محمد أحمد شقرون وذاكرة الثقافة المغربية

ودعت الثقافية المغربية الأيام الأخيرة الماضية، أحد أبرز أعلامها ـ تأريخا وتنظيرا وتحقيقا- ونعني المفكر محمد بن أحمد بن شقرون أحد ممثلي الرعيل الثاني من مثقفي المغرب بعد المختار السوسي وعلال الفاسي وعبد الله كنون. تميزت أبحاث محمد بن شقرون بالبحث العلمي الذي يعتمد الدقة والموضوعية، والحجة والبرهان الواضح والأسلوب الرصين، والمصادر العميقة والمتميزة، متبنيا المنهج التوافقي الذي يمزج بين التاريخي والنفسي والحفري والاجتماعي.
ولعل هذا يرجع بالأساس إلى اطلاعه الواسع وتشبعه بالثقافتين الحديثة (الفرنسية) والتراثية. ولذا، تتسم جل أعماله بالأصالة والتحري الدقيق، نتيجة لتنقله بين عواصم عربية وغربية بحثا عن المعرفة والمصادر العلمية، واشتغاله على تحقيق مجموعة من المخطوطات، وفي ذلك كله خدمة للثقافة العربية والمغربية بالخصوص، وقد تُوج هذا المسار العلمي الطويل بإنتاج ما يفوق 30 مؤلفا ومبحثا علميا.
من أبرز هذه المؤلفات، مؤلف›› مظاهر الثقافة المغربية: دراسة في الأدب المغربي في العصر المريني›› الذي سنتخذه نموذجا لإضاءة مسار هذا الباحث، وخصائص مباحثه العلمية بشكل عام. وقد جاءت مقدمة المؤلف لتؤكد هاجس نفض الغبار عن الذاكرة الثقافية المغربية من خلال الحفر في إنتاج هذه الفترة التاريخية المرتبطة بحكم المرينين، التي عرفت إنتاجا غزيرا ومتميزا. «ذلك أن الجهود التي بذلت في هذا الميدان ضئيلة جدا لا تكاد تذكر، إذا ما قيست بالأبحاث المتنوعة الكثيرة، والمؤلفات الضخمة النفيسة التي تناولت الأدب العربي في الشرق بكثير من التدقيق والتحليل» (مظاهر الثقافة المغربية).
يستهل الباحث مؤلفه بالإشارة إلى سياق الكتاب الذي جاء ليضيء جزءا مغمورا من الثقافة المغربية طواه النسيان، ويؤكد الباحث في هذا الإطار، أن اختيار هذه المرحلة التاريخية المرتبطة بالحكم المريني، نابع من النهضة التي عرفتها الثقافة المغربية إبان هذه الفترة؛ ساهمت في ذلك مجموعة من العوامل من بينها التفاعل مع الأحداث التي عرفتها الأندلس، في تلك الفترة، والحركية الثقافية التي عرفتها، بالإضافة إلى عوامل سياسية تمثلت في المرحلة الانتقالية التي دشنها حكم بني مرين في المغرب، وما ارتبط بها من صراعات بين هويات مختلفة. يدل على ذلك ظهور وازدهار الثقافة في هذه الفترة وظهور أعلام في الفكر والثقافة والسياسة والأدب ذاع صيتهم شرقا وغربا، وما زال كذلك إلى يومنا هذا. ويكفي أن نذكر في هذا السياق نماذج مثل: ابن خلدون، لسان الدين بن الخطيب، العبذري، ابن مرزوق، ابن البناء. ومن مظاهر الثقافة المغربية في هذه الفترة حسب الباحث تطور مجموعة من الأجناس من بينها فن الرحلة، بصورة جعلت منه الجنس الأدبي المعبر عن هوية وتاريخ وذاكرة الثقافة، نذكر على سبيل التمثيل نصوصا مثل: ‹›الرحلة المغربية›› و»رحلة ابن بطوطة›› «تحفة النظار في عجائب الأمصار››، ومن بينها كذلك ‹›مشاهدات لسان الدين بن الخطيب››. ورغم ذلك يؤكد الباحث صعوبة المهمة نظرا لتعدد المصادر وتناثر المعلومات في بطون المؤلفات، وضياع جزء كبير من المخطوطات التي توثق للمرحلة.
إن القيمة العلمية لبحث محمد بن شقرون ينبع أساسا من هذه المصادر التي اعتمدها مثلما هو الأمر بالنسبة لمؤلفات ابن خلدون، نفح الطيب، لسان الدين بن الخطيب، أحمد بن خالد السلاوي، ابن الوليد إسماعيل ابن الأحمر، محمد بن قاسم الأنصاري، الخطيب محمد التلمساني.. وغيرها مما شكل عماد الثقافة العربية ورافدا نهل منه الباحث شرقا وغربا.
وفي هذا الإطار يسجل الباحث محمد أحمد بن شقرون ملاحظة تتمثل في انشغال المؤرخين بسرد الحوادث وتاريخها وإهمالهم ظاهرة اجتماعية، ذات أهمية بالغة كما ظهر من خلال الصراع بين البيئة والفرد، ما ساعد الباحث في تفسير الأحداث تفسيرا علميا؛ ومكنه من تحليل الوقائع وترتب عليه نتائج فعالة على صعيد توظيف المنهج، كما يلاحظ أهمية وتأثير قوة الشخصية في إنتاج الأدب في هذه المرحلة. هذا فضلا عن عامل عنصر العروبة الذي يجسد، حسب الكاتب، الجذور التاريخية لأصل بني مرين، ما انعكس على الإنتاج الأدبي في هذه الفترة.. ومما يعزز هذا الموقف القائل بعروبة بني مرين، حسب الباحث، ما ذكره الملزوزي وابن الأحمر من أن الانتساب إلى العروبة أصبح بعد الفتح الإسلامي مفخرة المستعربين، بحكم كونها لغة القرآن، وأن العرب هم من قام بالفتوحات الإسلامية، ونشر الإسلام يضاف إلى ذلك ما ذكره ابن خلدون من اشتراكهم مع العرب في كثير من الصفات.
تتمثل أهمية المؤلف العلمية بالإضافة إلى الدقة المنهجية، انشغال الباحث بالحفر في ذاكرة التراث الثقافي المغربي، سواء من خلال استحضار سيرة مجموعة من الأدباء الذين ميزوا هذه المرحلة التاريخية، وتميزوا على صعيد ترسيخ هوية وتاريخ الثقافة المغربية.. إن القيمة العلمية للكتاب تتجلى في إعادة النظر في مجموعة من الآثار الأدبية تحقيقا ودراسة ورواية؛ وذلك هو حال الإنتاج الرحلي كنموذج، الذي طبع هذه الفترة، وشكّل أحد مظاهر الثقافية والهوية المغربيين. مثلما هو الأمر بالنسبة لسيرة ابن بطوطة والعبذري وغيره.
مثل أبرز ملمح لأحد نماذج هذه الثقافة، كما يظهر من خلال الرحلة، كونها تعكس الهوية والبيئة المغربية كما تعكس نفسية وذاتية الكاتب، حسب الباحث الذي توسل بمنهج توافقي يمزج بين التاريخي والحفري والنفسي الاجتماعي. وهو ما يظهر جليا من خلال تناوله للعوامل التي ساهمت في ولادة الإنتاج الأدبي في هذا الفترة؛ التي تتوزع بين التفاعل بين العنصرين الأندلسي واليهودي والعربي، والعاملين الديني والسياسي، حيث عرفت بيئة بني مرين صراعا بين هويات متباينة.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول قلم الرصاص:

    لا شك ان فترة حكم بني مرين كانت لحظة اوج الثقافة المغربية و عزها و الدليل على ذلك رقي المعمار و طفرة المقروء

    و انتشار مدارس العلم بفاس و مراكش و غيرهما زمن المرينيين الذين حسب علمي ينحدرون من قبائل زناتية تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية