‎سيزيف السوري… عن رياض الترك الذي ترك صخرته للمجهول

لا يقرب التفاؤل كما يبدو سنةً تبدأ يومها الأول 2024 بوفاة رياض الترك، الرجل الثوري الفريد بقلبه الشجاع، الذي يحفظ السوريون له كلمته عند موت حافظ الأسد في أجواء الخوف من ترديد كلمة موتٍ على شفةٍ، علناً على قناة «الجزيرة» الفضائية: «مات الديكتاتور»، وكلمته: «لن أنتخب بشار الأسد». ويحفظون له استشرافه التحريضي للثورة السورية قبلها بأقلّ من شهر في مقاله المنشور في «القدس العربي»: «لقد ولّى زمن السكوت، لن تبقى سوريا مملكة للصمت». كما يحفظون له مسيرته في العمل الوطني السياسي الطويل، الذي لا يكلّ، على نبذ عبادة الفرد، والمساهمة بقوة في إقامة التحالفات الوطنية من أجل التغيير الوطني الديمقراطي. ويحفظون له بشكل خاص، تاريخَ سجنه الأشهر لما يقارب ثمانية عشر عاماً، وخروجه من الجحيم بأمثولة أسطورية، ربما كانت الأبرز في تاريخ هذا الرجل، إذ تتماثل بدهشة مع عقوبة حامل صخرة اللاجدوى سيزيف، على سرقة نار المعرفة وتقديمها للإنسان.
في مقاربةٍ مذهلة، بين أسطورة سيزيف كما عرضها ألبير كامو في دراسته لفلسفة اللاجدوى في كتابه «أسطورة سيزيف»، وواقع سجين الرأي السابق رياض الترك، الذي أخذ موقفاً حاسماً في التضحية، تحت معرفته أنه يقوده للسجن إن لم يكن الموت، بتساؤل الكثيرين وقتها عن جدوى هذه التضحية «المجانية» في رأيهم… يروي رياض الترك نفسُه بعد خروجه من السجن في فيلم «ابن العم» الذي أخرجه محمد علي أتاسي عام 2001، تجربةَ سجنه المذهلة، دون محاكمة، بداية ثمانينيات القرن الماضي، طيلة ثمانية عشر عاماً في عهد حافظ الأسد، قضاها في زنزانة منفردة لم يعرف العالم مكانها في مبنى المخابرات العسكرية المرعب المسمى فرع فلسطين، المرقّم بـ235؛ ويعرض الرجل الحرّ مسألةً حسّاسة ومرعبة في معايشة الواقع ومعالجات الفن، هي مسألة الزمن الذي يتوقف بالنسبة للسجين الانفرادي، ويودي به وفقاً لتقديرات علماء نفس إلى الخلل العقلي بعد السنوات العشر من وجوده في هذه الحالة.
ومثلما حدّدت الآلهة عقاب سيزيف على فعلته، بانتهاء الزمن الذي يدور على نفسه، حيث على سيزيف أن يُدحرج صخرةً صعوداً إلى أعلى الجبل لتنحدر إلى مكانها في الأسفل عند بلوغها القمة، ويعود لرفعها مرة أخرى إلى ما لا نهاية… يضع دوران الكون لرياض الترك صخرتَه التي تضعه على صراط معنى دوران الزمن، في سكون السجن الذي وضعوه فيه، من أجل استبدال موت المعنى بخلقه لقهر هذا الموت، ويا للمصادفة! أن تكون صخرة الترك هي حبات زوان العدس الصغيرة المتحجرة التي تشوب شوربة عدس السجون السورية، والتي حوّلها السجين من عامل إذلال له بتقديم طعام رديء غير نظيف إلى عنصر مقاومة، صغير لكنه هائل الفعل، إذ وقاه من الاختلال طيلة أيام سجنه التي تسيل فيها الساعات، كما لو كانت كابوساً سريالياً خارجاً من مخيلة سلفادور دالي. بعد تنحيته، كما يروي، لتساؤلات ما يحدث في العالم الخارجي من ذهنه كي لا تقتله كوابيس القلق على عائلته ورفاقه، ركّز السجين على سؤال واحد هو: ماذا أفعل لقهر هذا السكون؟ وابتدأ البحث في داخله وما بين يديه من مكونات الزنزانة.

في داخله وجد السجين موهبةَ رسمٍ أبعدتْه عنها السياسة ومشاغل الحياة، وما بين يديه وجد حبّات زوان العدس، فقام بجمعها، وإكثار عددها لقمةً بعد لقمة، ومع عدم وجود حامل للرسم أو لاصق، بدأ بصفّها على سرير الزنزانة/ قماش لوحته الوحيد، مشكلاً منها لوحةً تبقى ما بين وجبة الطعام والوجبة المقبلة، حيث لا مكان على السرير ولا غراء للصق وتثبيت حبات الحجر؛ وكأن القدر، ولا شرط أن يكون مدرَكاً، يعيد إحياء أسطورة صخرة سيزيف التي تهوي من علٍ حال وصولها إلى القمة، بلوحات حبات الحجر التي تزول حال قدوم الوجبة التالية، وحال هجوع السجين إلى النوم، مع حسرة الفنان وتمنّيه أن لا تأتي وجبة الغداء كي يستمرّ في تشكيل لوحته، لكنه قدر سكون السجن، والقدر الذي صنعه السجين لمقاومة هذا السكون، بزوال تشكيلات اللوحة، والبدء من جديد برفع صخرة سيزيف التي تحط لتستمرّ أسطورة الإنسان في مقاومته للفناء.
في حالة مقاومة عطالة السكون التي يعرضها رياض الترك ببساطة، تلتقي عوالم الواقع والفن بصورة غريبة تسعد الحالمين وتعطيهم مبرراً للقناعة بأن كل شيء مرتّب لغاية، وتسعد النقادَ المولعين باكتشاف تشابك وتقارب العلاقات الغريبة وتعطيهم فرصة اكتشاف تأثير الفن في الواقع، مع إسباغ متعة الاكتشاف على النقد والتذوّق، مثلما تسعد الثوار على احتكار المعرفة والحياة، بالتضحية من أجل الإنسان والحياة.
من جهة الموقف وجدواه؛ خاض رياض الترك مع حزبه تجربة مهمة في محاولة نقل هذا الحزب مع اليسار السوري، إلى تبني الديمقراطية، وبلور على هذا الأساس مع القوى الوطنية الديمقراطية في نهاية السبعينيات برنامجاً سياسياً يهدف إلى إقامة نظام وطني ديمقراطي في سوريا، ولأن هذا هو مقتل النظام الاستبدادي الشمولي، قام حافظ الأسد بضرب هذه القوى، مستغلاً صراعه المسلّح الذي اختلقه مع الإخوان المسلمين، واعتقل معظم أفراد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي، وعلى رأسهم رياض الترك، مع ترويج كذبة تعاونهم مع الإخوان المسلمين، مستغلاً رفضهم إصدار بيان يقفون فيه مع النظام ضد الإخوان، رغم إدانة حزبهم للصراع المسلح وتحميل النظام المسؤولية عنه.

ومن جهة القيمة وجدواها؛ مَنع الموقف الصامد لهذا الرجل خوفَ المتردّدين من أن يؤثر على وحدة حزبه، أمام الضربة العنيفة التي طالت قيادته الأولى، ودَفَع المنظمات الإنسانية ولجان حقوق الإنسان أن تطالب السلطات السورية بالكشف عن مصيره، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، وأثّر في تغيّر مواقف وبرامج العديد من القوى الشمولية، التي عرفت قيمة التعددية والقبول بالآخر.

وقد نفى الترك هذا التعاون بعد خروجه، متحدياً مخابرات الأسد أن يأتوا بوثيقة واحدة تثبت ذلك. وكان خيار الرجل العلماني وحزبه، رفض إصدار مثل هذا البيان، والاستمرار في السجن والموت، مثلاً في التضحية من أجل التعددية والديمقراطية. ومن جهة العقاب وجدواه، ترتّب على موقف هذا الرجل وعقاب تبعاته، مقاومةَ القتل بالبحث عن عناصر المقاومة في داخله، وفي ما حوله، ليكتشف بممارسة بسيطة لا تحتاج إلى ابتكار، إذ هي موجودة داخل الإنسان، فعل الفن في إعلاء الروح وإنقاذ الفنان من الجنون أو الانتحار، وليعيد دون تخطيط منه، إذ تتضافر قوى التاريخ والثقافة الجمعية الإنسانية بصورة توحي بالقدرية، إحياء أسطورة مقاومة الإنسان للفناء، باستخدام أسلحة الفناء نفسها في هذه المقاومة، وكأن العقل والجسد الإنساني يجمّدان الزمن بالفن من أجل هزيمة تجميد الزمن.
ومن جهة القيمة وجدواها؛ مَنع الموقف الصامد لهذا الرجل خوفَ المتردّدين من أن يؤثر على وحدة حزبه، أمام الضربة العنيفة التي طالت قيادته الأولى، ودَفَع المنظمات الإنسانية ولجان حقوق الإنسان أن تطالب السلطات السورية بالكشف عن مصيره، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، وأثّر في تغيّر مواقف وبرامج العديد من القوى الشمولية، التي عرفت قيمة التعددية والقبول بالآخر، كما ساهم في دفع توجهات الأدب والفن للارتباط بالدفاع عن الإنسان، ليضفي هذا الموقف في النتيجة بعداً إنسانياً على قوانين الديالكتيك، التي لا تعترف بوجود ما هو مجاني في حركة الحياة، فكل شيء يخضع للتراكم الكمي، ويخلق بهذا التراكم في لحظة بلوغ ذروته تغيّر الكمّي إلى نوعي، ويبدو أن مراكمة القهر من قبل النظام والأفعال النبيلة من قبل شهداء ورجال المعارضة والتفاعل الإنساني مع المقهورين، بلغت ذروتها عبر امتداد تاريخ القهر والتضحيات، في صوت ضربة كفّ شرطي على خدّ شاب سوري في الحريقة في دمشق، لتشعل نار الهتاف الصارخ أن «الشعب السوري ما ينهان»، ولتنطلق مظاهرات ثورة الحرية والكرامة التي فاجأت من اتهموا الرجل وحزبه بالمغامرة.

ومن جهة سؤال الفلسفة الذي طرحه ألبير كامو في نهاية كتابه حول موقف سيزيف الظاهر من لا جدوى عمله: هل يمكننا التصور أن سيزيف كان سعيداً!؟ يمكننا رؤية ملامح «ابن العم» رياض الترك المليئة بالرضا، وهو يروي تجربته في دخول العالم السفلي، لنشعر بالاطمئنان على رضا وسعادة الرجل مما فعل حتى وهو يروي عن نفسه أنه شخصية لا تشعر بالرضا عن المنجز، ولا بد من استمرار العمل، مع حزننا معه وربما سقوط دمعة من عين أحدنا على حيرته في الإجابة على سؤال: موقف ابنته الصغيرة التي حرمت من الأب لمدة ثمانية عشر عاماً من أبيها الذي غاب عنها، ورأته يستقبلها في المطار سعيداً ودامعاً لرؤيتها تقدم له أحفاده؟ مثلما نشعر بالرضا والاطمئنان على الرحيل المطْمَئِنّ للرجل الذي يُصرح بابتسامة راضية لمن يسأله عن البقاء: «أنا يا ابن العم، أصلاً عايش زيادة، وأخذت حقي من الحياة».
ومن جهة ختام الرضا الشخصي عن الفعل، في عالم تعاني فيه سوريا من استمرار نظام الاستبداد والفساد، ومن تعدّد الاحتلالات، ويعاني فيه العالم ما يعاني من تدمير البيئة، وإجهاض ربيع الثورات، ودعم أنظمة الاستبداد وقتل الإنسان من قبل أنظمة السيطرة، كما يعاني من تغييب ثوّار الحرية وغيابهم، يمكننا أن نتساءل عن الما بعد، عن مصير العالم، وعن المجهول الذي ألقى رياض الترك في فمه صخرته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية