ليت أسماء

أبحث عن كتاب يحيى الطاهر عبد الله، فأتذكر أمل دنقل، ويحملني أمل إلى أسماء يحيى الطاهر، وأسماء الطاهر تأخذني إلى أسماء الأسد!
هكذا تقطع الأفكار رحلاتها العجيبة داخل رؤوسنا في ثوان معدودات، قفزًا من نافذة إلى نافذة، بخفة شخص يتعرض للمطاردة؛ فتتولد بداخله قوة لم يعرفها في نفسه من قبل.
مات يحيى الطاهر عبد الله يوم 9 نيسان / أبريل عام 1981 ولا يمر ذلك اليوم من دون أن أمد يدي لقراءة شيء منه، حتى ولو قصة قصيرة جدًا من قصص مجموعتيه التجريبيين ‘أنا وهي وزهور العالم’ و’الرقصة المباحة’. لكنني لا أفعل ذلك إلا وأتذكر رفيقيه أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودي، متعجبًا كيف أنجب مربع صغير من قرى الصعيد في ذات الوقت ثلاثة من كبار المبدعين المصريين. والثلاثة معًا يذكرون بأسماء التي لم ينزلها يحيى من فوق كتفه إلا ليضعها على كتف واحد من أصدقائه، حتى أنه رحل في حادث سيارة على طريق الواحات، وكانت معه في السيارة كذلك، لكنها نجت ليعزيها أمل، ولما تكن تفهم:
تعرف أن أباها صعد
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصباً، بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد.

مرثية أمل صارت واحدة من أعذب قصائد الرثاء في الشعر العربي، ومن الطبيعي أن يجري كل هذا التداعي في لحظة البحث عن مجلد الأعمال الكاملة ليحيى، لكن يدي تعثرت في كتاب آخر يعاني وحشة الإهمال منذ اقتنيته عام 2005 وهو الذي استدعى أسماء الأخرى، لتتأكد في ضميري حقيقة جديدة، حول علاقة المخ بالأعضاء الأخرى في الجسم؛ فلولا مددت يدي إلى رف المكتبة لم تكن أسماء ابنة الملاك الصاعد لتلهث من شباك إلى شباك وإذا التي تقفز في النهاية ليست ابنة الملاك الصاعد، بل أسماء أخرى زوجة شيطان ساقط. وليس أعجب من حكايات يحيى الطاهر إلا حكايات ريكاردو أوريزيو في الكتاب الذي تعثرت به يدي: ‘حديث الشيطان.. حوار مع سبعة ديكتاتوريين’ ترجمة عهد علي ديب، وقد صدر في دمشق في 2004 عن دار بترا.
تتبع الكاتب السبعة الكبار في مجال الجرائم ضد الإنسانية، متنقلاً بين منافيهم البائسة، بعضهم كان قد خلد إلى النسيان والبعض واصل ممارسة حصته في القتل ببلاده سرًا من موقعه الجديد بدعم من مضيفيه الكرماء. بعضهم حصل الصحافي منه على كلمات عابرة وتافهة والبعض تحدث إليه مطولاً، والبعض لم ينل منه سوى ظله أو رائحة تركها بالأمس في مقهى لم يعد إليه ثانية عندما علم بوجود الصحافي الصياد.
الممتع في الكتاب هو الطريق إلى الديكتاتور وليس ما يقوله الديكتاتور نفسه.رحلة البحث المضنية عن العنوان، وعندما يصل الكاتب، لا نرى أية علاقة بين رئيس سفاح كانت كلمته قدرًا، وبين الشخص التافه المنسي الذي انتهى إليه، حتى أن المحاور لا يستطيع أن يخرج منه بوجهة نظر متماسكة حول أي شيء الحياة.
عيدي أمين، بوكاسا، ياروزلسكي، أنور خوجا، دوفالييه، منغستو، وميلوزوفيتش. جثث في ثلاجة مطبخ الزعيم، عشيقة ووزيرة خارجية يقيلها الزعيم على الهواء مباشرة في نوبة غيرة، متهمًا إياها بتلطيخ سمعة البلاد بمارسة الجنس مع رجل أبيض في مرحاض أحد المطارات، تكسير لأطراف الزوجة وإعادة وصلها بالجسم في غير أماكنها. فظائع أنتجتها مخيلات قوية لكن مجرمة.
نشر الكتاب في ‘سوريا الأسد’ ومن الواضح أن الرقابة سمحت به إيمانًا منها بأن كل هؤلاء لا يشبهون زعيمهم الصغير الألثغ المفتون بالتنظير السياسي، ولم يكن ولعه بالتنظير يشكل علامة خطر؛ فهي مرحلة يمر بها كل المراهقين المهتمين بالسياسة في سنتهم الجامعية الأولى.
الرقابة تقرأ جيدًا، لكن من المستحيل أن تكون الزوجة الشابة قد قرأت الكتاب، على الرغم من مرتزقة الثقافة الذين روجوا لصورتها كقارئة نهمة. وتلك قصة أخرى تثبت أن أسماء كانت أقدم من زوجها في جلب الميلشيات الأجنبية. وأن المثقفين ارتكبوا ويرتكبون حماقات المعارضة بالمفرق لا الجملة، وهكذا صار بمقدور الديكتاتور العربي استقدام مؤيدين من بلد عربي آخر، عندما يستشعر قلة في عدد جنوده أو نقصًا في كفاءتهم!
وكان أقوى أفراد الأمن الثقافي لدى بيت الأسد شيوعي عراقي معتزل، وضع استثماره الثقافي في دمشق بدلاً من بغداد التي رفضته، وكان دائم الظهور في مؤتمرات الثقافة المصرية. وذات مؤتمر اختلف مع الناقد عبد الرزاق عيد، فهدد الضيف ابن البلد على مرأى من الجميع: حسابنا في سوريا عندما نعود!
في ذلك المؤتمر كان يلح على من يلتقيه من الكُتّاب:’أريد نسخة بتوقيعك للسيدة أسماء’ وعندما يستشعر حيرة أو حرجًا من الكاتب المشتاق إلى أن يكون مقروءًا، يضيف مشجعًا له: ‘هي قارئة نهمة’.
ربما كانت هذه طريقة الرجل لإثبات مكانته، ولم تصل هذه الكتب أسماء أبدًا، وإن وصلتها فمن غير المعقول أن تكون قد قرأت منها أكثر من إهداءات كُتّابها المتلعثمة، وإلا ما ظلت زوجة لشيطان. وليتها تقرأ الآن كتاب ‘حديث الشيطان’ لتعرف إلى أي درك هوى زوجها، بعد أن جمع في وجهه ملامح الشياطين السبعة الذين التقاهم ريكاردو أوريزيو.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    كل الاحترام لهذا الكاتب المبدئي.

  2. يقول minna:

    شكرا للكاتب الجريئ الذي يعرف تماما من هو الاسد ..انه فعلا شيطان و..حتى شكله اذا امعنت النظر اليه لا ترى هيئة انسان ..من يدمر سوريا بهذا الشكل و يقتل كل هذا الكم من البشر ..واسماء عارضة الازياء وام رئيس سوريا المستقبل عمياء بالقوة ..

إشترك في قائمتنا البريدية