مستقبل تونس في الاستئناف الليبرالي للرشد البورقيبي

طيلة عام بعد الثورة الشعبية في تونس، لم أكن أعتقد أن هنالك أي معنى سياسي تطبيقي يمكن أن يستفاد من إنشاء حزب ذي مرجعية بورقيبية ‘دستورية’ (نسبة إلى الحزب الحر الدستوري الذي قاد الكفاح الوطني وشيد دولة الاستقلال). لسببين. أولا، لأن استلهام الفكر البورقيبي، لكونه أرشد المرجعيات السياسية المعاصرة وأقومها ليس في تونس لوحدها بل في كامل الوطن العربي، لم يكن يستلزم بالضرورة إضافة حزب آخر لجحافل الأحزاب. ذلك أن الفكر البورقيبي مشاع بين التونسيين باعتباره المكون الأكبر، بل الشارط، للثقافة السياسية لدى معظمهم نخبة وجمهورا. ثانيا، لأن مسألة استلهام المرجعيات والسرديات الكبرى إنما تقع في الصميم من إشكالية التوازن الصعب بين المحافظة والتجاوز، أو ما سماه المفكر عبد الله العروي بإشكالية التوتر بين الوفاء والإبداع.
ولكن الوضع العام في تونس تغير منذ أن أصبحت مكتسبات العصر (أو الحداثة، كما يقال) مهددة بفعل بروز قوى غريبة على الجغرافيا المجتمعية التونسية – قوى موقنة بأن الله قد أودع سر السعادة الدنيوية في أسلوب الحياة، ‘لايف ستايل’، الأفغاني (الطالباني تحديدا). كما تغير الوضع السياسي منذ أن ظهر العام الماضي حزب ‘نداء تونس’ الزاعم، باطلا، أنه ذو مرجعية بورقيبية رغم أنه مجرد إعادة تجميع لحزب ‘التجمع’ السيىء الذكر حيا وميتا، مع أن فيه بعض العناصر اليسارية ومع أن زعيمه السيد الباجي قائد السبسي دستوري أصيل. ومما زاد الصورة تشويشا أن هنالك منذ منتصف الشهر الماضي حزبا آخر يزعم نفسه بورقيبيا هو ‘الجبهة الدستورية’ الذي تحالفت في إطاره ستة أحزاب صغيرة. ومن أبرز قادته السيدان كمال مرجان ومحمد جغام اللذان كانا وزيرين في العهد السابق، وكلاهما مشهود لهما بالكفاءة والاستقامة.
ولكن هذين الحزبين لا يريان، في سبيل المصلحة، غضاضة في التفاهم، بل التحالف، مع حزب ‘النهضة’ الإسلاموي الحاكم الذي تنافي إيديولوجيته معظم ما استقرت عليه تونس المعاصرة من منجزات البورقيبية فكرا وعملا! إذ إن هنالك بين ‘نداء تونس’ و’النهضة’ مغازلات غير معلنة قد تشمل الدخول في ائتلاف حكومي بعد الانتخابات القادمة وقد تشمل تزكية السيد قائد السبسي رئيسا للدولة. أما ‘الجبهة الدستورية’، فإنها قد كفت الجميع عناء الاستفهام بفضل سرعتها في ‘إعلانها لألوانها’، مثلما يقول التعبير الفرنسي. حيث أنها انفردت، دون بقية المعارضة، بالتصويت لصالح حكومة السيد علي العريض، رغم أن هذه أعادت إنتاج الشروط الموضوعية لفشل الحكومة السابقة.
عند هذا الحد، تتبين ضرورة بروز حزب دستوري حقيقي غير مهادن فكريا وغير متواطىء سياسيا. ولهذا فإن انصهار سبعة أحزاب في صلب ‘حركة الدستوريين الأحرار’، التي أعلن عنها الأستاذ عمر صحابو الاثنين الماضي، قد أتى ليحسم نهائيا قضية جدارة الانتماء للبورقيبية، خصوصا أن بين أعضائه شخصيات معتبرة مثل الأستاذ الجليل مصطفى الفيلالي والسيدين محمد الناصر ورشيد صفر. صحيح أن الاختبار الحقيقي هو في مدى النجاح في ترجمة تراث العقلانية الدستورية إلى لغة العصر الديمقراطي. ولكن الصحيح أيضا، بإطلاق، أن تأمين أفضل مستقبل ممكن لتونس سيبقى مشروطا بتوسيع قاعدة العمل على إعادة الإنتاج الليبرالي للرشد السياسي الذي يمتاز به الفكر البورقيبي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول salh7@:

    لقد فشلت العلمانية التي فرضها بورقيبة وبن علي على الشعب التونسي ولم يجني منها سوى الفقر والضياع والتخلف والانتحار ولهذا ثار عليها، ثورات الربيع العربي هي ثورات ضد العلمانية التي فرضتها الأنظمة القمعية على الشعوب

  2. يقول Tounsi:

    هذا تحليل واقعي للوضع في تونس مع انه اهمل الاحزاب الوسطية مثل الجمهوري, التحالف الديمقراطي وحتى التكتل التي يمكن ان تمثل صمام امان لتونس. النهضة ونداء يمثلان خطرا محدقا بالبلاد لان النهضة تعيد بناء ديكتاتوية التجمع مع مسحة تدين متشدد في حين ان نداء تونس يكرر انتاج حكم الفرد فالسبسي اعلن ترشحه للرئاسة دون التحاور داخل الحزب ومع الشركاء وفي هذا اعادة لاخفاق بورقيبة في التاسيس لنظام ديمقراطي. ثار الشباب لتحقيق الشغل, الحرية والعدالة بين المناطق والطبقات ولم يثر من اجل هوية او دين او ضد العلمانية كما يدعي انصار النهضة والسلفيون ولم يثر لتكرار اخطاء بورقيبة. الاحزاب الوسطية هي الحل.

  3. يقول الهادي المزوغي:

    تناول الطفو في هذه الآونة بالذات على السطح السياسي في تونس الرؤية البورقيبية في بناء الدولة تمثل بالفعل اشكالية حقيقية و عيوبها في الواقع هو تشرذمها .في تكوينها في تنظيمات حزبية كثيرة و المقاربة التي صاغها مالك التريكي في مقالته هذه وجيهة و بالرغم من أن الكاتب انتقد بشدة “نداء تونس” على اساس أنه توليد جديد من المخاض السياسي الراهن للتجمع المنحل و في تقديري أن القيادات التي تمسك الأعنة فيه هي من كل حد وصوب نقابية و حقوقيية و مستقلة و من أحزاب معارضة ولا يتيسربسهولة اعتبار السبسي تجمعيا بالمعنى الدقيق للعبارة وهي التهمة التي تمسكت بها النهضة واستخدمتها لإقصاء خصومها من اللعبة الانتخابية ..و العجيب في الأمر من هذه الزاوية ان عددا لا يستهان به من الأطياف السياسية ترجح وجود طبخة سياسية بين حزب النهضة والنداء يمكن أن يرى النور في المدة القادمة ..ومن جانب آخر يبقى الشرخ الذي يقسم بالتتشديد على السين البلاد هو بين الطرح الحداثي و الطرح الديني بمختلف أطيافه من المتشددين إلى المعتدلين و الأغلبية فيه للسلفيين من النهضة أو غيرها الذين يتلقون العون الكريم و السخي من الدولة الوهابية في السعودية و التشجيع من قطر السياسي و المالي .ماهو نصيب الطرح البورقيبة في هذا الخضم الملتهب الذي تدافع أجيال كثيرمنها هم من الكهول و الشيوخ ولا علم للشباب الذي ترعرع في عهد الدرسة التي وضع التجمع برامجها الجوفاء و نشر فيها الفساد المالي والإداري
    و سوء التدبير البيداغوجي و انهيار قيمة الشهائد ..ماذ يمكن أن يفعل زعماء الدستور في معالجة الأزمة المستفحلة .

  4. يقول عادل دمق:

    ”صحيح أن الاختبار الحقيقي هو في مدى النجاح في ترجمة تراث العقلانية الدستورية إلى لغة العصر الديمقراطي. ولكن الصحيح أيضا، بإطلاق، أن تأمين أفضل مستقبل ممكن لتونس سيبقى مشروطا بتوسيع قاعدة العمل على إعادة الإنتاج الليبرالي للرشد السياسي الذي يمتاز به الفكر البورقيبي.”’ انتهى
    يبدو ان السيد مالك ينلك الية عجيبة ترى ما لا يدركه الخلق ‘ أين الرشد البورقيبي ؟؟

  5. يقول مفتاح دليوح:

    احتفظ بالوصفة الليبرالية العلمانية لك ، نريد فكرا صادرا عن هويتنا ناظرا إلى تجارب كل أمم الله ،لا يحارب فطرته ولا يناقض سننه

إشترك في قائمتنا البريدية