معمارية الاشتغال السردي في رواية «الفسيفسائي»

حجم الخط
0

حينما نقرأ أيّ عنوان نقدي يتعلق بالمعمار الروائي، سوف يخطر على بالنا مباشرة قدرة الروائي على تفعيل خاصية البناء، في نسيج سردي يضم الأحداث والشخصيات والوصف والزمان والمكان… وغيرها من مكونات الاشتغال الروائي، دون إغفال التدخلات الفنية التي تغيّر مسار السرد التقليدي من جهة، وتؤثث السرد بالمحايثات التي تطمئننا بأن انصهار الفن المتداخل في نسيج السرد، يوّلد عالما معماريا، يمتلك تقانات خاصة، ومهيمنات أكثر ارتباطا بتشكيل ذلك النسيج السردي، وبنائه الفكري، لنتوصل إلى يقين بأن السرد الروائي قادر على كتابة الفنون الأخرى، وتوظيف تقاناتها لصالح الإضافات الفنية والمعرفية، التي تزعزع وعي القارئ بالثابت والتقليدي. ومن هذا المنطلق جاء هدف مقالتي التي تسلط الضوء على معمارية الاشتغال الروائي، في رواية اعتمدت في بنائها على التداخل الفني، وهي رواية «الفسيفسائي» للروائي عيسى ناصري. وقد قاد هذا التداخل الفني الرواية إلى معايشة القلق في فضاء السرد المغاير، فهي رواية تخطفنا إلى عالمها من المطلع حتى الاختتام النصّي. إذ تنساب بنا في ثنايا السرد وتفرّعاته، كما قُدّمتْ بالموازي النصي المتعارف عليه (ظهر الغلاف).
بعيدا عن ابتداء الرواية باستهلال ينم عن اشتغال بوليسي، يعرض حكاية محقّقٍ يقرأ رواية عثر فيها أخيرا على فكِّ لغزِ جريمةٍ، ظلّت تؤرّقه ردحا من الزمن، وقريبّا من معمارية الاشتغال السردي في هذه الرواية، وجدت نفسي «أمام روايات مضمّنة ومذكّرات وتقارير صحافيّة وأحلام وتهويمات ورؤى» جمعها الروائي في تشكيل فسيفسائي «من أمكنة وأزمنة متباعدة، ثمّ شرع في ترصيفها قطعة قطعة حتّى تتشابك وتتناغم، لتشكّل جسد رواية «الفسيفسائيّ» ببراعةٍ نادرةٍ في السّرد الحديث». وأخذت أفكّر أيّ مهيمن نصيّ يستحق الكتابة أولا؟ ولماذا أتناول هذا المهيدون غيره؟ وكيف أثبت للقارئ أن هذا المهيمن هو الذي يمنح المقالة أفقا أوسع من غيره؟ وهكذا. ولا أبالغ لو قلت: إنّ كُلّ ما في الرواية من اشتغال يستحق الكتابة، لكن وقع الاختيار على معمارية السرد التي سايرت معمارية اللوحة الفسيفسائية، ابتداء من العنوان وانتهاء بالمرجعيات التي ميّزت الرواية.

معمار العتبات

أولت النظرية النقدية الحديثة – بجميع تفرعاتها- اهتماما بالغا بالعتبات النصية أو النص الموازي: العنوان، الإهداء، التقديم، الهوامش، الملاحق… وغيرها من النصوص التي تحيط بالنص الأدبي (الشعر/ النثر) من أجل فك شيفرات النص، وكشف ما خفي في أعماقه؛ لما لها من فاعلية، تسهم في فهم النص، وتحديد مقاصده الدلالية.

العنوان: (الفسيفسائي)

الفسيفساء فن وحرفة صناعة المكعبات الصغيرة واستعمالها في زخرفة وتزيين الفراغات الأرضية والجدارية عن طريق تثبيتها في البلاط فوق السطوح الناعمة، وتشكيل التصاميم المتنوعة ذات الألوان المختلفة، ويمكن استخدام مواد متنوعة مثل الحجارة والمعادن والزجاج والأصداف وغيرها. يتم توزيع الحبيبات الملونة المصنوعة من تلك المواد بشكل فني ليعبر عن قيم دينية وحضارية وفنية بأسلوب فني مؤثر. وظّف عيسى ناصري في هذه الرواية فن الفسيفساء موضوعا وبناء، وهو يرتّب التشكيلات الفسيفسائية المتنوعة (أمكنة وأزمنة) من أجل معمار روائي متفرد، تمت صياغته عبر ثلاث بنيات سردية رئيسية «تتماشى مع فنّ الفسيفساء، وتقوم على التفكيك والتشظّي والتداخل والتشابك، تم رصفها على أرض مدينة وليلي الأثرية، بوصفها الفضاء الرئيس الذي تتحرّك فيه أغلب الشخصيات، وإليه تتجه أغلب الأحداث» كما قال الروائي في حوار معه. ونستنتج من هذا القول: إن القصدية التي أرادها من العنوان، والعلاقة الاتصالية مع المتن، هي قصدية واعية في الاشتغال الروائي، وقد شكّلت دليلا قاطعا على أن الأدب بمجمل أنواعه لا يعتمد على الموهبة فحسب، وإنما على المهارة الكتابية التي لها دور فاعل في تقديم ما هو مختلف ومتجاوز. فمن هو الفسيفسائي؟ هل هو (تُهامي الإسماعيلي) الذي احترَف صَنعة الفسيفساء؟ هل هو (عيسى ناصري) الذي احترف صنعة الرواية؟ هل هو المعماري الذي يستطيع أن يصنع من اللغة بوصفها الوعاء المادي للنص معمارا فيه من المتعة والتشويق والدهشة والمعرفة، ما يجعل القارئ مشدودا من مفتتح النص حتى إقفاله؟

الروائي عيسى ناصري

أجابت رواية الفسيفسائي على كل الأسئلة التي ذكرتها بوعي تأليفي مختلف. ولم يكن اختيار هذا التشكيل الفني في بنية التعالق الفسيفائي/ السردي لمجرد البعد الجمالي والحضاري لفن الفسيفساء فحسب، وإنما لتحفيز المهارة في محاكاة هذا التعالق في بنية دالة وموحية كما قال الروائي عيسى ناصري في حوار معه: بخصوص العنوان، «الفسيفسائي» نسبة إلى الفسيفساء، يراد به الشخص الممتهن لهذه الحرفة، أو هذا الفن القديم. وما دام فن سرد الرواية ليس في جوهره سوى عملية تجميع غير واقعي لعناصر واقعية، فكتابة الرواية تشبه ترصيفا لحصيات أو مكعبات ملونة. وتخييل رواية يشبه عمل صانع الفسيفساء. وبهذا يكون كل كاتب أو روائي، في هذه الرواية، هو فسيفسائي بشكل من الأشكال. إضافة إلى هذا فالعنوان يمكن أن يحيلنا على شخصيتين في الرواية امتهنتا صنعة الفسيفساء، كلاهما حمل صفة الفسيفسائي، أحدهما (تهامي) احترف الصنعتين؛ الفسيفساء المغربية والكتابة.

المفتتح النصّي

ويطلق على هذا العتبة النصية بدء الكلام، البداية، الاستهلال، المدخل، المفتتح النصّي.. وغيرها من المصطلحات التي شاعت في النظرية النقدية بوصفها البداية المولدة والمهيمنة، فهي ليست إشعاعا أو تثويرا ما للنص، وإنما هي الحاضنة لما يحدث في النص، حسب مفهوم ياسين النصير للاستهلال الذي شبهه بالـ(بيضة المخصبة). ولأن هذه الرواية من الروايات التي وظفت تعدد الأصوات في معمارها الفني، فقد جاءت الاستهلالات الفرعية لكل شخصية من شخوص الروايات الثلاث: (ليالي وليلي) و(الفتى الموري) و(باخوس في العيادة) مسايرة للتداخلات والكشوفات المتعددة لزوايا الرؤية، لتقدم للقارئ مختصرا عن محاورها الكلية، وعن العمق النفسي والاجتماعي لأبطالها وعن التواريخ المتداخلة في لحمة السياق الفني. وقد كثّف عيسى ناصري هذا المستهل في رواية «الفسيفسائي» وجعله صفحتين فقط.

التصدير

للتصدير في الدراسات النقدية الحديثة قصدية تفاعلية، سواء أكانت هذه القصدية شكلية أو دلالية، إذ صار هذا التقليد النصي في الكتابة الروائية بمثابة الطقس المقدس، الذي لا يكاد يغيب عن فضاء أي رواية من الروايات المعاصرة، حتى إنه صار ينظر إلى التصدير على أنه إحدى اللوازم النصية التي لا يكتمل الشكل الخارجي للعمل الروائي إلا به، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لفعاليته الدلالية، بوصفه ملفوظات مهمة في تأويل النص، وأيضا بوصفه أحد مظاهر التحديث والتجريب والتأصيل، الذي تنحو الكتابة العربية المعاصرة إلى تحقيقه، حتى أصبح المقتبس النصي جزءا لا يتجزأ من العمل الروائي، وأولى العلامات النصية المؤسسة لعلاقات حوارية تفاعلية بينها وبين المتن الروائي. ولتوظيف هذه القصدية التفاعلية مسوّغات كثيرة، منها، كأن يكون الغرض منها استشعار المتلقي بانفتاح المؤلِف على الآداب والثقافات العالمية، وقد تكون أبعادها دلالية بحتة، الغرض منها الأخذ بيد القارئ لتوجيه مسار تفاعله مع النص واستيعابه إياه..
لقد جاء التصدير في رواية (ليالي وليلي) بالشكل الآتي:
الأدب هو موهبةُ أن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكاياتنا الخاصّة. (أورهان باموق) / إنّ أصل كلّ عملٍ إبداعيٍّ يكمن في حلم .(جول فيرن) /الأدب مكمّل للتاريخ وليس نقيضه. (جون بوين).
إن المقتبسات التي صدّر بها هذه الرواية الفرعية – إن جازت التسمية – تخص العملية الإبداعية، بوصفها (قوة ضرورية) من أجل التعالق بين القيم الشعورية والقيم التعبيرية بشكل حاذق، وما هذا التصدير إلا رهان على ما ستقدمه الرواية من عوالم متخيّلة، وصنعة متقنة، ولا يتحقق ذلك إلا بحذق الممارسة، وقدرة الدربة على تجاوز المستهلك والقار. وقد فعل ذلك عيسى ناصري في هذا المعمار الخلاق، الذي جمع بين العاطفة والخيال والأسلوب والمعنى جمعا له الحضور الفاعل في روح الرواية. فالشكل الفني للنص الأدبي ليس حلية ولا مجموعة من القوالب، التي يجب على المؤلف اتباعها فحسب، وإنما هو تشخيص لأحاسيس ملتصقة بتجاويف الذات، أعماق الموضوع، وعلى المؤلف أن يواجه العالم والأشياء، وأن يختار عزلته، أو حضوره مع الآخرين.
وجاء التصدير الثاني في رواية (الفتى الموري) بالشكل الآتي:
لا تبحث عن الكلمات، ابحثْ فقط عن الحقيقة والفكرة، عندئذ تتدفّق الكلمات دون أن تسعى إليها. (هوراس)/ المرأة تحبّ بكلّ قلبها والرجل يحبّ بكلّ قوّته (ماركوس أوريليوس)/ انتظرتْ شيوخُ روما ـ تحت قوس النصر ـ قاهرَ الأبطالْ/ ونسوة الرومان بين الزينةِ المُعربدهْ/ ظَللْنَ ينتظرْن مقدم الجنود/ ذوي الرؤوس الأطلسية المجعّدة (أمل دنقل). في هذا التصدير يستمر الروائي في وصف التعبير الكتابي، لا بفصل اللفظ عن الدلالة، بل بالتعالق بينهما، وابتكار صياغة جديدة. بعدها، يأتي إلى تصنيف الحب بين الرجل والمرأة، وكأنه يشير إلى ما سيقدمه الروائي في قابل الرواية من علاقات حب بوصفها علاقات ثنائية بين الإنسان والحياة، إذ وظف السرد الروائي الحب في بنائه المعماري، لا بوصفه قيمة إنسانية كبرى في الحياة فحسب، وإنما بوصفه مجموعة الرؤى التي يقدمها شخوص الرواية عن الحياة في أعمق صورها، والروح التي تبحث عن نفسها، وعن نصفها الآخر، فالسرد الروائي فعل حياتي، يمكن له مقاربة الحب، وطبيعة النفس الإنسانية في مضانه التي تحتفي بما هو إنساني دائمّا.
أما في رواية (باخوس في العيادة) فقد جاء التصدير الثالث بالشكل الآتي: انتشرت عبادة باخوس في أنحاء طيبة، وراحت خالته إينو تتحدّث عمّا يُروَى من جبروت الإله الجديد، وكانت الوحيدة مِن أسرتها التي لم ينلها سوء. ولم يحزنها شيء إلا ما حاق بشقيقاتها. (الشاعر أوفيد)/ الرواية استشفاء خياليّ. (أحمد السباعي)/ أن تموت واقفا خير من أن تعيش تحت الأقدام (فيرجل).
في هذا التصدير الثالث نستشف أن الروائي يسعى إلى خلق حالة متمردة عبر اختيار العناصر الأسطورية للبناء الروائي، لكن الحالة المتمردة هي التي تصنع الإنسان المتمرد وليس العكس، وعلى هذا الأساس لا يحدث التعالق بين الإنسان والحالة، إلا عبر وعي الإنسان بوضعيته في الواقع. وإذا كانت الرواية ـ حسب أحمد السباعي- استشفاء خيالي، فإنها ـ حسب عيسى ناصري- عمل سردي خلاق، يتجاذبه رهانان: رهان المتعة، ورهان الدهشة اعتمادا على المعمار الفني الذي استطاع الروائي توصيله إلى القارئ. وينتهي أخيرا بالمقولة المشهورة التي قالها فيرجل وهو يتحدّى نفسه عبر توجيه الكلام للآخر.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية