لبنان أمام حلقة جديدة من «التخوين السياسي» والتضييق على الحريات

رلى موفّق
حجم الخط
0

ثمّة قلق يعتري اللبنانيين من أن تكون البلاد أمام حلقة جديدة من التضييق على الحريات السياسية والإعلامية، وحرية التعبير عموماً، إذ بدأت حملات التخوين السياسي المرفقة بتهديدات مُبطّنة لشخصيات سياسية تطفو على السطح مع ازدياد المواقف الرافضة لقرار «حزب الله» الخارج عن إرادة الشرعية اللبنانية ومؤسساتها الدستورية بفتح جبهة الجنوب اللبناني مع إسرائيل تحت عنوان «مساندة غزة» ما قد يجرُّ لبنان إلى حرب مدمّرة.
وتزامن ذلك مع عودة ملف تفجير مرفأ بيروت إلى الواجهة، من باب حدثين اثنين: الأول، إصدار النائب العام العدليّ المكلّف في قضية تفجير مرفأ بيروت صبّوح سليمان قراراً قبل أسبوعين 15 كانون الثاني/يناير، بتعليق تنفيذ مذكرة توقيف في حق وزير الأشغال الأسبق يوسف فنيانوس في هذا الملف. أما الحدث الثاني، فهو استدعاء المباحث الجنائية الصحافي الاستقصائي رياض طوق لاستجوابه الثلاثاء الماضي 23 كانون الثاني/يناير في شكوى تقدَّم بها القاضي سليمان أمام النيابة العامة التمييزية بجرائم القدح والذم والتشهير ضد طوق الذي كان انتقد النائب العام العدلي لتعليقه مذكرة توقيف فنيانوس واتهمه بقبض ثمن هذا القرار مسبقاً من خلال تحويلات مالية قام بها إلى سويسرا عام 2020 في وقت كان القاضي سليمان نفسه، بوصفه محامياً عاماً تمييزياً، يتولى ملف التحويلات المصرفية إلى الخارج التي جرت بين 17 تشرين الأول/أكتوبر و31 كانون الأول/ديسمبر من العام 2019 رغم إقفال المصارف على وقع ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام.
ولم ينتهِ المشهد هنا، بل إن وزارة الداخلية رفعت دعوى أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت ضد المؤسسة اللبنانية للإرسال «محطة الـLBC « لإلزامها بالامتناع مطلقاً عن بث برنامج كوميدي اسمه «مرحبا دولة» الكوميدي، كان من المقرّر عرض حلقته الثانية في 25 كانون الثاني/يناير 2024 بعدما تمّ عرض الحلقة الأولى في 18 كانون الثاني/يناير. واعتبرت الوزارة في حيثيات طلبها أن لحرية الإعلام والتعبير التي يقوم عليها نظام الحكم في لبنان وتكفلها مقدمة الدستور اللبناني سقفاً يتوجب الالتزام به، وهو الحالة التي يتمّ فيها انتهاك سمعة الغير وكرامته، ولا سيما إذا كان هذا الغير هو مؤسسة عسكرية، يكون للمعنويات فيها دورٌ أساسي في أداء المهام، وأي مساس بهذه المعنويات يخلق إحباطاً في صفوف عناصرها. وبحسب كتاب لقوى الأمن الداخلي، فإن عرض الحلقة الأولى من البرنامج قد تضمَّن العديد من الإهانات الموجّهة إلى هيبة الدولة وهيبة قوى الأمن الداخلي خاصة، واستباحة غير مسبوقة في هذا المجال وخرقاً فادحاً للقوانين المرعية الإجراء، الأمر الذي خلق اشمئزازاً وإحباطاً في معنويات هذه القوى التي يقوم عناصرها بأقصى ما لديهم من جهود وتضحيات للحفاظ على الأمن وكرامات المواطن، على الرغم من الظروف المعيشية المرهقة المعلومة.
وفي نظرة الجهاز الأمني التقييمية للبرنامج أنه استباح الحُرَمَ الأخلاقية والمناقبية التي يتوجب أن يتحلّى بها الإعلام المسؤول من تحقير للنشيد الوطني وارتداء بزات عسكرية واستعمال مركبات مماثلة لتلك التي تستعملها قوى الأمن الداخلي، مخالفاً بذلك عدة قوانين، مُعَرِّضاً المحطة التلفزيونية للملاحقة الجزائية نتيجة الإساءة التي تقوم بها تجاه الدولة ومؤسساتها. وأنّ الإعلانات الترويجية للحلقة الثانية تُؤشِّر إلى أنها ستتضمن الكثير من الإهانات الموجّهة لقوى الأمن الداخلي، ومعنويات المؤسسة وأفرادها، كما لسمعة الدولة، ما يُبرِّر تدخل قضاء العجلة لوجود خطر داهم وعجلة قصوى تحتّم اتخاذ أمر بوقف بث البرنامج بأية وسيلة كانت.
قد لا يكون من العادة تناول الأجهزة الأمنية بهذا الشكل الساخر عبر برنامج تلفزيوني كوميدي، ولا تكون برامج الإعلام الترفيهي النقديّ الساخر على غرار الإعلام الأجنبي مألوفة بقالب تمثيلي، لكن قاضية الأمور المستعجلة كارلا شواح ردَّت الاستدعاء، معتبرة أن التدبير المطلوب اتخاذه بالمنع المطلق لا يستقيم قانوناً، ولا سيما من قبل قضاء العجلة. واستندت إلى أن حرية التعبير، قولاً وكتابة، هي حق أساسي من حقوق الإنسان وكرَّسها الدستور، وأنه من الراسخ قانوناً واجتهاداً أنّ الإعلام هو مدماك رئيسي في ممارسة الحق في التعبير بحرية، ويُعتبر ضمان هذه الحرية في جميع أنحاء العالم أولوية، وتُعدُّ وسائل الإعلام المستقلة والحرة والتعددية أساسية للحكم الصالح في الأنظمة الديمقراطية. كما أنّ حرية الإعلام في نقل الخبر أو الكلمة أو الفكرة الحرّة، ومنها الأعمال الفنية ونشرها بأي وسيلة أو طريقة كانت، سواء من خلال الأخبار الجادة الثقيلة أو من خلال أشكال الوسائط الترفيهية، هي جزء لا يتجزأ من الحق الأساسي في حرية التعبير، وتُشكِّل ضمانة لحرية الجمهور في المعرفة وهي من الحقوق الأساسية والواجب حمايتها، معتبرة أن منع وسيلة إعلامية من عرض وبث مُنتج إعلامي إنما من شأنه التعرُّض للحقوق والحريات السياسية المكرَّسة لها في المواثيق والمعاهدات الدولية والدستور اللبناني.
الجولة الأولى من المواجهة انتصرت فيها القاضية للبرنامج الذي تمضي المحطة في عرضه، وإن كان مضمون الاستدعاء لوَّح بالاتجاه للمقاضاة الجزائية. بالطبع في لبنان، هناك «المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع» الذي أُسِّس بعد تشريع قنوات إذاعية وتلفزيونية خاصة، لكنه ليس فعالاً شأنه شأن البلاد الواقفة على فالق الانقسامات السياسية والطائفية، ويحتاج إلى تحديث مثل الكثير من المؤسسات الرسمية، وهناك وزارة إعلام وقانون إعلام ومشاريع طموحة لتطويره وهناك محكمة مطبوعات، ولكن أيضاً هناك دولة أقرب إلى أن تتحوّل إلى دولة فاشلة، حيث قطاعها العام يَئنُّ من الانهيار المالي ما يجعل مؤسسات الدولة مشلولة وحيث السلطات الدستورية معطلة، وتبدو في أجلى صور الضعف، وحيث «الدويلة» تأكل الدولة وتغذّي كل المستفيدين منها إلى أي جهة أو طائفة انتموا.

ضيق صدر «محور إيران»

قبل أسابيع نشر رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة مقالاً مشتركاً والنائب الأسبق باسم الشاب في «الواشنطن بوست» حول «حرب غزة» اعتبر فيه أنه لا بدّ من أن تُشكّلَ النهاية النهائية للحرب التي تشنها إسرائيل في غزة حافزاً للسلام الشامل مع العالم العربي على أساس حلّ الدولتين، وأنه وعلى الرغم من ضراوة ووحشية القصف والخسائر الفادحة التي تحصد أرواح عشرات الألوف من المدنيين الأبرياء في غزة، فإنّ هناك – وعلى نطاق واسع في العالم العربي – مَن يعتبر أنّه لا يزال صراعاً ما بين إسرائيل وحركة «حماس». وتطرَّق فيه إلى أنّ الإسرائيليين يعرفون جيداً أنّ إيران ووكلاءها يُشكلون تهديداً مماثلاً أو حتى أكبر للدول العربية، وأن الفهم المشترك العربي-الإسرائيلي للصورة الجيو-استراتيجية الإقليمية يمكن أن يُشكِّل عنصراً داعماً لما يُسمى «الاتفاقات الإبراهيمية» التي في جوهرها يجب أن تدعو إلى تحقيق السلام العادل والشامل والدائم. وختم المقال بالإعراب عن اعتقاده بأنّ يد العالم العربي ممدودة إلى إسرائيل. ومن المفيد للقيادة الإسرائيلية التي يُفترض بها أن تتمتع ببُعد النظر والحكمة والتبصّر أن تردَّ بالمثل، وأن تبدأ العمل مع شركائها على صياغة سلام حقيقي دائم، وعادل، وهادف، ومُنصف.
استفزّ مقال السنيورة الأذرع الإعلامية لـ«حزب الله» و«محور إيران». فكان أن شنّت جريدة «الأخبار» هجوماً على السنيورة أدرجته في خانة «العرب المتصهينين»، أولئِك الذين لا يُمانعون طمأنة إسرائيل حول رغبتهم في التصالح معها مهما عظمت وحشيّتها ضد الشعب الفلسطيني. وموقف «المحور» هو أنّ مشكلة السنيورة ليست في أصل موقفه فقط، بل في طريقة تفكيره وكيفية فهمه لما يجري. وهو الذي يُسخِّف مثلاً دور المقاومة في لبنان، ولا يرى من داعٍ لمواجهة العدو، فإنه يخاطب إسرائيل بأن تتصرَّف على أنّ مَن قام بعملية «7 أكتوبر» إنما يستهدف السلام معها. واعتبرت أن تلك المقالة سيذكرها تاريخ لبنان كما يذكر شهادات إميل إده وأغناطيوس مبارك في نصرة الصهيونيّة.
يضيق صدر «محور إيران» في لبنان بما لا يكون مطواعاً. فهم ذاقوا الأمرّين من السنيورة حين تولى رئاسة مجلس الوزراء بعد الانتخابات النيابية عام 2005، حيث لم يقبل يومها بأن يتنازل عن «الثلث المعطّل» لفريق «8 آذار» مهما كان الثمن، وحكومته هي من خطّت النقاط السبع التي شكّلت مرتكزات القرار الدولي 1701 لوقف «حرب تموز» 2006 بين إسرائيل و«حزب الله» والذي يعود المجتمع الدولي اليوم للمطالبة بالالتزام الكامل بتطبيقه، كسبيل لوقف الحرب الدائرة على جانبَيْ الحدود.
الرجل اليوم ليس في دائرة القرار الرسمي، ولكن كلامه مُزعج. وختمت الجريدة هجومها عليه بأنه قد ينال على مقالته في صحافة الغرب جائزة «رجل الدولة» من «مؤسّسة واشنطن» (الذراع الفكريّة للوبي الإسرائيلي). وقد يتلقى عروضاً للعمل في هذا اللوبي أو تلك المنظّمة في العاصمة الأميركية، فـ»خذوه، مباركٌ عليكم».

الجيوش الإلكترونية

لكن الحملة جاءت أعنف وأكثر شراسة، تلفّها لغة التهديد لرئيس «حزب الكتائب» النائب سامي الجميّل، الذي يُشكِّل جزءاً من المعارضة ذات السقف المرتفع، ويقف في مواجهة سيطرة «حزب الله» على قرار السلم والحرب في لبنان. يعيش في عائلة دفعت ثمناً لعملها السياسي، فحزبه من الأحزاب التي شكّلت «المارونية السياسية» وأوصلت رئيسين إلى سدّة الرئاسة: بشير الجميّل في العام 1982 الذي اغتيل قبل أن يتسلّم الحكم، وأمين الجميّل الذي انتُخب بعده، و«حزب الكتائب» الذي كان جزءاً من «ثورة الأرز» التي جاءت في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري طالته الاغتيالات، حيث سقط له بيار أمين الجميل (شقيق سامي) والنائب أنطوان غانم، وكان الاتهام السياسي موجهاً حينها إلى المحور الذي يقوده «حزب الله». قال الجميّل: إن «الرسالة وصلت، لكننا لا نخاف».
وقبل أيام طالت الحملة، على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمين العام السابق لقوى «14 آذار» النائب الأسبق فارس سعيد الذي يترأس «المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان» وهو مجلس يضمُّ مجموعة من السياسيين الذين كانوا من ضمن قوى «14 آذار» وناشطين، غالبية أنشطتهم تتركز على مناقشة التطورات وإصدار بيانات. جرى وضع صورته على علم إسرائيلي كُتب عليه «المجلس الوطني الصهيوني برئاسة فارس أنطوان سعيد وعائلته الصهيونية في تل أبيب لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان». يُزعجهم سعيد الذي يُقارع نفوذ «حزب الله» في منطقته جبيل في جبل لبنان وعلى مساحة لبنان، ولا يكلُّ ولا يتراجع عن الدفاع عن دور لبنان وأهمية الحفاظ عليه وعن تمسكه بالدستور و«اتفاق الطائف» وقرارات الشرعية العربية والدولية. إزاء الحملة عليه، ذهب مباشرة إلى «الرأس» فكتب على التويتر في رد على الصورة: «هذا الإعلام يُشجعه ويرعاه «حزب الله» وسأتقدّم بدعوى جزائيّة ضد نواب من فريق «الحزب» (لأن ليس لـ«حزب الله» صفة قانونية لدى الدولة) حماية لحقي، وحتى يتحمّل «الحزب» مسؤولية أي ضرر معنوي أو جسدي يلحق بي. وأتمنّى على الجميع تجنيب الساحة الوطنيّة مزيداً من التشنّج… والله وحده يُدبِّر أموري».

قضية المرفأ إلى الواجهة

وفيما الانقسامات السياسية والفوضى القضائية ساهمت في تعطيل التحقيق في تفجير مرفأ بيروت المكلّف به قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار، والذي تلقّى ضربة بقرار النائب العام غسان عويدات إطلاق سراح جميع المحتجزين في القضية، جاءت ضربة جديدة للملف بتعليق النائب العام العدلي صبوح سليمان مذكرة توقيف الوزير يوسف فنيانوس، والتي كان أصدرها القاضي بيطار، وبقيت دون تنفيذ. واكتشف اللبنانيون أن المحامي العام التمييزي عماد قبلان قد أوقف منذ أشهر، قبل إحالته على التقاعد، مذكرة التوقيف الغيابية الصادرة بحق الوزير السابق علي حسن خليل، ما أعاد إلى الواجهة هذا الملف، وإنْ زاد الاعتقاد يوماً بعد يوم أن مصيره لن يكون سوى الحفظ في الأدراج، مهما كان تداعيات هذا التفجير كبيرة.
لا رابطَ سببياً بين التحويلات المالية للقاضي نصوح سليمان إلى الخارج وقراره بتعليق المذكرة، في رأي عارفين. ولكن الصحافي طوق، الذي يُتابع ملف المرفأ بعمق ويُدرك خفايا كثيرة فيه، استخدم مستنداً بيده يُدين القاضي ليس قانونياً لأن التحويلات المالية قانونية، إنما أخلاقياً، حيث إنه حوَّلها خلال أزمة المصارف والمودعين. يقول عارفون إن طوق أصاب سليمان في البعد الأخلاقي والمعنوي ولا سيما أنه تولى شخصياً ملف التحولات المصرفية إلى الخارج، والاتهامات له تذهب إلى أنه ساهم، كما الطبقة السياسية والمالية والمصرفية، في تمييع الملف.
قدّم مكتب الادعاء بقضية تفجير المرفأ في نقابة المحامين اليوم طلب ردّ القاضي سليمان على خلفية قراره الأخير، لكن في ظل الفوضى القضائية والمتاهات والتعقيدات السياسية وتلاشي كل مقومات الدولة، تغيب كل الآمال بغدٍ أفضل، وأقصى الطموحات اللبنانية أن يمرَّ لبنان دون قطوع الحرب المدمرة وعودة الاغتيالات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية