ليبيا: إعمار درنة مشروع فساد ضخم

رشيد خشانة
حجم الخط
0

مع إسناد صفقة إعادة إعمار مدينة درنة إلى مجموعة شركات إماراتية، وفوز شركات مصرية بمشاريع ضخمة في إطار المخطط نفسه، يُفتح باب الفساد على مصراعيه، وتدخل ليبيا مرحلة صعبة من الاتهامات والاتهامات المضادة، على نحو يزيد من تسميم العلاقات بين الفرقاء، ويُعرقل أي تقدم على طريق الحل السياسي. وإذا كانت الرسالة تُقرأُ من عنوانها، فإن تسمية بلقاسم خليفة حفتر مديرا تنفيذيا لشركة إعادة إعمار درنة، تؤكد أن العملية لن تكون شفافة. وتبدو ليبيا، في الفترة الراهنة، كما لو أنها سوقٌ كبيرةٌ يتبارى فيها الحائزون على الصفقات، بُغية انتزاع أكثر ما يمكن من المشاريع المعروضة للإنجاز.

شفافية؟

تزامن ذلك مع إسناد مشروع خط ضخم لأنابيب نقل الغاز، يقع في صحراء سرت (وسط) إلى مجموعة «أويل إنفست» الليبية، والتي تشترك في رأسمالها عدة مؤسسات عمومية ليبية. في المقابل تبدو هذه الصفقات بعيدة عن الشفافية، إذ من الصعب أن تعثر اليوم في ليبيا على مؤسسة رقابية مشهود لها بنظافة اليد والمصداقية، لكي تلاحق الفاسدين من أجل محاسبتهم. ويُعزى ذلك إلى تضعضع المؤسسة القضائية على مدى السنوات العشر الأخيرة، واستنزاف القضاة ومساعديهم. كما يُعزى خاصة إلى سيطرة الأجسام شبه العسكرية في المنطقة الغربية، حيث تتولى فرض الأمن والنظام، في ظل سيطرة قوات خليفة حفتر على المنطقة الشرقية بقبضة من حديد. ولهذا السبب فإن المنصب الذي عُين فيه بلقاسم حفتر (مديرا عاما لصندوق الإعمار) يؤشر إلى أن معايير الكفاءة والاقتدار، في مجال هندسة المياه، وفي إقامة مشاريع استراتيجية، لم تُؤخذ في الاعتبار لدى تسميته مديرا عاما.

كلفة إعادة الإعمار

ويُعتبر مشروع ربط حقول سرت (وسط) بميناءي رأس لانوف والسدرة (شرق) بطول 700 كيلومتر، من أضخم المشاريع التي ستنفذها شركة «أويل إنفست» التابعة للمؤسسة الليبية للاستثمار. وتقدر القيمة الاستثمارية للمشروع بقرابة ملياري دولار، حسب نشرة «أفريكا إنتليجنس» الفرنسية المُتابعة للشؤون الاستخباراتية، فيما عزت مصادر مصرية ترسية هذه الصفقة على «أويل إنفست» إلى أن الأخيرة قدمت عرضا فاق عرضي شركتين مصرية وإماراتية. وتُقدر كلفة إعمار درنة والمناطق المتضررة الأخرى، التي غمرتها السيول، بـ1.8 مليار دولار، وفق تقرير دولي مشترك بين البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

1.5 مليون مُتضرر

أعلنت حكومة أسامة حماد تشكيل صندوق إعادة إعمار درنة، وهو معني بإعمار مدينة درنة والمدن والمناطق المتضررة من الفيضانات المدمرة الناجمة عن العاصفة «دانيال» التي اجتاحت مناطق الجبل الأخضر في أيلول/سبتمبر الماضي.
وبعد أيام من إنشاء الصندوق، اجتمع وزراء من الحكومة الموازية، برئاسة أسامة حماد، مع وفد ائتلاف شركات إماراتية، للبحث في تنفيذ مشروعات «إعمار درنة». وأظهر تقويم أجراه مكتب «ديلويت» للتدقيق المالي، استقرارا نسبيا في قيمة أصول المؤسسة الليبية للاستثمار، في السنوات الأخيرة، بفضل الزيادة في قيمة شركة «أويل إنفست» وفي محفظة الاستثمار طويل الأمد، التابعتين للمؤسسة. وحسب التقرير أثرت كارثة السيول في حياة 1.5 مليون شخص بشكل كامل، يشكلون 20 في المئة من سكان البلد، ويقيمون في المدن الساحلية والداخلية الأكثر تضررا، إلى جانب تعرض أكثر من 18.500 وحدة سكنية للدمار أو الضرر الجزئي. وشملت هذه التقديرات 20 بلدية، من بينها المدن الخمس الأكثر تضررا، وهي درنة وسوسة والمرج وشحات والبيضاء، حيث سُجلت 85 في المئة من الأضرار والخسائر.

غياب الرعاية الصحية

ولفت التقرير إلى نزوح نحو 44.800 شخص في البداية ومنهم 16.000 طفل، مشيرا إلى تدهور إمكانية حصولهم على خدمات الرعاية الصحية والتعليم، إلى جانب تفاقم انعدام الأمن الغذائي في المناطق المتضررة. وتشير التقديرات إلى أن 70 في المئة من تكاليف إعادة الإعمار اللازمة سيتم تخصيصها للبنية التحتية، وأن الإسكان سيشكل المكون الأكبر منها. من هنا تأتي أهمية التعاون والتنسيق بين أصحاب المصلحة في جميع أنحاء البلد، وكذلك أهمية مساندة الشركاء الدوليين، لدفع عجلة التعافي المستدام إلى الأمام، والقادر على الصمود والشامل للجميع في ليبيا. وهذا ما أكدته أيضا نائب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة منسق الشؤون الإنسانية في ليبيا جورجيت غانيون، التي اعتبرت أن «الوقت مهم للغاية بالنسبة للمتضررين في شرق ليبيا» مؤكدة أن «خريطة الطريق المقترحة تقدم مسارا واضحا للمضي قدما نحو إعادة الإعمار».

عروض إماراتية

في هذا الإطار قدم الوفد الإماراتي عروضًا للجانب الليبي حول رؤيته لإعادة إعمار درنة والمناطق المتضررة في المنطقة الشرقية. وتضمنت الرؤية تصورا شاملا لترتيب أولويات إعادة الإعمار، ومعالجة أسباب انهيار سدي درنة، مع التطرق لإنشاء شبكات المياه والصرف الصحي، ومحطات التحلية بالمدينة، وفق المواصفات العالمية، على ما قال أعضاء الوفد الإماراتي.
ويوم الأحد الماضي وقع كل من بلقاسم حفتر ورجل الأعمال المصري ابراهيم العرجاني، رئيس شركة «نيوم» المصرية على عقود كبرى، لإنشاء أحد عشر جسرا، موزعة بين درنة وأجدابيا وبنغازي. كما وقع بلقاسم حفتر على عقود أخرى، في مجال الإنشاء والإعمار، مع هاني ضاحي رئيس شركة «وادي النيل» المصرية. وهذا يعني أن الحكومة المعترف بها دوليا، برئاسة الدبيبة، مُستبعدة تماما من مشروعات ضخمة بهذا الحجم والأهمية، ما قد يؤدي إلى تجاذبات قوية بين الحكومة المعترف بها دوليا برئاسة الدبيبة، والحكومة الموازية برئاسة حماد.

أباطرة الفساد

وفي السياق أعلنت الحكومة الموازية برئاسة حماد، أنها عقدت اجتماعا مع وفد ائتلاف شركات إماراتية، لتنفيذ مشروعات ضمن مخطط «إعمار درنة» وذلك بعد ثلاثة أيام من إنشاء الصندوق المعني بتنفيذ هذه المهمة. ولوحظ أن المشاركين في الاجتماع، الذي حضره حماد، هم رئيس لجنة إعادة الإعمار والاستقرار حاتم العريبي، والمدير التنفيذي لصندوق إعادة إعمار درنة والمناطق المتضررة بلقاسم حفتر من جهة، وممثلو ائتلاف شركات إماراتية متخصصة في مجال المقاولات والإنشاءات من جهة ثانية. ومن الواضح أن مجلس النواب لن يستطيع أن يفعل شيئا أمام أباطرة المال، وبالتالي فإن هذه الصفقات الجديدة لن تُعرض عليه، وإن عُرضت فمن باب التمويه. يُؤكد هذا التقصيرُ تعاطي أعضاء المجلس مع التقارير التي تُنشر بين الفينة والأخرى، والتي تخص الفساد وهدر المال العام، أسوة بالتقرير الأخير لديوان المحاسبة.

زيادات وانتدابات

أظهر التقرير ارتفاعا ملحوظا في باب الرواتب، زيادة على انتداب نحو 270 ألف موظف جديد في 2021 أي السنة التي اعتلى فيها الدبيبة سدة رئاسة الوزراء. ومن المعلومات الخطرة التي تضمنها التقرير أن الترفيع من رواتب الدبلوماسيين الليبيين، خلال السنة نفسها، أثقل كاهل الموازنة، إذ كلف الدولة 544 مليون دولار، زيادة على تضخم رواتب الموظفين التابعين لمجلس الوزراء أيضا.
وتتجلى شبهة الفساد كذلك في صرف بدائل السفر والمبيت لموظفين تابعين لمجلس الوزراء، والتي بلغت إجمالا ما لا يقلُ عن أربعة ملايين دينار. أكثر من ذلك، تم إيفاد أشخاص لا تربطهم علاقة وظيفية برئاسة مجلس الوزراء، وتسديد فواتير إقامتهم بالفنادق في العاصمة طرابلس، من دون إيضاح صفاتهم أو تبعيتهم الإدارية لمجلس الوزراء. وأبرز التقرير عمليات انتداب موظفين بأضعاف رواتبهم، وتكليف مستشارين لمجلس الوزراء، من دون عقود تُحدد مدة عملهم ومقراتهم، بل حتى من دون إرفاق مستندات بمؤهلاتهم العلمية، وسنوات الخبرة التي تلقوها، إن ثبت أنهم تلقوا فعلا خبرة.

تقاعس عن حصر أملاك الدولة

ووضع ديوان المحاسبة الإصبع على معضلة أخرى وهي ما اعتبره «تقاعسا» من مصلحة أملاك الدولة، عن أداء مهامها المتمثلة في متابعة أملاك الدولة وحصرها، سواء في الداخل أم الخارج. ورصد محررو التقرير تضاربا في الاختصاصات، خصوصا في ما يتعلق بإجراءات تخصيص مشاريع استثمارية بين مصلحة الدولة وعدة جهات استثمارية أخرى. أكثر من ذلك لاحظ كُتاب التقرير، عدم التطابق بين أسعار البيع المعتمدة من قبل «مصلحة أملاك الدولة» والواقع الراهن، إذ يتم التعامل بالأسعار المعتمدة منذ العام 1964 مع إضافة زيادة سنوية بـ5 في المئة.
وتوالى في الفترة الأخيرة إصدار تقاريرُ تكشف النقاب عن اتساع رقعة الفساد الذي بات ينخر أجهزة الدولة، ومن بينها دراسة لمعهد الأمم المتحدة الإقليمي لأبحاث الجريمة والعدالة، نقل فحواها مركز «أوراسيا ريفيو للدراسات والبحوث» الأمريكي. وقدرت الدراسة متوسط الخسارة السنوية، من التدفقات المالية غير المشروعة في ليبيا، بـ1.2 مليار دولار.

مافيا تهريب المهاجرين

كما أظهرت الدراسة أن المستفيد من تلك الخسارة مافيا تهريب المهاجرين، التي تغنم قرابة 236 مليون دولار، سنويا، زيادة على نحو 30 مليون دولار، من تهريب الأسلحة الصغيرة والخفيفة، وسط ضعف القدرة على السيطرة على الأراضي الليبية الشاسعة وغياب سلطة الدولة من بعض المناطق، وخاصة الجنوب. وقدرت الدراسة أن حجم تجارة السلاح، في مرحلة ما بعد سقوط القذافي، يُراوح بين 15 و30 مليون دولار سنويا. ويوفر تهريب النفط إلى دول الجوار 20 في المئة من دخل الأجسام شبه العسكرية «الميليشيات». وعوضا عن العمل على إدماج عناصر تلك الميليشيات في الأجهزة الأمنية والعسكرية، تدريجيا، ظل الدبيبة يُنفق على أمراء تلك الجماعات، ويعتمد عليهم في الدفاع عن مؤسسات الدولة وحماية رجالها.

إلى تاريخ غير مُحدد

واللافت أن الدبيبة حض وزراء حكومته، في كلمة ألقاها في بدء السنة الماضية، على «مزيد من الشفافية لقطع الطريق على أي اتّهام بالفساد» وفق تعبيره. وأتت تلك الكلمة بعد مرور حوالي السنتين على بروزه في المشهد السياسي، على إثر انتخابه رئيسا للوزراء للفترة الانتقالية، وفق خريطة طريق، كانت تقضي بتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في موفى العام 2021 لكنها أرجئت لتاريخ غير مُحدد. في أثناء ذلك، أعلنت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، في 26 كانون الثاني/يناير 2022 عن تشكيل لجنة لمتابعة ملف الدبيبة، وإقرار الذمة المالية الخاصة به وأفراد أسرته، استعدادا للترشُح للانتخابات الرئاسية. ويُعلق خصومه بأن عليه مغادرة كرسي رئاسة الوزراء طالما أنه قدم ترشحه للرئاسة، ويعتزم إعادة تقديمه عندما يُفتح باب الترشحات مُجددا. وفي جميع القوانين الانتخابية يُعتبر الإصرار على البقاء في الحكم مع الترشُح شكلا من أشكال تضارب المصالح، وهو سببٌ كاف لإلغاء نتائج الانتخابات، لأن الفرص لم تُعط لكافة المترشحين بالتساوي.

مقرّب من القذافي

ومن المهم التذكير هنا بأن الدبيبة بدأ يبرز في المشهد الليبي منذ عمله مع النظام السابق، وتحديدا منذ سنة 2006 عندما تمّ تعيينه على رأس الشركة الليبية للتنمية والاستثمار القابضة «ليدكو» والتي تملكها الدولة الليبية. وكان علي الدبيبة صهر عبد الحميد والمقرب من القذافي، يشغل منصب رئيس جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية «أوداك»ODAC علما أنّ الشركة الليبية للتنمية والاستثمار كانت جزءا من نظام المقاولات الخاص بـ«أوداك».
وعندما مسك المجلس الوطني الانتقالي (برلمان مؤقت) بمقاليد الحكم، بعد انتفاضة 2011 أُدرج اسمُ عبد الحميد الدبيبة في قائمة الليبيين الخاضعين للعقوبات، بسبب علاقتهم بنظام القذافي، بموجب القانون رقم 47 لسنة 2012 المتعلّق بإدارة أموال وممتلكات بعض الأشخاص من رموز النظام السابق. وينصّ هذا القانون على وضع أموال وممتلكات هؤلاء الأشخاص المتورطين مع النظام، بالإضافة إلى أموال وممتلكات أزواج وأبناء الأشخاص الطبيعيين منهم، تحت إدارة حارس عام. وورد اسم عبد الحميد الدبيبة في الرتبة 114 من الجدول المرافق لذلك القانون.
ويجوز القول إن الفساد، الذي نخر مؤسسات الدولة في ليبيا، طيلة السنوات الأخيرة، لم يتسن القضاء عليه، لأن الغالبية مستفيدة منه، بطريقة أو بأخرى، ما أنهك الدولة، وجعل الفاسدين أقوى من المؤسسات، المشلولة في معظمها.

ليبيا في مدركات الفساد

وعليه لا مجال للاستغراب إذا حلت ليبيا في الرتبة المئة وسبعين في مؤشر مدركات الفساد للعام 2023 مُتأخرة عن السودان وتشاد وأفغانستان، حسب «منظمة الشفافية الدولية» التي أصدرت المؤشر. ويمكن القول إن تصنيف ليبيا لم يتغير تقريبا، وأنها لم تحقق أي تقدم، في هذا المضمار، قياسا على السنة الماضية، إذ كان ترتيبها171.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية