محددات الجرأة في الدراما التلفزيونية: الإنتاج العراقي نموذجا بعد العام 2003

حجم الخط
0

لن يتمكن أي عمل درامي من تحقيق مساحة مهمة من التأثير الجمالي لفترة زمنية بعيدة، إذا لم يستند إلى فكرة جريئة تتناول موضوعة معينة لها رصيد في الواقع، إضافة إلى العناصر الفنية الأخرى المكملة للعمل، والجرأة ضرورية في التجربة الفنية، ومن غير الوارد أن تكون غائبة عن تفكير الفنان، ومن خلالها تتوفر لديه فرصة إيصال خطابه إلى المتلقي بطرق وتقنيات مبتكرة تثير دهشته وتفاعله. وعلى الرغم من أولوية الجرأة وأهميتها، إلاَّ أنَّه لابد من التعامل معها بحذر، طالما الواقع يفرض حدودا أخلاقية ودينية وقانونية، تمتلك درجة من الحساسية لدى القوى المجتمعية المهيمنة، وتتنوع هذه الحدود حسب الثقافة التي تحكم كل طبقة وشريحة في المجتمع، وعليه يتوجب على الفنان أن يكون على قدر من الذكاء عند محاولته التحرش والاصطدام بها، سعيا منه لإحداث تصدعات في جدرانها بقصد تغييرها. فما جدوى أن تعيد استهلاك الأفكار نفسها إذا لم تتناولها من زاوية جديدة تتسم بالجرأة؟ فالمتغيرات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية دائما ما تطرح قضايا جديدة تواجهها، وهذا يفرض على الفنان أن يمتلك حساسية عالية في قراءة الواقع، وما يموج في أحشائه من أزماتٍ وأسئلة تحاصر الإنسان في حياته ومستقبله، وهنا يظهر موقع الفنان ودوره في تحفيز التفكير لدى المتلقين، وتوجيه انتباههم نحو الأسئلة والقضايا الجوهرية، فهو المعني قبل غيره في استقراء الواقع إبداعيا، وإعادة صياغته وفقا لرؤيته ومخياله.

الدراما أمام القضاء

إذا ما دار الحديث عن الأعمال الدرامية العراقية، منذ أن بدأ البث الفضائي بعد العام 2003 عندما انطلقت عشرات القنوات الفضائية العراقية، فإن الجرأة لم تكن متوفرة في معظمها، وهذا لوحده كان عاملا أساسيا في عدم قدرتها على استقطاب المتلقي المحلي وسحبه من دائرة اهتمامه بالدراما المصرية والسورية والتركية، ولعل سبب غياب الجرأة يعود إلى حضور سلطة الرقيب وسطوته، فإذا كان الرقيب قبل العام 2003 يتمثل بسلطة سياسية حاكمة لم تكن تتسامح مطلقا مع الأفكار الجريئة، فإن سلطة الرقيب بعد هذا التاريخ تنوعت وتمددت وتوزعت على مرجعيات مختلفة: دينية ومذهبية واجتماعية وعشائرية وميليشياوية ومناطقية بات نفوذها مخيفا. في مقابل ذلك تراجعت سلطة الرقيب الحكومي الرسمي بشكل كبير، وكان لتنوع مرجعيات الرقيب وسطوتها أن وصلت إلى الحد الذي أصبح من الوارد أن ترفع أي واحدة من هذه المرجعيات قضية أمام المحاكم إذا ما ذهب بها الظن بأن عملا دراميا قد وضعها في دائرة الانتقاد، وأشار إليها ولو بجملةٍ بصيغة التلميح، أو عبر شخصية ترمز إليها، وهذا ما حصل في شهر رمضان هذا العام 2024 عندما رفع مجموعة من أصحاب المولدات الكهربائية الأهلية التي تمد الأحياء السكنية بالطاقة الكهربائية، شكوى إلى القضاء ضد مسلسل «وطن 2» تأليف وإخراج مهند أبو خمرة، بذريعة تعرضهم إلى إساءة متعمدة وردت على لسان الممثلة زهراء بن ميم التي أدت الشخصية الرئيسية في المسلسل. كذلك مسلسل «عالم الست وهيبة» بجزئه الثاني تأليف صباح عطوان وإخراج سامر حكمت، تعرض لشكوى أمام القضاء رفعها رجال دين وبرلمانيون وساسة شيعة، كانت حجتهم أن استخدام اسم «مهيدي» للشخصية الرئيسية التي اتسمت أفعالها بالإجرام، القصد منه الإساءة لشخصية الإمام المهدي الذي يحظى بمكانة مقدسة لدى الشيعة. وفي 24 كانون الأول/ديسمبر من العام 2019 تم استهداف الممثل أوس فاضل أحد أبرز نجوم المسلسل الكوميدي «ولاية بطيخ» برشقة إطلاقات نارية، بينما كان يقود سيارته في أحد شوارع بغداد، وتعرض أيضا جميع نجوم المسلسل إلى عمليات «إبتزاز وتهديد مسلح» من قبل جماعات عشائرية بحجة انتقاد المسلسل لقبيلة عراقية في أحد مشاهده، كما تمت مهاجمة بيت مخرجه علي فاضل بالأسلحة الرشاشة.

الفرد لا يمثل الجماعة

خلال العقدين الماضيين، تعرّض عدد من العاملين في المسلسلات الدرامية إلى صور مختلفة من أعمال الترهيب والتهديد بالقتل، لمجرد تجسيدهم شخصيات درامية منحرفة، تنتمي لطبقة اجتماعية أو مهنة أو منطقة جغرافية معينة من العراق، وإذا ما حاولنا قراءة هذه الظاهرة لمعرفة خلفياتها وأسبابها، سنصل إلى أن ذلك يعود لتراجع ملحوظ في العامل الثقافي لدى العامة، وإلى قصور كبير في فهم طبيعة العلاقة التي تجمع الفن بالواقع، بمعنى أن هناك خلطا وضبابية في الرؤية، أدت بالتالي إلى عدم استيعاب فكرة مؤدّاها أن العمل الدرامي ينهض أساسا على التخييل في بناء موضوعه وأحداثه وشخصياته، وليس كما هي طبيعة الفيلم الوثائقي على سبيل المثال الذي يكتسب مصداقيته وواقعيته لكونه يخلو من التخييل، فلاغرابة في ظل هذا الفهم المُلتبس لدى العامة من المتلقين، أن يتم النظر إلى كل شخصية تظهر في عمل درامي على أنها ترمز إلى جماعة تمثلها في الواقع، فعلى سبيل المثال إذا كان طبيبا منحرفا، ستجد استياء وسخطا من قبل الأطباء ونقابتهم، وهكذا سيكون رد الفعل إذا كانت الشخصية تمثل محاميا أو معلما أو قاضيا أو زعيما قبليا.

التجريد والترميز

تشهد حرية التعبير في العراق بعد العام 2003 أزمة مستعصية لا تقل عما كانت عليه قبل هذا التاريخ أيام كان البعث يحكم البلاد، وربما تعيش اليوم أزمة أشد اختناقا وبؤسا، بعد أن أصبح الشارع خاضعا لسلطة سلاح منفلت وميليشيات وزعامات قبلية ودينية، ومن السهل تشخيص ملامح هذه الأزمة في أوجه مختلفة من الحياة، ابتداء بالقمع الشنيع الذي سبق أن طال المتظاهرين في العاصمة بغداد وعدد من مدن جنوب العراق في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2019 وذلك عندما عمَّت الشوارع تظاهرات واعتصامات حاشدة استمرت لما يقرب من عام كامل، كانت الشعارات المرفوعة فيها تطالب بإجراء تغييرات في بنية النظام السياسي لتحقيق العدالة الاجتماعية، فسقط ما يزيد عن 1000 قتيل من المتظاهرين معظمهم من الشباب، جراء العنف المفرط الذي اقترفته عناصر مسلحة ملثمة، لم تعرف حتى الآن مرجعيتها، مع أنها كانت ترتدي الزي الرسمي للقوات الأمنية العراقية.
بناء على هذا السياق نرى ارتباطا وثيقا بين ازدهار الإنتاج الدرامي والبنية الثقافية لعامة المجتمع،على اعتبار أن الفن الدرامي في مقدمة الوسائط الجمالية الأكثر جماهيرية للتعبير عن الأفكار والظواهر التي يطفح بها الواقع، انطلاقا من طبيعة العلاقة المباشرة التي تجمعه مع متلقين ينتمون إلى مستويات اجتماعية وخلفيات ثقافية مختلفة، لكنهم يتسمرون جميعا أمام شاشات القنوات الفضائية ليلا، للترويح عن أنفسهم بعد أن يعودوا من أماكن عملهم آخر النهار، وهذا الحال يفرض على الفن الدرامي أن يكون واضحا وبسيطا في خطابه الفني، ولا ينحاز في أسلوبه إلى التعقيد والغموض والترميز والتجريد، كما في الفنون الأخرى مثل الرسم والنحت والمسرح وحتى السينما.

الدراما والمدينة وتراجع المدنيّة

إذا ما تأملنا الحالة الثقافية في البيئة الاجتماعية العراقية خلال العقود الأربعة الأخيرة، سنرصد فيها ارتدادا وتراجعا كبيرا في حرية التفكير والتعبير، ونعزو ذلك إلى طبيعة الأوضاع السياسية التي مر بها العراق وما تركته من تصدعات كبيرة في الوعي، نتيجتها كانت انهيار منظومة القيم والتقاليد الثقافية المدنيّة التي شهدت أولى صور ولادتها مع بداية تأسيس الدولة العراقية عام 1921 واستمر التحوَّل المديني ينمو ويضرب بجذوره في حياة سكان المدن العراقية لعقود طويلة، وإن كان التحول بطيئا بسبب المصدات الاجتماعية الموروثة، إلى أن حلت كارثة غزو الكويت في 2 آب/أغسطس 1990 لتكون بمثابة لحظة افتراق تاريخية عن مظاهر وتقاليد الحياة المدنية، تداعياتها أن بدأت قيم القبلية والعشائرية والمذهبية تزحف بوتيرة متسارعة لتكتسح المدينة على حساب تراجع القيم المدنيّة وتضاءل دورها في حياة أبناء المدن.

مسلسل «روح» والاقتراب من الواقعية

من الصعب أن نرى الإنتاج الدرامي العراقي اليوم متحليا بالجرأة، طالما البيئة الاجتماعية أمست محكومة ثقافتها بخطوط حمراء عريضة، تفرضها قوى مهيمنة في سطوتها، وسيكون أمرا لافتا إذا ما خرج عمل درامي من وسط هذه العتمة حاملا قدرا من الجرأة، وهذا ما جاء عليه مسلسل «رُوح» تأليف محمد خماس وإخراج حسن حسني، الذي عرض في السباق الرمضاني لهذا العام، حيث يتناول العمل ما يتعرض له مرضى متلازمة داون من استغلال بشع في حياتهم اليومية، وتمثل الطفلة روح التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها هذه الفئة من المرضى، وتتجلى جرأة العمل عندما تحمل روح، بعد أن يغتصبها منتسب لجهاز الشرطة برتبة صغيرة، مستغلا علاقته بجدِّها الذي يكن له احتراما وثقة، وخلال 13 حلقة تجري عملية البحث عن المغتصب إلى أن يتم اكتشافه في الحلقة 14.
سيناريو المسلسل كان جريئا عندما انحاز للواقعية فقدم لنا شخصية منحرفة أخلاقيا، لها دوافعها الذاتية الخاصة بها التي تقف خلف سقطتها ولم نر أي إشارة لتعميم هذا النموذج على جميع عناصر الشرطة، وإذا ما استعرضنا تاريخ الإنتاج الدرامي العراقي الذي بدأ في ستينات القرن الماضي، لن نعثر على عمل درامي أظهر لنا شخصية شرطي بمثل هذا التصوير والبناء الواقعي من حيث الكتابة، وإذا لم تظهر ردود أفعال غاضبة من قبل مؤسسة الشرطة العراقية ضد الجهة المنتجة للعمل بعد انتهاء عرض حلقته الأخيرة، آنذاك سينتصر الوعي الثقافي العام، لأن شخصية الشرطي تمثل نفسها فقط، وليست تعبيرا عن ظاهرة عامة متفشية بين جميع عناصر الشرطة.
من الأهمية بمكان أن تصل الثقافة العامة إلى حالة مطمئنة من الوعي وهي تتابع عملا دراميا، فتنظر إلى سلوك الشخصية المنحرفة، باعتباره سلوكا فرديا مشروطا بالظروف والعلاقات داخل العمل الفني، فتتوقف عن تعميم الشخصية وإسقاطها على كل الذين تنتمي إليهم اجتماعيا أو مهنيا أو دينيا. فالعلاقة بين الشخصية الدرامية والواقع تعتمد على السياق والرؤية الفنية التي من خلالهما يتم تصوير الشخصيات، ومع أن الشخصية الدرامية غالباً ما تُستَلهَم من نماذج واقعية تعج بها الحياة، لكنها ليست صورة مستنسخة عنها بكل تفاصيلها، بل تبقى متخيلة عنها أو عن مجموعة ملامح متناثرة من شخصية أو عدة شخصيات، إلاَّ أن مخيلة المؤلف تعمل على خلقها وفقا لرؤيته، وقد يكون للشخصية الدرامية تأثير كبير على المتلقين، وتساهم في إثراء ثقافتهم أكثر من الشخصيات الحقيقية المستلهمة منها، وهنا تظهر أهمية خطاب العمل الدرامي، خاصة عندما تتحلى رؤيته بالجرأة والعمق في التناول، فيتحول إلى وسيط جمالي يلهم وعي المتلقي ووجدانه إزاء قضايا إنسانية، ويحفزه على اتخاذ موقف منها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية