مسرحية «رهاب» للمخرج التونسي مؤيد الغزواني: حين يلعب المسرح دوره الطلائعي في إيقاظ المجتمع من سباته

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: لفتت مسرحية «رهاب» للمخرج التونسي مؤيد الغزواني الأنظار في الآونة الأخيرة في أرض الخضراء بفعل أسباب عديدة من بينها المضمون الراقي والهادف لهذا العمل الذي جاء وفيا لمسار متميز للمسرح التونسي تدعم في السنوات الأخيرة بالأعمال الراقية رغم الصعوبات. حيث بدأ هذا المسرح العريق يعود إلى ما عرف به من جدية في إنجاز الأعمال الرائدة والجريئة التي تغوص في أهم القضايا التي تشغل بال المجتمع من دون قيود أو محاذير، وذلك بعد سنوات من طغيان ظاهرة الـ«وان مان شو» أو مسرح الممثل الوحيد الذي أقبل عليه الغث والسمين وتسبب بعض من قدموا أعمالا فيه في انحدار المستوى في وقت ما.

وتعرض مسرحية «رهاب» هذه الأيام في فعاليات ملتقى شكري بلعيد للفنون في دورته السابعة.
و»رهاب» هي مسرحية تراجيدية من إخراج مؤيد الغزواني، وتمثيل كل من مريم بطو وأنس ورفلي وبوبكر غناي ووجدي حداد وغادة رياحي ولؤي بكري وجيهان دقي. وقد صمم الموسيقى أنيس تيساوي، بينما اهتم بالتوظيب الركحي معز الخميري، وأنتج المسرحية مركز الفنون الركحية والدرامية بجندوبة.

عزلة قاتلة

والرهاب كما هو معلوم هو حالة نفسية من القلق والاضطراب والخوف من شيء بعينه أو من عدة أشياء وهو ما يجعل التعاملات اليومية الروتينية للشخص تسبب له قلقا بالغا وارتباكا وشعورا بالحرج، وذلك بسبب الخوف من أن يكون محل مراقبة أو عرضة لحكم سلبي من قبل الآخرين. ويؤدي هذا الشعور بالخوف والقلق المتواصلين إلى انعزال مريض الرهاب، إن صح التعبير، للعالم الخارجي، وهو ما يؤثر سلبا على حياته في جانبها المتعلق بالخصوص بعلاقاته الاجتماعية وأنشطته الروتينية اليومية وعمله ودراسته وغيرها.
وتعاني كل شخصيات هذه المسرحية من الرهاب، ولكل منهم رهابه الذي كشف عنه وأماط عنه اللثام على الركح وأمام الجمهور الذي تحول إلى ضمير هؤلاء الفارين من ظلم المجتمع الذي ينبذ أمثالهم ويقسو عليهم فيتسبب لهم في هذا الرهاب القاتل الذي يحيل حياتهم إلى جحيم بكل ما للكلمة من معنى. لقد اخفوا حقيقتهم عن المجتمع ليتعروا على خشبة المسرح لعلهم يخففون عن أنفسهم بعض الضغط الذي يغتالهم تدريجيا جراء هذا الرهاب أو فوبيا المجتمع الذي لا يرحم عند معرفة الحقيقة الموجعة والألم الدفين في العقل الباطن الذي ضاق بدوره من هذا الحمل الثقيل.
من بين شخصيات هذه المسرحية امرأة هشة وشديدة الحساسية وضعيفة ومنكسرة تتألم بسبب رفض زوجها لها نظرا لبدانة جسمها التي لم تجد لها حلا ففقدت ثقتها بنفسها، وشخص تعرض للاغتصاب وهو في سن مبكرة فلفظته العائلة والمجتمع بالإضافة إلى الجرح الغائر الذي لازمه في عقله ووجدانه وجعله ضحية الوحش الآدمي والوحش المجتمعي معا. ويبدو بأن حارس هذا المكان الذي جمع المصابين بالرهاب يعاني بدوره من الرهاب وكذلك المختصة الاجتماعية، فكل شيء في هذا المكان، الشبيه بالسجن الاختياري أو ربما هو مصحة للعلاج النفسي والاجتماعي، هو رهاب في رهاب ولا يمكن إلا أن يولد الرهاب ويضاعفه.
إنه مكان قصي منعزل عن العالم للمرفوضين والملفوظين ومن اختاروا العزلة القسرية بسبب الرهاب ولا يمكن لزائرهم وحارسهم إلا أن يشاركهم رهابهم وموجاتهم السلبية المنبعثة من ذواتهم المكلومة. وينتقل الإحساس بالرهاب أيضا إلى المشاهد أو كل فرد من الحاضرين بقاعة العرض فيتقمص ذواتهم محاولا سبر أغوار نفوسهم وفهم ألمهم واستيعاب مدى ظلم المجتمع لهم فتصل الرسالة التي أرادها كاتب السيناريو ومخرج العمل.

إخراج مبهر

تطغى على الركح في عروض مسرحية رهاب ألوان بعينها ترمز إلى الحزن واليأس على غرار اللون الأسود، وضيق الأفق والتذبذب والتشتت بين عالمين مثل اللون الرمادي، والجريمة والاعتداء وسفك الدماء على غرار اللون الأحمر. لم يقع الاختيار على هذه الألوان صدفة وإنما وضعت للدلالة على العالم كما يراه المجتمعون في هذا المكان من المصابين برهاب المجتمع، فعالمنا ليس عالمهم وكانت مسرحية «رهاب» فرصة لنرى هذا العالم بعيونهم الغائرة ووجوههم الشاحبة ونفوسهم المنقبضة.
ويزيد الضوء الخافت المنبعث باتجاه الركح، والذي أريد له أن يكون خافتا من قبل فريق العمل، وكذلك الحبال الغليظة التي يربط بها أبطال المسرحية أنفسهم أو التي قيدهم بها المجتمع وطقوسه ونواميسه من شدة قتامة هذا المشهد المؤلم. لقد اختاروا عزلة مخيفة ومميتة وقاتلة بالإمكان أن تستغلها الحركات المختصة في غسل الأدمغة وتوجيهها التوجيه الذي يلبي رغباتها في الارهاب والقتل وسفك الدماء لتحول هؤلاء الضحايا إلى جلادين أشداء لا يرأفون بحال مجتمعهم الذي لفظهم وقسا عليهم ولا حتى ببقية المجتمعات.
كما زادت من قتامة المشهد الموسيقى المصاحبة وألوان ملابس الممثلين التي تميل إلى اللون البني فبدوا وكأنهم عراة أمام جمهور المسرح ليكشفوا له كل شيء بعد أن سئموا من تغطية الحقيقة على المجتمع حتى ضاقت بها صدورهم المثقلة بالهموم ونفوسهم المكلومة. أما حراس السجن، إن جاز اعتبار المكان سجنا، فقد ارتدوا اللون الأحمر للدلالة على تسببهم باسم المجتمع في سفك دماء هؤلاء وغيرهم وقتلهم اجتماعيا وإخراجهم من الملة تماما بسبب «ذنوب» لم يرتكبوها، بل لا ناقة ولا جمل لهم فيها من الأساس.

صفعة للمجتمع

إن «رهاب» هي صفعة للمجتمع الظالم ليستفيق من سباته ويراجع مسألة القيم والأخلاق التي وضعها وسار فيها بدغمائية دون أن يفكر في مراجعتها مع تغير العصور. هي أيضا دعوة لتفكير فلسفي حر في عديد القضايا التي أرقت المجتمع وكتب فيها الكثير وتم الحديث فيها بإطناب في المنابر وكان على جمهور المسرح وأهله أن يقولوا كلمتهم فيها. كيف نحافظ على قيم بالية تجاوزها الزمن والأحداث ونتسبب بسببها في إيذاء بعضنا ونفرخ القنابل الموقوتة ثم نتباكى على ما يلحق بنا لاحقا جراء ظلم وتهميش واحتقار بعضنا البعض.
«رهاب» تجعل المتلقي يصل إلى استنتاج حتمي مفاده أنه أمام مجتمع بصدد الانتحار باعتباره يخلق أدوات سحقه بنفسه ويدق مسامير نعشه بيديه وكأنه يسير إلى حتفه مغمض العينين غير مبال بما حوله. وبالتالي فهي صرخة فزع قبل فوات الأوان، وقبل أن يحصل ما لم يكن في الحسبان، من قال إذن أن رجل المسرح ليس مصلحا أو ليس نبيا في قومه ونبراسا لهم ينير دربهم ليجنبهم المخاطر ويردعهم عن الاستمرار في الإثم؟
ماذا لم قمنا بتغيير قيمنا البالية ونظرنا إلى هؤلاء بعطف واعتبرنا الشرف في الأخذ بيدهم وتضميد جراحهم وليس في نبذهم والتبرؤ منهم واعتبارهم وباء يجلب العار ويستهدف صورة ناصعة أردنا باستمرار إظهارها للعالم. لقد دخلنا في صراع مجاني مع هؤلاء وجعلنا منهم أعداء من دون أن نشعر، بل ونحن نعتقد أننا نحسن صنعا، وبالتالي وضعناهم أمام خيارين، إما أن يقبلوا بالسحق من قبلنا أو يقومون هم بسحقنا.
ولا يعتقد المتمعن في هذه المسرحية أن العنوان وضع صدفة، فهناك تشابه من حيث الحروف بين الرهاب والارهاب، فقد مارس المجتمع ارهابه على هؤلاء حتى أصابهم بالرهاب، وقد يتم اللعب بعقول بعضهم فيتحولون من حالة الرهاب إلى حالة الارهاب لمجتمع لفظهم. كان بامكان من أنجزوا العمل أن يختاروا له عنوانا آخر على غرار «فوبيا المجتمع» مثلا لكنهم ذهبوا عن قصد على ما يبدو إلى الرهاب ليس فقط للتشابه في الحروف مع كلمة ارهاب وإنما للعلاقة السببية بين الكلمتين، فالارهاب ينتج الرهاب والأخير يمكنه إعادة إنتاج الارهاب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية