لبنان يمتهن «الفرص الضائعة» غير آبه بتداعيات السقوط الاقتصادي الحر والتحوُّل إلى دولة فاشلة

رلى موفّق
حجم الخط
0

لم تُبدِّل الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة والمتناقضة مع بعضها البعض حرفاً واحداً في أدائها بعد الانهيار الاقتصادي المالي والنقدي الذي تمرُّ به البلاد. ما زالت تـتَّـبعُ الأسلوب ذاته في إدارة الأزمة رغم معرفتها العميقة بـ«خارطة طريق» الخروج من النفق. فثمة مساران لا ثالث لهما: إما البقاء على النهج المتَّـبع، ما يعني انهيار الهيكل على رؤوس الجميع، أو التسليم بضرورة تصويب المسار الحالي واتّباع نهج آخر يؤول إلى إعادة بناء دولة القانون وسلوك درب الإصلاح والمحاسبة. هذا يعني أنَّ الطبقة الحاكمة قرَّرت ربط حبل المشنقة على عنقها والذهاب برجيلها إلى مقصلة الإعدام. فهل يُعقل أن يذهب سياسيو لبنان إلى التخلّي عن لعبة المصالح والامتيازات الخاصة في الدولة والصفقات المشبوهة وعدَّة الشغل القائمة على «مرِّقلي تـا مرِّقْـلَـك» عند الاتفاق، و«عرقِلِّي تـا عرقِـلَّـك» عند الاختلاف، و«دَافْـنِـينُو سوا» عند الشعور بالخطر على المكاسب أو «الكارتيلات» و«المافيات» المتحكمة بالبلاد، أو محاولةُ أحدٍ من المنظومة الخروج عن خط الاتفاقات المبرمة فوق الطاولة وتحتها؟
وأهمٌ مَن يعتقد أن الممسكين بالقرار سوف يتخلّون عن مصالحهم بهذه السهولة. فـ«تحالف الميليشيا والمافيا» بغض النظر عما إذا كان نتاج ترغيب أو ترهيب، يحاول بشتى الطرق إطالة أمده عبر مقاومة المسار الإصلاحي، وإن وجد نفسه مضطراً تحت وقع ضغوط شعبية داخلية أو سياسية خارجية، فإنه يلجأ إلى تفريغ أي خطوة، كبيرة كانت أم صغيرة، مِن مضمونها الهادف إلى وقف الانهيار ووضع البلد على طريق الإنقاذ.
فلبنان يمضي في سياسة «الفرص الضائعة» بملء إرادة قادته. هكذا فعل حين أخذت حكومة حسان دياب – التي أتى بها «حزب الله» – قراراً بتعليق سداد السندات اللبنانية الخارجية (اليورو بوند) من دون تفاوض مع الجهات الدائنة على خطة إيفاء، وهي المرة الأولى التي يتخلّف فيها لبنان عن السداد، ما أَفقدَه الثقة به، وعزله عن الأسواق المالية، وصعَّبَ دخول الدولارات إلى لبنان. ما قبل ذلك التاريخ، كان البحث مع البنك الدولي وصندوق النقد يتمحور حول إمكانية تقديم مساعدة فنية للبنان في صياغة خطة لإنقاذ الاقتصاد من أزمته. وما زال صندوق النقد هو العنوان إلى يومنا هذا.
بات واضحاً أن حالة الاستعصاء اللبنانية باتت تتطلب نوعاً من وصاية دولية اقتصادية. في واقع الأمر، هذا يعني اللجوء إلى صندوق النقد الدولي. كانت مجموعة الدعم الدولية والدول المانحة للبنان والتي نسَّقت من قبل سلسلة مؤتمرات دعم للبنان منذ زمن رفيق الحريري إلى زمن سعد الحريري وما عُرف بـ«مؤتمرات باريس» وآخرها كان مؤتمر «سيدر» الذي لم تُصرف أمواله نتيجة عدم إيفاء لبنان بما تعهد به من إصلاحات مالية، ونقدية، وإدارية، واقتصادية، وقضائية. وما زالت المطالب القديمة هي نفسها تتجدّد في كل مناسبة، فيما السلطتان التنفيذية والتشريعية، كل مِن موقعه، يعمل على ابتكار طرق التفافية علّه يُفلح في التذاكي على الخارج الراغب بمساندة لبنان إنما ليس بأي ثمن ومن دون شروط.
يقول الخبير الاقتصادي جان طويلة لـ«القدس العربي» إن «المنظومة الحاكمة اختارتِ البقاءَ على نهجها القديم في إدارة الأزمة، بدل سلوك مسار الإصلاح على صعيد الاقتصاد ليعود لبنان إلى خارطة دول العالم وليكون جزءاً من بيئته. فهي أضاعتْ فرصة صندوق النقد والإصلاحات الهيكلية على صعيد السياسات المالية والنقدية وإصلاح القطاع العام. ما يفعلونه هو تفريغ القوانين من البنود الإصلاحية، على غرار ما حصل مع رفع السرية المصرفية، ويحصل اليوم مع «الكابيتال كونترول» وبدلاً من سياسة مالية تؤمِّن الاستقرار النقدي، لجأوا إلى سياسة الدعم العشوائي من جيوب المودعين، وبدلاً من هيكلة القطاع العام، ذهبوا في موازنة 2022 إلى فرض مزيدٍ من الضرائب، وتحميل القطاع الخاص العبء الأكبر لتمويل الزيادات التي أقرّتها الموازنة للقطاع العام. والأخطر أنهم بهذه السياسات يدفعون الاقتصاد الشرعي إلى اللجوء للاقتصاد الموازي لجهة التهرّب من الضرائب وعدم التصريح عن الأرباح وتسجيل الأُجَراء في المؤسسات الضامنة، واعتماد «الأبواب الخلفية» في استيراد المواد الأولية التي ستحرم الجمارك من الرسوم، والخزينة من الضرائب والإيرادات الشرعية، إذ إن القاصي والداني يعلم علم اليقين أن «حزب الله» هو المسيطر على الاقتصاد الموازي والمستفيد منه، وصاحب المصلحة الأولى في ضرب أي اقتصاد مُستدام في لبنان. فاضطرار القطاع الخاص إما إلى الإقفال أو اللجوء إلى الطرق الملتوية، وإلى الاقتصاد الموازي بديلاً للاقتصاد الشرعي، سيؤدي إلى تدمير ما تبقّى من مؤسسات الدولة، وبالتالي سيتحوَّل لبنان إلى دولة فاشلة».
فما أن أكّد مصرف لبنان، قبل أيام، أنه سيبدأ في الأول من شباط/فبراير المقبل، بتطبيق سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار الواحد في ما خص تعاملات البنوك وفق تعاميم خاصة بالسحب للمودعين ودفع القروض المصرفية غير التجارية، حتى التهبتِ السوقُ السوداء (تجاوز الدولار في 19 كانون الثاني/يناير الحالي عتبة الخمسين ألف ليرة). وللمفارقة كانت الخمسين ألف ليرة في كانون الثاني/يناير 2019 تساوي 33.3 دولاراً، وتراجعت في كانون الثاني/يناير 2020 إلى 23.8 دولاراً، وهبطت في كانون الثاني/يناير 2021 إلى 5.95 دولارات، وتدنّت في 2023 إلى 1.8 دولار لتبلغ قيمتها اليوم دولاراً واحداً، والحبل على الجرّار، في ظل الاعتقاد الراسخ بأن مصرف لبنان لن يَقوى في المستقبل على لجم انهيار العملة الوطنية بعدما أضحت قوة المتحكمين في السوق السوداء أقوى من قوته مالياً ونقدياً. في الأغلب، إننا على أبواب الدخول في مدار السقوط الحرّ لليرة اللبنانية ومعه سيدخل البلد في دوامة التضخم.
فالتضخم سيأكل قيمة الدولار البنكي الذي حدده مصرف لبنان، وستتآكل زيادات رواتب القطاع العام بثلاثة أضعاف، والتي هي في واقع الأمر زيادات خجولة أمام الانهيار الاقتصادي، مع العلم أن كلفة المعيشة التي تحتاجها العائلة شهرياً تصل إلى 23 مليون ليرة على الأقل، فيما الحد الأدنى لا يتخطى بضعة ملايين ستذوب مع الغلاء الفاحش للأسعار في بلد يستورد غالبية سلعه الغذائية وغير الغذائية. وأمام الوضع المهترئ، سيعود موظفو القطاع العام إلى الإضراب، وستتعطل مؤسسات الدولة من جديد، وستضطر السلطة إلى رفع الرواتب والأجور من جديد، وإلى فرض ضرائب جديدة لتمويلها، ما سيؤدي إلى موجة جديدة من التضخم وإلى انهيارات متتالية في مؤسسات القطاع الخاص، التي سيلجأ بعضها – حكماً – إلى الإقفال، وسيعمد بعضها الآخر إلى الانخراط أكثر في الاقتصاد الموازي على حساب الاقتصاد الشرعي. إنها الحلقة المقفلة التي سيدور فيها لبنان إلى أن يحصل «حدث ما» يمكنه أن يكسر الحلقة أو يخرق الانسداد.
فقد بدأت التحذيرات من تداعيات السقوط الاقتصادي الحر المعطوف على الأزمة السياسية المتمادية مع تعطل الآلية الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، وبدء تسرُّب الفراغ إلى المواقع العليا في مؤسسات الدولة إذا ما أُرفقت بتصدع الركيزة الأمنية. فحتى الآن، ما زالت الدوائر الدبلوماسية تعتبر أن الوضع الأمني مقبول مقارنة مع حجم الضغوط الاقتصادية والمالية التي يُواجهها لبنان وعبء اللجوء السوري إلى أراضيه، وبالتالي يمكن الانطلاق منها نحو إعادة إحياء الركيزتين السياسية والاقتصادية. غير أن مراقبين يرون أن ما أبقى الركيزة الأمنية قوية هو المساعدات المالية التي تأتي من الخارج للمؤسسات الأمنية، وهذه يمكن أن تتوقف في أي لحظة، ما يعني انهيار المنظومة الأمنية مباشرة، أو اضطرارها للانجرار إلى اللعبة السياسية، كما حصل مع الناشط وليم نون شقيق شهيد فوج الإطفاء جو نون الذي سقط في عداد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020 حيث جرى توقيفه قبل أيام ما أحدث غلياناً سياسياً، وشعبياً، ودينياً، كان يمكن أن يُشكِّل شرارة اضطرابات داخلية لو لم يتم تراجع «القضاء المسيَّس» و«جهاز الأمن المسيَّس» عن المغامرة التي كانا يخوضانها فيما البلاد برمتها تعيش كالجمر تحت الرماد بانتظار لحظة الانفجار.
ما هو لافت، أنّ مؤشرات تحرُّك الشارع تُطلّ برأسها من جديد وسط الانسداد السياسي الداخلي وضبابية المشهد الإقليمي الذي لا يمكن فصل نتائجه عن مسار التطورات اللبنانية. في الواقع، هناك مَن يرى أن صمت اللبنانيين عن المآسي التي يُفترض أنهم يعيشونها ويدفعون ثمنها تراجعاً في نوعية الحياة والقدرات الشرائية وتلاشي الطموحات والأحلام أضحى «لغزاً» يبحث السياسيون عن إجابات ناجعة له من دون أن يُوفّقوا.
يذهبُ البعض إلى القول إن تحويلات المغتربين – التي تُشكِّل راهناً وفق تقديرات مصرف لبنان بحدود 6.5 إلى 7 مليارات دولار سنوياً، وتفوق هذا الرقم وفق تقديرات اقتصادية – هي التي أسهمتْ في مدِّ العائلات اللبنانية بعوامل الصمود، فضلاً عن سياسات الدعم التي كانت متّخذة على مستوى المحروقات والطاقة وحتى بعض المواد الغذائية قبل أن تصبح اليوم وفق سعر السوق وتضغط على جيوب المواطنين، كما أنّ المساعدات الإنسانية، خلال السنوات الماضية قبل الحرب الروسية على أوكرانيا، شكَّلت عاملاً مساعداً في تخفيف انعكاسات الأزمة، فضلاً عن أنّ مآثر الاقتصاد الموازي والتهريب عبر الحدود وتجارة المخدرات والممنوعات، كلها ساهمت في تأمين الأموال لـ«كارتيلات» و«مافيات» وميليشيات، وفي مقدمها «حزب الله» الأقدر من الجميع على إدارة شبكاته ضمن الحدود وخارجها، ولا سيما في ما يتعلق بمناطق وجود النفوذ الإيراني في لبنان مروراً بسوريا والعراق واليمن وصولاً إلى إيران حيث الحرس الثوري الإيراني هو «المايسترو» والمحرِّك لكل الشبكات.
لا شك أن العقوبات الأمريكية و«قانون قيصر» ضيَّـقا الخناق على النظام السوري، وكذلك على «لبنان الرهينة» بوصفه «حديقة خلفية» لنظام بشار الأسد و«محور إيران». ولا شك أن قرار عدم إمداد لبنان بأي أوكسجين مالي قبل الشروع بإصلاحات جدية وقبل ضمان قدر مُعيّن من توازن سياسي في البلاد، يُلقي بظلاله على المشهد الداخلي، ما يمكن معه فهم السقف العالي في كلام الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله عن الحاجة لسلطة سياسية لا تخاف الأمريكيين في رؤيتها الاقتصادية وهباتها واستثماراتها، خصوصاً إذا ما فعلتِ الإجراءاتُ الأمريكية الأخيرة حيال العراق فعلها لمنع تسرُّب الدولار من بلاد الرافدين إلى إيران.
فصحيح أن تبدّل المسار في لبنان يحتاج إلى قرار جريء من الطبقة السياسية، لكن الصحيح أيضاً أن هذا القرار لا يمكن أن يأتي بضغط خارجي من دون أن يستعيدَ اللبنانيون مشهد 17 تشرين أول/أكتوبر 2019 من جديد، ويتوحدوا تحت عنوان واضح وهو القضاء على «منظومة السلاح والمافيا» شرطاً لاستعادة دولة ترتضي الدستور والقانون معياراً للحكم والإصلاح والمحاسبة طريقاً للعدالة وتنتهي من سردية «أي لبنان نريد»، ذلك أنه من غير الممكن أن يُطرح هذا السؤال كل بضعة عقود فندخل في دوامة من الحروب الساخنة أو الباردة وما لها وعليها من نتائج وانعكاسات، من بينها الانعكاسات الاقتصادية التي أضحتْ تُهدد كيان لبنان ووحدته وتركيبته المجتمعية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية