محمد السيد إسماعيل وقصيدة التحولات المعرفية

حجم الخط
0

يبدو الشاعر محمد السيد إسماعيل بعد صدور مؤتزرا بحلة جديدة تعيد إليه الكثير من البريق الذي فقده في السنوات العشر الماضية، مرة بسبب أسفار الرزق التي لم تسفر عن أي مغنم، ومرة بسبب إنجاز رسالتين علميتين أضافتا الى النقد المصري ناقدا حصيفا ومدققا بحق، ومرات بسبب الارتباك الذي أصاب المشهد الشعري المصري منذ مطالع عقد التسعينيات من القرن الماضي، لاسيما فيما يخص حراك الجيل الثمانيني داخل هذا المشهد المضطرب.
فقد شهدت بداية حقبة التسعينيات خلخلة واسعة وعميقة في مفهوم المقول الشعري وفي المقولات التقليدية المتجذرة حوله، وكان إسماعيل شريكا أساسيا في هذا الجدل بمقالاته ورؤاه، وكذلك بمشاركته في تحرير مجلة الكتابة الأخرى عند صدور عددها الأول في مايو 1991.
كان محمد واحدا من شعراء قصيدة التفعيلة النابهين وكانت تجربته آنذاك موضع تقدير وانتباه ممن جايلوه وممن سبقوه، غير أن زوابع القصيدة النثرية كان يلزمها الكثير من التأني والروية في مواجهة جيل تربى على الذائقة التقليدية لكنه في الوقت نفسه كان ضائقا بالتقاليد الشعرية المحافظة التي أنجزت ماعليها لكنها كانت تقصر عن احتياجاته، لاسيما أن ذلك حدث تحت تأثير تحولات سياسية ومجتمعية لكن أبرزها كان معرفيا، غير أن استكناه ملامح الطريق أخذ شوطا ليس سهلا، لأن المرجعيات بدت في وجه منها مبتسرة وفي وجوه أخرى تنطوي على سطو غير أخلاقي على المقول الغربي أو تنطوي على المقول القديم الذي لم يتغير منه سوى إسقاط الوزن والتقفية، وفي أغلب الأحوال ثمة مرجعية أساسية هي التي تطور معها النص الشعري الجديد وهي مرجعية النص المترجم الذي أنكره الكافة لتضليل القارئ حينا ولمدارة العجز أحيانا أخرى، وأشيع الكلام الكثير حول تأثر النص المصري بالمرجعية اللبنانية، والصحيح أن كلا التيارين تأثر بالرمزية الفرنسية عبر النصوص الأصلية أحيانا وعبر النصوص المترجمة في معظم الأحايين.
بعد هذا الصراع الطويل يلحق محمد السيد إسماعيل بالموكب في لحظة لانستطيع الزعم فيها أن قصيدة النثر تقف في نهاية الطريق، الصحيح أنها تقف في مفترقه بعد أن حسمت الكثير من خياراتها الجمالية والفكرية وجددت الكثير من رؤاها حول ظواهر أساسية في الكتابة الشعرية على مستوى الأشكال والمضامين.
وديوان إسماعيل ‘تدريبات يومية’ الصادر حديثا عن سلسلة أصوات أدبية يقتفي أثرا ليس غريبا عليه، فهو صاحب لغة تقف بين هذا المزيج من التعبيرية التي تشق الواقع شقا وتقف الى جوار الوضوح كتفا بكتف، والإبانة التي هنا تبدو وكأنها النقيض للإلغاز والتعبيرية في شعريات كثيرة سادت الشعريات السابقة التي لم تكن مطمحا ثمانينيا على الأرجح سوى في نماذج شحيحة منها، لذلك فإن انتقالة الشاعر ترتكز على وعي بالمعيار الجمالي بأكثر ما تعتمد على تحولات درامية في الرؤية الشعرية، فإسماعيل منذ أول دواوينه صاحب لغة تمتح من البساطة كما أشرنا، كما كانت شعريته الأولي تعتمد على الكثير من التقنيات السردية كما هو حادث في ديوانه الأخير الذي يعد أول دواوين الشاعر المنشورة تحت مظلة قصيدة النثر وإن ظل السؤال معلقا حول الزمن بين تاريخ كتابة الديوان بين عامي 2002/2003 ونشره في العام 2010 وهي مسافة زمنية تحتاج الى أن تلتئم لنعرف ما الذي فعله الشاعر عبر سبع أو ثماني سنوات وكيف تطور عبرها نصه التالي لديوان اليوم أو بالأحرى لنسائله: كيف للشاعر أن يمارس هذا الإقصاء الذاتي لتجربته ولحساب من تتراجع هذه التجربة التي كانت موضع تقدير واهتمام؟.
يقدم الديوان استقراء مبكرا لما يمكن ان نسميه تأليف الروابط غير المؤلفة على طريقة تأليف القلوب غير المؤلفة أيضا، وينجح في تحقيق زخم مائز، فالشاعر يبدو أكثر انخلاعا من جذره الشعري التقليدي الراسخ، ويبدو الى جوار رفقائه علامة مثيرة على الحنق الذي أصاب كثيرين من سطوة ماضيهم، وها هم يحاولون جاهدين رسم صورة جديدة من ركام ما خلفه غبارهم وغبار أسلافهم، دون تجاهل ما أسفر عنه هذا الغبار من أوشاب وأعطاب في الرئة التي تتنفس.
ينطلق إسماعيل من الخروج الساخر على ما اقتضته الطبيعة الواقعية المباشرة والتداولية لقصيدة النثر ليرسم صورة أبعد قليلا من مباشرة اليومي السردي وأفقيته.. محاولا النفاذ الى جوهر الشعرية عبر النفاذ الى جوهر المأزق الوجودي مباشرة، لذلك تبدو سروده أكثر تعلقا بما هو أبدي وسرمدي في التجربة الانسانية وفي المقابل لا تتبدى تجربة الشاعر كثوب مهترئ تخرقه قسوة النمط الاجتماعي الأكثر كابوسية.
وسأتوقف هنا أمام قصيدتين قصيرتين تمثلان مفتاحا للديوان كما أراهما، وذلك رغم قصرهما الشديد الذي يميز جميع قصائد الديوان تقريبا. القصيدة الأولى تحمل عنوان عبد الله النديم، وتتكون من عشرة أسطر، يقول فيها الشاعر:
تسبقني خيول الأرض نحو البيت
لكي تختار مايستر وجهي
عند حراب الجند
فمرة تختار ثوبا أرجوانيا لساحر هندي
ومرة تختار بزة صوفية لدرويش غريب
ومرة تعيرني أثواب ضارب في الرمل
لكنها في كل هذه المرات
لم تسترح أبدا
إلا لبشرتي السمراء
ترزح تحت الثوب.
والقصيدة هنا ليست موضوعا شعريا بقدر ماهي تعبير عن تحولات معرفية في طي النسيان تحتاج فقط الى ذاكرة قادرة على الاسترجاع، لترصد مايمكن أن نسميه الاختفاء والتجلي لهذا الوجه المطارد، من سلطات الاحتلال، فالنديم خطيب الثورة العرابية المفوه كما نعرفه، وواحد من رواد فن الزجل، وقد أوقف جريدته ‘التنكيت والتبكيت’ عندما طلب إليه عرابي أن يكون وجه الثورة أكثر جدية فغادر الإسكندرية الى القاهرة وأوقف إصدار جريدته واصدر بدلا منها جريدة ‘اللطائف’ التي صارت أشهر جريدة مصرية في ذلك الزمان.
وتبقى من النديم حكايته الأسطورية التي باتت جزءا من الذاكرة المقاومة لدى الشعب المصري وأصبحت حواديت ظهور واختفاء النديم تسري مسرى الفلكلور حتى أصبحت نموذجا في مواجهة سؤال القوة، سؤال الشعر، سؤال الحياة والموت، وسؤال الحروب الوجودية التي خاضها مضطرا.
والاختيار نفسه يعكس انحيازا يرتبط كثيرا بالوعي الوظيفي للإبداع لكنه يتخلى عن أمراض هذه الوظيفة بالبعد عن الوقوع في الوعظية والخطابية وإضفاء قيمة بطولية واستشهادية بما ينطوي عليه هذا الوعي من لاهوتية وكهانة. القصيدة تختصر هذا كله في انحياز انساني عن أسطورة الظهور والتجلي لتتحول الخيول وحدها الى بطل للمشهد وكأنها تختار فارسها الذي هو النديم .
أما القصيدة الثانية فهي قصيدة ديك الجن التي تضم تسعة أسطر، يقول الشاعر :
كان هواء البيت
أثقل مما اعتدته بالأمس
والرعشة التي كانت تهزني من جمرة الكلام
أخلفت موعدها
وخلفتني ـ هكذا ـ انهش جلد الأرض
وفجأة
وعندما لاحت لعيني وهي تعبر الطريق
فكرت أن الكأس نفسها مصابة بالعتمة
وأنها في حاجة لبعض الضوء .
والقصيدة لا تختلف من حيث تقنيتها عن قصيدة النديم أو بقية قصائد الديوان التي كرس الشاعرالكثير منها لأصدقاء رحلته من عامة وخاصة البشر. في قصيدة ديك الجن استلهام شفيف لمأساة شاعر عباسي متشيع كان يعيش بمدينة حمص تألبت عليه دسائس القصور حتى يتخلص من حبيبته ورد النصرانية التي أسلمت حتى تتزوج به، وقد قال فيها ديك الجن أعذب الشعر وبعد أن دسوا بينه وبين حبيبته باتهامها كذبا في أحد غلمانه قتلها ومكث شهرا لايستفيق من البكاء بينما كان ينشد:
يا طلعة طلع الحمام عليها
وجنى لها ثمر الردى بيديها
رويت من دمها الثرى ولطالما
روى الهوى شفتي من شفتيها
فوحق نعليها ما وطئ الحصى
شيء أعز علي من نعليها.
يتكئ الشاعر هنا على جانب من الرواية يمثل نموذجا فلكلوريا لكنه غير مؤكد تاريخيا، يقول إن ديك الجن قتل وردا حبيبته مع عشيقها في مخدع واحد ثم أحرق جثتيهما وجلب منهما كأسا يشرب فيها وهو يبكي بين أيدي سماره وينشد القصيدة التي أشرنا إليها.
إن الحس الفجائعي وحده هوما دفع محمد السيد اسماعيل الى اختياره لاسيما عنما نعرف أن ديك الجن كان من شعراء العصر العباسي المجيدين ومع ذلك لم يتذكره أحد عند موته وضاع جل شعره ولم يبق منه سوى مقطعات قصيرة، وقد كانت حكايته مع ورد موضوعا للكثير من القصائد في الشعر العربي ومن أبرزها قصيدة الشاعر عمر أبو ريشة التي يقدمها مؤكدا على رواية غير مؤكدة حول كأس ديك الجن الذي جبل من بقايا حبيبته ورد ،كذلك يتلمس محمد السيد اسماعيل قصته بهذه العتامة التي تخالل كأسه، ولايملك إلا أن ينهش جلد الأرض على ما في الصورة من تزيد ومغالاة، وينهي القصيدة بأن كأسه لابد تحتاج لبعض الضوء، فهل هو ضوء اعتذار تاريخي لقيمة الحب أم هو طلل يستحق التذكر لشاعر بات جزءا من الذاكرة المفعمة بالأسى للشعر والشاعر معا؟.
وفي الاجمال تبدو المشاعر البوهيمية التي صاحبت بعض قصائد الديوان والتي تتماهى لدى شعراء أقران، تجدد اتصال حبلها السري بالماضي والحاضر، وترى في الشيوع الذي صاحب النمط الشعري فضيلة، وهو أمر لا يقتضي الاستنامة الى ما أفرزه وقدمه هؤلاء الأقران.
وربما ـ بكثير من الابتسار ـ نستطيع القول ان شعرية الديوان ليست نقية من أوشاب الأسلاف ولا خُطاهم، فعلى قدر الانحراف بالغرض الشعري، كان هنا ركون الى نموذج ليس شائعا بالضرورة، هذا النموذج أنجزته القصيدة التعبيرية الفضفاضة والمحتمية بالسؤال، وكذلك القصيدة الرومانسية، وان كان نضال الشاعر في ديوانه يبدو أكثر قوة في مقاومة هذا الماضي كلما كان أكثر اقترابا من ملمح المكان ومن السيرة الشخصية، وهي مناطق لم تشبعها شعرية الديوان وربما فعلت ذلك وأضافت إليه دواوين قادمة.
ورغم أية ملاحظات تقع موقع السلب على هذا الديوان فإن ما قدمه من انتقالة جوهرية في انحيازه الجمالي يؤكد قدرة ناصعة على امتلاك عالم شعري خالص لم يكن مستلبا في أية لحظة من اللحظات، فضلا عن أنه يؤكد امتلاك الشاعر لوعي نظري سوف يمكنه من أن يكون واحدا من ألمع شعراء قصيدة النثر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية