محطات في مسيرة الملحن العراقي الراحل كوكب حمزة

صادق الطائي
حجم الخط
0

يعد الملحن العراقي كوكب حمزة ظاهرة ملفتة في الحياة الثقافية العراقية، وتحديدا في عالم الموسيقى والغناء، فهو ابن الفرات الأوسط حيث ولد في مدينة القاسم الصغيرة جنوب محافظة بابل عام 1944 ودخل عالم الموسيقى مصادفة مطلع ستينات القرن الماضي، إذ درس في معهد الفنون الجميلة في العاصمة بغداد، وعمل مدرسا للموسيقى في مدرسة ابتدائية في البصرة، ثغر العراق الجنوبي، وتأثر بحياتها الزاخرة بالاختلاط والتنوع الاثني والثقافي والموسيقي مطلع الستينات أيام فورة الشباب في مختلف دول العالم. وفي هذا التتبع التاريخي، سأمر على «محطات» وهو اسم واحدة من أشهر أغنيات كوكب.

محطة الطفولة والبراءة

ربما كانت عتبة البداية، لطفل ولد لعائلة كبيرة من الأكراد الفيلية في مدينة القاسم قرب مدينة الحلة في الفرات الأوسط، وكانت غرابة الاسم الذي يطلق في الغالب على الإناث مفتتحا لهذه المحطة، إذ يقول كوكب؛ «إن اسمه، الذي أطلقته عليه والدته، تسبب له في الكثير من الإشكالات» منها أن الكثيرين اعتقدوا أنه اسم ملحنة وليس ملحناً، وكان يتلقى سيلاً من رسائل الإعجاب من الشباب. ولهذا نصحه صديق مخرج بالظهور في برنامج عدسة الفن التلفزيوني، ومن بعده تحول سيل الرسائل يرد من الفتيات لهذا الشاب الوسيم. كانت طفولته عادية ورتيبة ولم يميزها سوى بداية علاقته بالموسيقى التي حدثت مصادفة عندما تأثر بسماع قصّاب كان يمتلك محلا لبيع اللحوم في حيهم، وكان يعزف على الناي بشكل مؤثر، ويذكر كوكب أنه كان ذات مرّة رفقة والدته في مدينة النجف، حيث رأى بائع نايات في سوق المدينة، فألح على الأم وتوسل حتى اقتنعت واشترت له نايا، وعلم نفسه العزف، وتولع به بشكل غير عادي.

محطة الدراسة والتلحين

يصف كوكب علاقته بالموسيقى والتلحين والتأليف الموسيقي بأنه أشبه بمصادفات الأفلام الهندية، إذ كان يرغب في دراسة الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة في بغداد، فما كان من أحد معارفه الذين ساعدوه في التقديم أن غير مسار حياته عندما أقنع الفتى بالتقدم لقسم الموسيقى لانه كان قد استمع له وهو يعزف الناي، وفعلا، درس آلة الفلوت الغربي في المعهد. وهناك تعلم عزف العديد من الآلات، واكتشف هوسه بالموسيقى. بعد التخرجّ حصل على وظيفة مدرس للموسيقى في إحدى مدارس البصرة سنة 1965. وكانت في البصرة حينذاك فرقتان موسيقيتان، هما فرقة الميناء، والفرقة البصرية التي أصبح عضواً فيها كعازف للناي.
ولطالما وصف كوكب حمزة دخوله عالم التلحين بأنه ورطة، وإن الأمر لم يكن يخطر بباله، لكن زملاءه من المدرسين في المدرسة ألحوا عليه فنزل عند رغبتهم وابتدأت «ورطة» التلحين بدايات عام 1967. ومع ذلك يذكر كوكب وبشجاعة معهودة فيه أن عمله الأول، أغنية «مر بيّه» التي لحنها للمطربة غادة سالم عام 1969 قد فشلت فشلا كبيرا. ما جعله يقف ويحلل أسباب ذلك الفشل.
ثم يشير إلى أنه أواخر الستينيات وبداية السبعينيات برزت مجموعة من الملحنين الشباب كان يوحدهم حلم بولادة أغنية جديدة تخرج عن الروتين الغنائي الذي كان سائدا في العراق، ويشير إلى صديقيه طالب القرة غولي، وكمال السيد اللذان كانا مثله معلمين للموسيقى في مدارس الجنوب، ويشير إلى هذه المجموعة ودورها فيما عرف لاحقا بالأغنية السبعينية ونجاحاتها التي حققتها.
وبالطبع الأمر لم يتوقف عند جهود الملحنين فقط، إذ تم تغيير واقع الأغنية بتظافر جهود الملحنين مع الأصوات الشعرية الجديدة الصاعدة حينذاك مثل ذياب كزار، وزهير الدجيلي، وكاظم الركابي، وعريان السيد خلف، وكامل العامري. بالتزامن مع ولادة أصوات غنائية جديدة مثل سعدون جابر، وحسين نعمة، وفاضل عواد، وستار جبار وغيرهم.
ويذكر كوكب نجاحه الأول في أغنيته الثانية التي حققت دويا في الساحة الغنائية، وهي أغنية «يا نجمة» وهي من كلمات كاظم الركابي، وغناء مطرب شاب يظهر لأول مرة هو حسين نعمة. ويتحدث كوكب عن ذلك بشجاعة ويقول إن جزءا مهما من نجاح الأغنية كونها جاءت متعكزة على أغنية تراثية من ألحان شيخ الموسيقيين العراقيين، الملا عثمان الموصلي، وهي أغنية «مرابط» التي غناها كثيرون مثل حسقيل القصاب، وفلفل كرجي، ويوسف عمر، وكان اللحن معروفا وشائعا. ويشير كوكب إلى إن السجناء السياسيين في سجن «نقرة السلمان» الصحراوي الرهيب كانوا يغنونها، وقد قام كوكب بتعديلات على اللحن الأصلي وذلك بادخال لحن الموشح عليه بتمازج ناجح، لتعلن ولادة أغنية كبيرة ومهمة، لتتوالى بعدها الأغاني الناجحة التي بقيت في الذاكرة العراقية والعربية مثل: «يا طيور الطايرة» لسعدون جابر، و«أفيش بروج الحنية» لستار جبار، والتي استولى عليها سعدون جابر لاحقا، وأغنية «شوق الحمام» لفاضل عواد، وأغنية «تانيني» لفؤاد سالم، كما غنت له المطربة الكبيرة مائدة نزهت، أغنيات ناجحة مثل «حاصودة» و«همه ثلاثة للمدارس يروحون».

محطة السياسة وأوجاعها

لم تكن محطة ولادة وسطوع نجوم الغناء والموسيقى العراقية الجديدة نهاية الستينات بمعزل عن الحياة السياسية التي كان الصراع العنيف سمتها الأساسية، وكان ظل اليسار هو الطاغي على أبرز وجوه الحركة الثقافية والفنية، ولم يكن كوكب استثناء من ذلك، إذ انخرط في الحياة السياسية في الحزب الشيوعي العراقي وكان ناشطا سياسيا فيه، ويذكر كوكب مصادفة مهمة في حياته حصلت وهو طالب في معهد الفنون الجميلة، إذ اشترك في حراك طلابي عُرف باضراب البنزين في ربيع عام 1962. على إثره اعتقل في مديرية الأمن، ثم نقل إلى سجن بغداد المركزي. هناك التقى لأول مرة بالشاعر مُظفر النوّاب. وكان كوكب رفقة زميلين من قسم المسرح، وكان اهتمام النوّاب بهم غير طبيعي. إذ يذكر كوكب انه في هذا السجن أخذ من النوّاب أسس الوعي والثقافة والصلابة الوطنية.
واستمرت علاقة النواب بكوكب الذي يذكر أن مظفر كان مسجوناً في سجن الحلة، وكان كوكب معلماً في البصرة، لكنه كان يزوره في كل مرة يأتي فيها لمدينته الحلة خلال الإجازات، يحمل له الطعام وما قد يحتاجه السجين في سجنه. ولان مظفر كان قد راهن على هذا الشاب الموسيقي الموهوب، فقد تجرأ كوكب ذات يوم، وأعلمه أنه بدأ التلحين وطلب منه نصوصاً. فما كان من النواب الذي كان رساما بالإضافة إلى كونه شاعرا مهما، فقام بإعداد بطاقة من ورق مقوى رسم على جانب منها، وكتب على الآخر «كوكب لحّن أنا مؤمن بك».

محطة المنفى والاغتراب

لحظة الخروج من العراق، كانت لحظة فارقة في حياة ملحن شاب ناجح يحقق مع كل لحن جديد نجاحا يضاف إلى رصيده ويرسخ مكانته في الساحة الفنية، لكن ضغوط السياسة دفعته إلى محطته الجديدة في مختلف المنافي، ويذكر كوكب ذلك بدقة، إذ كان خروجه يوم 21 تموز/يوليو 1974 ويشير إلى إن أحد أصدقائه، وكان قياديا بعثيا حذره من مغبة البقاء في العراق، وساعده في الحصول على جواز سفر، كما ساعده الحزب الشيوعي بتدبير زمالة دراسية في جيكوسلوفاكيا لدراسة الموسيقى، لتبدأ رحلة المنافي التي أكلت من عمر كوكب نصف قرن.
ذهب في البداية إلى جيكوسلوفاكيا، ومنها انتقل إلى الاتحاد السوفييتي، حيث درس التأليف الموسيقي في باكو عاصمة اذربيجان، لكنه لم يستطع الابتعاد طويلا، فعاد مقاتلا في حركة الأنصار في كردستان العراق مطلع الثمانينات، لينتقل منها إلى دمشق ويستقر فترة هناك، ثم ينتقل مرة أخرى إلى الولايات المتحدة، ليستقر في منفاه الأخير في الدنمارك عام 1989.
ويصف كوكب حمزة منفاه بقوله في أحد اللقاءات؛ «المنفى له وجهان، سلبي وإيجابي. الإيجابي هو في المدى الهائل من التعبير دون خوف، إضافة إلى معرفة ثقافات وموسيقات أخرى بما يوسع المدارك والرؤى، والتعرف على شعوب وأمم وتضاريس ومناخات اجتماعية. أما السلبي ـ وهنا الفجيعة ـ هو أن تدفعك قوة غاشمة خارج الرحم وأنت لم تكتمل بعد كطفل، وابتعادي عن هذا الرحم آذاني وهزني بعنف، وهو ما أراه أحياناً يضعف جملتي الموسيقية ويشوه روحي اللحنية، نعم الوجع الدائم لا يخلق فناً أو إبداعاً كبيراً، لذا فإن أكثر المبدعين العراقيين المغتربين تراهم في حالة جدب وعدم قدرة على التعبير، فغربتهم طالت وامتد وجعهم طويلاً».
عمل كوكب حمزة في منافيه المتعددة، العربية والغربية كثيرا، وخرج على إطار الأغنية المحدود ليعمل في تأليف الموسيقى التصويرية للمسرح والتلفزيون والسينما، مثل موسيقى مسرحية «اللمبة» لممدوح عدوان في سوريا. و«زيارة الملك» و«العائلة توت» و«ليالي الحصار» مع المخرج جواد الأسدي، وموسيقى مسلسل سوري إنتاج سعودي. كما عمل موسيقى تصويرية لمجموعة أفلام وثائقية وروائية قصيرة مع مخرج دانماركي. ونال الجائزة الذهبية عن موسيقى فيلم «صبرا وشاتيلا» للمخرج قاسم حول. وكذلك فيلم «السلام عليكم» للمخرج نفسه، وأعمال أخرى كثيرة عبر فيها عن توسع أفقه الموسيقي.

المحطة الأخيرة

بعد التغيير الذي حصل في العراق عام 2003 استبشر كوكب بإمكانية العودة إلى وطنه مثل كثير من المبدعين الذين عاشوا عشرات السنين في المنافي، وفعلا عاد محملا بأحلام ومشاريع فنية وموسيقية، لكنه سرعان ما اصطدم برثاثة الحال الجديد وصراعاته ومشاكله التي لم يعد يستطيع تحملها، فبقي مثل طائر مهاجر جريح متنقلا بين بغداد، وأربيل، ودمشق وكوبنهاغن مستقره الأوروبي ومنفاه الاختياري حيث هاجمه المرض الخبيث وهو في الثمانين من عمره، ليغادر عالمنا في الثاني من نيسان/ابريل 2024 ليدفن في تراب كوبنهاغن، وليبقى كوكبا في سماء الإبداع بما أنجزه في رحلته الممتدة بين الوطن والمنافي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية