ماهية الزمن في الرواية… رؤية في ضوء قضايا الإنسان

ما علاقة الزمن بالإبداع الروائي، وبقضايا الإنسان وهمومه؟ نطرح هذا السؤال، لأنه قد يتبادر إلى الذهن أن الزمن ليس ذي صلة مع الإبداع الروائي، ومع مشكلات الإنسان وأزماته، التي تنحصر في المشاعر والأحاسيس، وكدّه في الحياة من أجل لقمة العيش، ومن ثم تنعكس على واقع الإنسان شقيا كان أو سعيدا، إلى جانب الأبعاد الفكرية التي تغلف كل ما هو إنساني.
لكن إذا تأملنا أكثر، سنكتشف أن الوشائج عظيمة بين الزمن والإبداع، فهناك تلازم بين الرواية والطبيعة الزمنية للتجربة الإنسانية، الذي يمثل صورة من صور الضرورة العابرة للثقافات، أي بعبارة أخرى: يصير الزمن إنسانيا بقدر ما يتمّ التعبير عنه، من خلال طريقة سردية، ويتوفر الزمن على حين يصير شرطا للوجود الزمني. ولكي تتضح الصورة أكثر، نضرب مثالا، من خلال الثلاثية الروائية الشهيرة لنجيب محفوظ: «بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية» فهذه الروايات ما هي إلا رحلة زمنية لعائلة مصرية، تبدأ من الجد السيد أحمد عبد الجواد، وتنتهي بالأحفاد. فالزمن هنا زمن خاص بالعائلة، وبالأحياء التي سكنوا فيها، وهو أيضا زمن الوطن مصر، من خلال الأحداث السياسية والتاريخية التي أصابت المجتمع في الأساس، وانعكست على الأسرة، فالابن «فهمي» استشهد برصاص الاحتلال الإنكليزي في ثورة 1919، وتفاعل شباب الأسرة مع ما مرّ بمصر من أحداث، وانخرطوا في جماعات وأحزاب سياسية سرية أو علنية، لتحرير الوطن. فلا يمكن قراءة الرواية في أبعادها الإنسانية، بتغافل البعد الزمني فيها.
وكما يشير عبد الملك مرتاض في كتابه «في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد» بأن الزمن مظهر وهمي، يُزَمْنن الحياة والأحياء والأشياء فتتأثر بمضيه الوهمي، غير المرئي وغير المحسوس. فالزمن كالأوكسجين يعايشنا في كل لحظة من حياتنا، وفي كل مكان من حركاتنا، غير أننا لا نحس به، ولا نستطيع أن نتلمسه، كما نرى أثر مرور الزمن وثقله وفعله ونشاطه في الإنسان حين يهرم، وفي البناء حين يبلى، وفي الحديد حين يصدأ، وفي الأرض حين تتخدد، فالزمن مظهر نفسي لا مادي، ومجرد لا محسوس، ويتجسد الوعي به من خلال ما يتسلط عليه بتأثيره.
إن الزمن ليس محسوسا على مستوى كينونته، لكن يمكن تلمّس آثاره، ومعرفة تطوراته، مقارنة بين أيام الطفولة والشباب والشيخوخة؛ عندما نطالع صورا مختلفة لمراحل عمرنا، ونتأمل تجاعيد الوجوه، وتغيّر ألوان الشعر حسب مراحل عمرنا. وللزمن بعد آخر في الرواية، عندما يتعلق بمصير الإنسان، وتقلبات الحياة به، والتغيرات الطارئة على المجتمعات، ما بين اليسر والعسر. فلا بد من الوعي بالزمن، لدى الروائي، والقارئ، والناقد، من خلال قراءة دوائر الزمن في محيطها الإنساني، أو انعكاس الزمن على الإنسان، أو زمن إبداع النص والقضايا الساخنة فيه.
فثمة أزمنة عديدة تحيط بالرواية، منها زمن الحكاية أو الزمن المحكي، وهي زمنية تتمخض للعالم الروائي المُنشَأ. وهناك زمن الكتابة؛ ويتصل به زمن السرد، مثل سرد حكاية شعبية ما، وأيضا زمن إفراغ النص السردي على القرطاس، وهو يشابه زمن الحكي الشفاهي على الآذان المتلقية. وهناك زمن القراءة الذي يصاحب القارئ وقت قراءة النص الروائي. ويضاف كذلك زمن المخاض الإبداعي وهو تلك اللحظة العصيبة التي تحاكي المخاض الفكري، حيث لا يكون السارد هو نفسه متمكنا من هذا المولود الخيالي الجديد. وإنما تراه هو أيضا يبحث عنه في المخيلة الخلفية.
فعلى قارئ الرواية أن يضع في حسبانه هذه الأزمنة، وهو يقرأ النص الروائي، فالرواية المكتوبة عن الحرب العالمية الثانية، تقدم زمنا مغايرا لزمن القارئ المعاصر، الذي يتوجب عليه إعمال مخيّلته؛ ليفهم الزمن المصاحب للرواية، وظروف إبداع الرواية نفسها، في زمن كتابتها، وزمن مخاضها، لكي يكون واعيا بالقضايا الإنسانية المطروحة في الرواية، على صعيد الصراعات الدموية والضحايا وأنانية الزعماء.
وتستلزم القراءة لأزمنة الرواية – الداخلية والخارجية – منهج الهرمنيوطيقا (التأويل) الذي يساهم في إعادة بناء شبكة العمليات التي يرتفع بها العمل الأدبي فوق الأعماق المعتمة للحياة، والتصرف والمعاناة. فنحن نتابع مصير زمن مصور سابقا، يتحول إلى زمن يعاد تصويره من خلال وساطة زمن متصوَّر.
فقارئ ثلاثية نجيب محفوظ، في عصرنا الآني؛ عليه معايشة الأزمنة الخارجية الثلاثة لكل رواية من الثلاثية، لأنها تنتقل من جيل إلى جيل، وفي كل جيل هناك قضايا وطنية تؤرقه، وهموم شخصية تلازمه. فشخصيات الرواية لها أزمنتها الخاصة، التي تتدرج فيها من الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة، وفيها جوانب من معاناتها مثل إصابتها بمرض أو فقدان الابن، ونظرتها للأحداث التي يمر بها الوطن، والأفكار التي تشغل الناس، ويجب تأويل كل هذا في رؤية فكرية ونفسية. كما يلزم أيضا عدم الاكتفاء برصد الزمن، وتحليله، والوقوف على تبدلاته وأجوائه، وإنما لا بد من السعي إلى فهم دلالة ذلك، وربطه مع الأفكار التي يطرحها الروائي في نصه. وعلينا الانتباه إلى أن دور القارئ الفاعل هو إعادة تصور- خياليا- السرد في الرواية، وإكماله في ذهنه، أي أنه يبني خيالا على خيال الرواية، ويتبع ذلك تصور الزمن الخارجي لكتابة الرواية، والأزمنة الداخلية التي تكتنف أحداثها، فلن يفهم الطروحات الإنسانية وقضاياها إلا بفهم الزمن؛ ديناميته أو سكونه.

كاتب وأكاديمي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية