«مستقبل الحرب»: تاريخ أدبي لتنبؤ الفظاعات!

قدمت مجلة بريطانية تدعى «أسود وأبيض» رواية خيالية في عام 1891 عن حرب عظمى مقبلة. تخيل الكاتب اشتعال الحرب بسبب محاولة اغتيال أمير (وهو ما حصل فعلا باغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند على يد طالب بوسني صربي) وفي ذلك العمل تحالفت بريطانيا مع ألمانيا ضد روسيا وفرنسا (وهو ما حصل عكسه طبعا في الحرب العالمية الأولى).
بعد ذلك بثلاث سنوات كتب الصحافي وليم لي كوينكس كتابا عن حرب عظمى ضد إنكلترا تبدأ عام 1897 باجتياح فرنسي وروسي. خلفية القصة كان النزاع بين بريطانيا وفرنسا على مستعمرات شمال افريقيا، وعندما أعاد لي كوينكس كتابة الحلقات في سنة 1910 كان الألمان هم الأعداء على خلفية نشوب سباق تسلح بينهما. وكان تنبؤه عن دور الجاسوسية في الحرب، أحد أسباب إنشاء جهاز الخدمة السرية (المخابرات الخارجية) البريطانية. نجح الكتاب الذي يتنبأ بمستقبل الحرب نجاحا كبيرا وترجم إلى 27 لغة، كما أدى إلى موجة كراهية للألمان!
يتابع الروائي البريطاني هـ. جي. ويلز هذا الاتجاه ليصبح أكثر الكتاب تأثيرا في موضوع مستقبل الحرب في عصره. كان المانيفستو الذي صدر له عام 1902 عن «أثر التطورات العلمية والميكانيكية على الحياة الإنسانية والفكر» إلى اعتباره لنفسه المؤسس الأول لعلم المستقبل. تضمن المانيفستو فصلا عن «الحرب في القرن العشرين» وقد تنبأ فيه بظهور الدبابة، كما توقع دور الطائرات، لكنه لم يأخذ اختراع الغواصة بجدية.

المليون قتيل يمكن احتسابهم أيضا!

كان ويلز اشتراكي الاتجاه، وعليه فقد رأى أن مشاكل العالم، كانت نتيجة لرفض الأمم قبول «التطور المشترك» و»التوحد المنطقي» في حكومة عالمية. كانت الأمم منغمسة في الدفاع عن مصالحها القومية وفي شكوكها بالدول القومية الأخرى، بحيث ما كانت قادرة على تقبل حكمة التعاون والاتحاد. سياسات هذه الأمم أنتجت حاجة غريزية للعنف والانتقام حالما تؤدي هشاشة النزاعات بين الحضارات والسلام إلى الانكسار. دون الاشتراكية وحكومة عالمية، حسب أطروحته، سيكون هناك دمار عالمي شامل.
تتصادى أفكار ويلز مع أفكار معاصره فيكتور هوغو، الذي قال خلال خطاب له في مؤتمر السلام الدولي الثاني عام 1894، إنه سيأتي يوم تستبدل الطلقات والقذائف بالتصويت، وبانتخابات الأمم، وستحل الخلافات عبر تصويت مجلس شيوخ سيادي محترم، أما الروائي الإنكليزي ـ البولندي الأصل، جوزيف كونراد فكتب رسالة عام 1905، مليئة بالتشاؤم بالمستقبل وبسياسات زعماء الإمبراطوريات والملوك والرؤساء في أوروبا.
على الضفة الأخرى من الأطلسي، وتعليقا على الحرب الأهلية الأمريكية، كان الشاعر والت ويتمان قد كتب قبل هؤلاء جميعا مقالة تحت عنوان «المليون قتيل، يمكن احتسابهم أيضا» قال فيها: سنوات المستقبل لن تعلم بالجحيم الملتهب والخلفيات الجحيمية السوداء لمشاهد صغيرة لا تحصى للدواخل، (لا المظاهر الرسمية اللبقة للجنرالات، وليس للمعارك العظيمة القليلة، ومن الأفضل ألا تعلم ـ الحرب الحقيقية لن تذكر في الكتب). طبعت الحروب التي شنّها نابوليون في القارة الأوروبية وخارجها، وبعدها حرب ولايات الاتحاد الألماني (بروسيا) مع فرنسا في العامين 1870-1871 نظريات الحرب اللاحقة (التي صار كارل كلاوزفيتز كاتب «عن الحرب» أحد منظريها الكبار) كما أعطت دفعة لأدب التنبؤ بالحروب.

المقالة التي ألهمت الحرب العالمية!

لم تكن مصادفة أن ينشر جورج تومكنز تشيسني مقالة تخييلية عن حرب مقبلة. انتشرت بسرعة وطبعت منها 80 ألف نسخة ككتيب وأشعلت النقاش حول استعدادات بريطانيا للحرب. يقوم هذا النوع الكتابي على إثارة أشكال القلق، وتأجيج النزعة الوطنية، ووصف الإبداعات العسكرية، وتقييم الاستعدادات. لقد صممت الكتابة عن مستقبل الحرب لإظهار ماذا يمكن أن يحصل إذا فشلت الحكومات في فهم رسالة الكاتب والتصرف على أساسها. كانت المقالة إنتاجا لنوع أدبي جديد، ما أدى لنتائج هائلة داخل بريطانيا وخارجها ساعدت في نشوب الحرب العالمية الأولى!
استخلص جيش بروسيا بعد معركة سيدان على الفرنسيين، وما تبعها من مقاومة شعبية واندلاع كومونة باريس، درسان، الأول، هو أن استراتيجية جيدة ممكن أن تقدم دليلا لنصر سريع في حرب اعتيادية. والثاني: إذا لم تتخذ خطوات لا رحمة فيها ضد مقاومة غير تقليدية لأمة مهزومة، فإن ذلك النصر سيفشل. سينسحب هذان الدرسان على مجمل الحروب اللاحقة، التقليدية والأهلية، لكن العالم الإسلامي، بعد هجمات 2001، كان حقل القتال الأكبر، ومناط تطبيق تقاليد السياسات الوحشية التي كانت ذروتها قصف أمريكا لمدينتين يابانيتين بالقنبلة الذرية، مرورا بمذابح غروزني في الشيشان والتطهير العرقي في البوسنة، واجتياح أمريكا ودول الناتو لأفغانستان والعراق، وصولا إلى سوريا بعد عام 2011 وفلسطين حاليا.

حرق قرى العرب يثير إعجابهم!

تطورت نظرية ضرورة التعامل الوحشي مع البشر خلال حملات السيطرة الكولونيالية في القرن التاسع عشر، وفي الحرب الأهلية الأمريكية، وحصل الاستخدام الأول للقوة الجوية الغربية خلال التعامل مع الانتفاضات الأهلية (أول قنبلة أسقطت من الجو كان خلال حرب إيطاليا للسيطرة على ليبيا عام 1911).
استخدم الطيران بدوره ضد المدنيين في العراق عام 1920. كانت الاستراتيجية هي اختيار قرية يصعب الوصول إليها وتسكنها أهم القبائل المقاومة، التي «تستحق العقاب». كان القصد من الهجمات الدموية على الناس، البيوت، وقطعان الماشية، حسب الأدبيات العسكرية البريطانية من تلك الفترة، هو «تعليمهم درسا». حسب مسودة دليل «استخدام سلاح الجو في العراق» يمكن خلال 45 دقيقة تدمير قرية وقتل وجرح ثلث ساكنيها، باستخدام أربع او خمس رشاشات من طائرة.
كان حرق القرى هو أسلوب القائد العسكري البريطاني سير أيلمر هالدين، المسؤول في تلك الحقبة، وهناك تصريح له يقول إن العقاب القاسي وحده يثير إعجاب العرب.
بعد حقبة العراق وأفغانستان خلصت فيها الديمقراطيات الغربية، إلى أن السياسات الوحشية التي استخدمتها كانت غير إنسانية و»غير ناجحة» وحسب دليل اعتمدته القيادة العسكرية الأمريكية فإنه «إذا كان الهدف المطلوب هو سيطرة طويلة الأمد فإن البربرية سترتد علينا بشكل حتمي» لكن هذه الاستنتاجات لقيت رفضا واسعا، ورغم العلم أن الاستراتيجيات التقليدية مناهضة للقوانين الإنسانية فإن الأطروحات التقليدية عن أن «التعامل الأمثل مع عصيان مجتمع هو بجعل حيوات أفراده بائسة إلى أن يسلس القياد» عادت للرواج.
أحد أركان هذه الأطروحات يعتمد على «نجاحات» روسيا في غروزني، بل وكذلك «انتصارات» بشار الأسد على السوريين، ويستشهد كتاب «مستقبل الحرب: تاريخ» للورنس فريدمان، بمقال لمارك غاليوتي يصف التكتيكات التي استخدمها الأسد ضد السكان المعارضين بـ»فن القيام بأكبر فظاعة ممكنة» غير أن بحوثا أخرى، لجاسون ليال، الذي شرح كيف أدى القصف المنهجي للشيشان الى انفضاض الأهالي عن المقاومين ولانقسامات بينهم، وكذلك بحث لسليمانوف وسيروكوي يشرح أسباب نجاح روسيا في الشيشان وسوريا.
لم يتطرق الكتاب للفلسطينيين، إلا بطريقة تربطهم، في الأعمال الأدبية التي انتشرت موجتها بعد هجمات أيلول/سبتمبر في نيويورك، لكن مجمل الإشكاليات التي يناقشها تصبّ عمليا في تحليل ما يحصل في غزة حاليا.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية