعرفي أو ذاك.
وما يقال عن طموحات ورؤية المؤسسات ينسحب كذلك على طموحات ورؤية المترجمين الأفراد، إذ يتصور البعض أن إتقانه للغة أجنبية يكفيه لكي يكون مترجمًا، كما يتصدى بعض المترجمين لأنواع مختلفة من الكتب، فيكسبوننا إلى جانب القصور في الاختيار قصورًا في توصيل ما تم اختياره!
ربما تشذ عن هذه السنة غير الحسنة المنظمة العربية للترجمة التي تحصر اهتماماتها في الدراسات الإنسانية والفلسفة وتختار مترجمين من أهل الاختصاص، لكن مؤسسة واحدة لا تصنع ربيعًا ثقافيًا. وليست مفاجآت نوبل السنوية إلا دليلاً على عيب ثقافي لا نريد أن نراه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول eng.Gamal Abdel Nasser:

    it is a very critic article about our cultural misfits…thank you

    1. يقول رءوف مسعد:

      بالفعل اصاب القمحاوي في تقييمه للمنشق الصيني جاو كنيغيجيان .. ومروره ببساطة على اليباباني موروكامي الذي تمت ترجمته ” بإسهال ” عربي . لمس القمحاوي مزاج ” المترجمين ” العرب الشخصي وذائقتهم الخاصة فيما يقدمونه للقراء العرب ..وان كان رحيما بنقده لمؤسسات الترجمة العربية . لكن نوبل في النهاية جائزة ” بشرية ” اي انها بها كل عيوب البشر الخطائين ، وترشيح بعض الاسماء العربية مثل ادونيس ، اعتقد انه كان على سبيل التمنيات لن وضع ادونيس ملنبس في خارطة الابداع ؛ فهو يقدم نفسه كشاعر ومفكر وماتب مقالات ومؤسس لمدرسة في الشعر وله رؤية سياسية فيما يحدث وفيما يجب او لا يجب ان يحدث (!)

إشترك في قائمتنا البريدية