في أن اجتثاث المقدس هو نهاية للبشرية!

افتتن تشي غيفارا، خلال زيارته مع فيديل كاسترو إلى الجزائر عام 1964، بمقالة كتبها شاب فرنسيّ يدعى ريجيس دوبريه عن الماركسية اللينينية. ترجم تشي المادة لكاسترو الذي أعجب بها وطلب من دوبريه أن يصبح مستشارا له (سيصبح لاحقا مستشارا للزعيم التشيلي سلفادور الليندي وللرئيس الفرنسي ميتران).
سيُعتقل دوبريه في بوليفيا عام 1967 خلال مهمة لإيصال رسالة من كاسترو إلى غيفارا، الذي كان يخوض «حرب غوّار» من الأرياف، وسيحُكم عليه بثلاثين سنة سجنا، وستعتقل السلطات غيفارا بعد ذلك بأشهر فتقتله وتقطع ذراعيه لترسلهما إلى كوبا لتأكيد موته، وربما لإرهاب كاسترو ورفاقه الذين تولوا السلطة هناك.
خرج الثوري الفرنسي من الحبس بعد ثلاث سنوات إثر حملة شاركت فيها شخصيات شهيرة مثل الجنرال شارل ديغول والبابا بولس السادس وجان بول سارتر، وخلال تلك الفترة في السجن كتب أفكارا وبعض مسودّات كتابه «نقد العقل السياسي».

آخر خبر في الراديوهات!

خلال سنوات السجن سيشهد دوبريه ما يسميه بـ»لقاء المتوازيات»: لقاء فرجيل وغيفارا. ولقاء الميثولوجيا الإغريقية بغرامشي. قدح في ذهن السياسيّ الناشط، والكاتب الموهوب، إلهام كاشف للعلاقات العميقة في صراعات أيديولوجيات العصور القديمة والجديدة، وللصلات الحميمة بين القدسي والدنيوي. اكتشف دوبريه أن «لا انفصال بين السحر والدين والأيديولوجيا» وأن الإنسان يعود بشكل دائم إلى المعتقد الجماعي (الدين) «لأنه لا يخرج منه». الأيديولوجيات الحديثة (كالماركسية) في هذا السياق، هي «محاكاة للدين».
سنقرأ لاحقا، خصوصا في تحليل كتّاب لحياة غيفارا وميتته الجليلة، هذا اللقاء بين الديني والدنيوي، وبين الثوريّ الماركسي (الملحد) والكاثوليكية. من ذلك مشابهة غريبة توازي بين صورة المسيح المحاط بالحواريين بعد صلبه، وصورة غيفارا، لكن محاطا بالجنرال والجنود الذين قتلوه. هناك كتاب لديفيد كنزل عنوانه: «تشيسوكريستو: مسحنة غيفارا» عن التشابهات بين المسيح وغيفارا، سبقه معرض نظمه بعنوان: «تشي غيفارا، الأيقونة، الأسطورة والرسالة». (لطيف أن نتذكر هنا أيضا ذكر الكنائس والجوامع في أغنية أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام التي ورد فيها: جيفارا مات/ آخر خبر في الراديوهات/ وفي الكنايس/ والجوامع/ وفي الحواري/ والشوارع/ وع القهاوي وع البارات».

التوزيع الساذج للأرض والسماء

لم يكن هذا افتراقا لدوبريه عن الماركسية (يقال إنه اختلف مع غيفارا بشدة حول تجربته لبدء ثورات من الريف) رغم تهشيمه ونقده لبعض أفكار ماركس الأساسية. لكنّ الفذاذة في شغل دوبريه المذكور ليست في كشف جدل الديني – السياسي فحسب، بل في تقديم شروح لآليات اشتغال «العقل السياسي» بشكل يسمح لنا بقراءات جديدة لفهم السياسة، ولتفسير «شروط القوة التي ينبغي ان تكتمل لفكرة من الأفكار كي تصبح هي نفسها قوة». إحدى أفكار دوبريه المهمة هي شرحه أن الأيديولوجيات لا تحدث في «فلك الأفكار» (حيث يعتقد أنها تحدث) بل هي عملية تصور للعالم وتنظيم للبشر. يفكك الكاتب هنا بقوة الفكرة الماركسية الشهيرة التي تفصل بين المادة والفكر فـ»كل نهج تكنولوجي يحمل معه نمط استعمال، ومهارة، ومجموعة رموز، وكذلك قواعد تنظيم اجتماعي ـ أي مجموعة كاملة من «الأفكار» لا غنى عنها لوضع وسائل الإنتاج موضع العمل» وبالتالي «لا وجود إذن للوسيلة المادية من جهة، ومن الأخرى للغائية المثالية، لأن الغائية موجودة في الأداة نفسها، واستعمالها يتضمن بعض أشكال الهيمنة الاجتماعية (وهذه هي الحال في المراكز النووية، وبنوك المعلومات الجاهزة، والأقمار الصناعية، إلخ…)».
هذه المعادلة الفاصلة بين الأرض والسماء، كما يقول، «تكذب أمتن نتائج تاريخ الأديان ونتائج التاريخ، حيث لا سوق بالتأكيد لفك الشيء عن رمزه، والواقع عن تصويره، والعمل عن القول» وعليه فإن «التوزيع الساذج للأرض والسماء، للوازن والخفيف، للمحرِّك والمحرَّك، حجر عثرة في سبيل الإيضاح بدلا من الإسهام فيه».

الطلب من «الحزب الكبير» ألا يصير «كنيسة»

يخلص دوبريه إلى صفات تشابه بين الإسلام والمسيحية والشيوعية تجعله قادرا على انتقاء ما ينبغي أن يعرفه من تاريخ العالم «وما ينبغي أن أفعله فيه». إحدى النقاط المهمة التي يعرضها هي أن حقيقة العقيدة الدينية (أو العقيدة الماركسية) لا يبحث عنها بين سطور الكتب الدينية (الإنجيل والقرآن) وغير الدينية (رأس المال والأيديولوجيا الألمانية إلخ) بل في البنى التنظيمية للإسلام أو المسيحية أو الشيوعية، وهذا إذن ينطبق على الأديان وعلى الأيديولوجيات، التي يجمعها أنها «ليست وهما» أو «انعكاسات خادعة» كما يقترح، بل هي بنى لانتماءات سياسية وعرقية وطائفية.
يجمع دوبريه كل الاعتقادات، الدينية وغير الدينية، ضمن مفهوم الأيديولوجيا التي يقوم الصراع، ضمن التكوينات الجماعية (ثقافات، حضارات، أمم، وأيضا طوائف، أحزاب، حركات، شيع، إلخ…) بإيقاظها ضمن «إجراءات تحقيق الذات» وفي عملية استعادة للأصول و»كأنها وجدت الآن». يسمح هذا، كما نرى، بفهم محاولة العودة المتكررة لعهد سابق: الخلافة، الإمبراطورية الرومانية (وهذا مبحث تاريخي لمحاولات الوراثة القسرية: من شارلمان، الإمبراطور الجرماني لفرنسا، إلى العثمانيين بصفتهم سلاطين الروم) وحتى… إعادة ترامب لـ»أمريكا العظيمة»!
وبغض النظر عن طبيعة الجماعة، سواء كانت ذات صبغة دينية أو معادية للدين (الصين الماوية مثلا) فإن الصراع يدفع بها، دائما، نحو معارضات عكسية: العظيم بمواجهة الحقير، والمقدس بمواجهة المدنس، والداخل في مواجهة الخارج، وهي ردود الفعل نفسها التي كان يختص بها الفعل الديني بمواجهة التهديد. اللاهوتي والسياسي كلاهما «امتداد للآخر» والطلب من «الحزب الكبير» ألا يكون «كنيسة» هو طلب منه بأن يحل نفسه.
يشير الكاتب إلى أن «النخب المثقفة» تملك من الوعي (أو الضلال) ما يكفي للتحقق من الطبيعة الدينية للممارسات السياسية، لكنها لا تتساءل عن سبب الطبيعة الدينية للممارسات السياسية. إننا، كما يقول، محكوم علينا سياسيا بأن نعيش عيشة جماعة لاهوتية الجوهر، وبأن نغدو لاهوتيين لنفهم شيئا من حياتنا السياسية الآنية. يبيّن دوبريه، في فقرة بديعة في قدرتها على قابلية تحوّل العقائد إلى أديان قائلا: ما ان تحول النقد الماركسي للدين بالتدريج الى قوة مادية، على صعيد المحسوس، حتى ألفى نفسه «روحا للحزب» و»عقيدة للدولة». وإنها لعلبة سوداء مذهلة. المدخل: إلحاد جذري. المخرج: دين عالمي». وهنا يتساءل ساخرا: «ألا يضع تحول «علم» ما إلى دين، علم الدين في رأس قائمة أعمال اليوم الخاصة بالعلوم السياسية؟». لكن لماذا تستمر هذه الكيمياء السحرية في فعلها، حتى في المجتمعات التي ليس للسحر والتنجيم فيها رواج؟ لأنه، يقول دوبريه، ليس في وسع عنصر أن يسوغ حضوره إلا إذا شغل مكان عنصر آخر: «الملوك يقومون مقام الله» والرؤساء مقام الجمهورية، والأمناء العامون مقام الطبقة العاملة ـ وهلم جرا: والشرط اللازم لعملية التمثيل هي أن أحدا لم ير قط الله بأم عينيه، أو «الجمهورية» أو «الطبقة العاملة» أي أنه ينتج عن غياب المؤسس.
إن مخزون البشرية الخرافي لم يتغير، كما سبق أن قلنا، من حيث مادته منذ «بابل» و»سومر» و»أورشليم». وعلى غرار الخرافات القديمة (التي استلهمتها بالطبع) اجتازت الأديان التاريخية بنجاح امتحانات البقاء الرمزي. إن اجتثاث المقدس، داجنا كان أو وحشيا، مؤسِسا أو مؤسسَا، يعني استئصال كل جماعة منظمة، أي نهاية البشرية الاجتماعية وبالتالي الأفراد الموجودين.
كاتب من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية